تعرف على الكاهن الشهيد القديس ماكسمليان كولبه الفرنسيسكاني
تاريخ النشر: 14th, August 2023 GMT
تحتفي الكنيسة الكاثوليكية اليوم 14 أغسطس بذكرى وفاة القديس ماكسمليان كولبه الفرنسيسكاني، الكاهن، شهيد معتقلات النازي.
وُلِدَ " ماكسمليان ماريا كولبه" في 7 يناير 1894م بپولندا، إلتحق بالمدرسة الإكليريكية في عام 1907 ولبس ثوب الرهبنة الفرنسيسكانية الأسود (زِي التدريب) عام 1910 م، ثم رُسِم كاهناً في روما في يوم 28 إبريل عام 1918م ، بعدها عاد إلى بولندا بعد إنتهاء دراسته عام 1919 ، بعدها قضى عام 1920م كاملاً في إحدى المستشفيات نظراً لتدهور صحته.
النشاط:
بدأ نشاطه الحقيقي عام 1922 عندما أصدر صحيفة "فارس النقيّة" الشهيرة ويقصِد بالنقيّة العذراء مريم التي كانت تمثل له الإرشاد والحنان وفي عام 1927م، أنشأ "مدينة النقيّة" وهي عبارة عن مستشفى و مكان للتعليم المسيحي، يقع مقرّها بالقرب من (فرسوڤيا) في پولندا.
حمل الصليب:
سارت حياة الأب مكسمليان على هذا النحو الهادئ حتى يوم 17 فبراير 1941م، عندما توقفت سيارة سوداء أمام باب "مدينة النقيّة" فلمحها أحد المقيمين في المدينة وعرف بالطبع أنها سيارة البوليس السِرّي النازي حيث كانت پولندا في تلك الأيام تحت الإحتلال الألماني النازي، فتم إبلاغ الأب مكسمليان بالأمر فإضطرب في البداية لكنه إستجمع شجاعته وقال: ((يحسُن بي أن اذهب إليها أَفَلا أَشرَبُ الكَأسَ الَّتي ناوَلَني أَبي إِيَّاها!)). خرج الأب مكسمليان لملاقاة القادمين وبادرهم بالسلام الرهباني: ((السلام لكم من يسوع المسيح)). عندها صاح به احدهم: ((أأنت ماكسمليان كولبه؟)).
فاجابه: ((نعم أنا هو)). فدفعه الجندي قائلاً: ((إذاً تعالَ معنا)). وأخذوا معه أربعة من الكهنة، لم يبقى منهم على قيد الحياة بعد فترة الإعتقال سوى إثنين، كان ذلك من أجل العداء الذي يبرزه النازي نحو اليهود، والذي لا يعادله في المقدار سوى كراهية أخرى للإكليروس والمكرسين المسيحيين، لذلك يوجد عدد لا يمكن حصره من شهداء الكنيسة في معتقلات النازي. هنا ألقى الأب مكسمليان النظرة الأخيرة على "مدينة النقية" قبل ركوب السيارة .. رأى إخوته الرهبان القائمين عليها معه والدموع تملأ عيونهم فباركهم من صميم الفؤاد وهو على يقين من أنها آخر مرة يلتقي بهم بالوجه. وترك مسئولية رعاية المدينة لشفيعته العذراء مريم.
إعتُقل مع إخوته الرهبان الأربعة في البداية بسجن (بارياك)، واُلْقيَ الأب ماكسمليان كولبه في الحجرة 103 فلم يطل به الوقت حتى إكتسب قلوب السُجناء حيث كان يستمع لشكواهم ويزيل عنهم الكثير من التعب بإعطاء الأمل في رحمة الله وتوصيل تعزياته للمسحوقين بالتعب والإضطهاد والمخاوف ، كذلك قام بأخذ اعترافاتهم لإزاحة الهموم الروحية عن قلوبهم وتمكينهم من التنعُم بالسلام الداخلي وراحة القلب، كما عوّدهم الصلاة الجماعية والشخصية. كان ذلك قبل بداية عرض المعتقلين الجُدد على قيادة المُعتقَل.
حَلّ أوان العَرض والتفتيش، حينها وقعت عينا أحد الضباط على الأب ماكسمليان بثوبه الرهباني فاغتاظ وأمسك بالمسبحة المُعَلّقة في زنّاره (الحبل المعقود رمز الرهبنة الفرنسيسكانية) وانتزعها بعنف صائحاً: ((أيها الكاهن المعتوه، أمازِلت تؤمن بهذا؟!!)). وأشار إلى الصليب المُعَلّق في نهاية المسبحة. فأجاب الأب ماكسمليان بهدوء وثِقة: ((نعم أؤمن)). فصفعه الضابط بحِدّة ثم جاد عليه بصفعة أخرى، فبدأ الأب ماكسمليان ينزف من فمه.
بعدها عاد الضابط ليسأل: ((إذاً هل تؤمن أيضاً؟)). فأجاب: ((نعم .. أؤمن)). فانهالت الضربات على الأب ماكسمليان مصحوبة بالسِباب والألفاظ البشعة والكلمات الشائنة حتى أضحى وجهه أبيض كالأكفان ، وهو يحاول أن ينهض بعد كل ضربة بمزيد من الجهد مستمرّاً في المواجهة الصامتة البليغة. فعاد الضابط يسأل: ((والآن أمازلت تؤمن أيضاً؟!!)). فأجاب الأب ماكسمليان: ((نعم .. أؤمن)). فأخذه طاقم الحراسة ليصبّوا عليه غضبهم فتبادلوا ركله بأحذيتهم الغليظة حتى أفقدوه الوعي وتركوه فبدأ رفاقه بالزنزانة بمحاولة إفاقته.
إستعاد الأب ماكسمليان وَعيه تدريجياً وأخذ يهدِّئ من رَوع رفاقه بينما تورّم وجهه، وحاول الكلام بجهد جهيد فقال: ((إفرحوا معي ولا تغتمّوا فإني أتألم من أجل من تألم من أجلي، إفرحوا معي كما أن أمّي مريم النقية فَرِحَةٌ بي)). و تَدَخّل الأطباء المُعتقلين الذين عينتهم سُلطة الإحتلال لمراقبة مستوى تدهور صحّة زملائهم من المُعتقلين، وسَعوا في نقل الأب ماكسمليان إلى غرفة التمريض.
لم يستطع الأب ماكسمليان مُكاتبة أبناءه وإخوته في مدينة النقيّة إلا في النادر وبإيجاز وعلى بطاقات بريدية صغيرة تمرّ أولاً على إدارة المُعتَقَل لفحصها قبل الموافقة على إرسالها وكانت رسائله تحتوي على طلبه لبعض الأوراق والثياب وبين هذه الكلمات والمطالبات العادية كان يضع جُمَل غير مرتبة نابعة من أعماقه و التي لا يريد أن يفهمها أحد سوى تلاميذه و أبناءه في مدينة النقيّة مِثل: ((أحاطتنا دائماً النقية، الأم الجزيلة الحنان، بالصلاة والسهر الدائم صلّوا معها و لا تملّوا))
وأيضاً كتب يقول: ((لماذا يخالجكم الهَمّ، أبنائي الصِغار؟! لنترك أنفسنا مُنقادة للفادي، فيذهب بنا حيث يشاء لتخليص النفوس و تعميق الحُبّ)). كانت هذه آخر رسائل الأب ماكسمليان في 12 مايو. بعدها ببضعة أيام، نُقِل الأب ماكسمليان مع عدد غفير من السُجناء إلى المُعتَقَل (أوشفيتز). أما السجناء فكانوا يطلقون عليه معتقل الموت رُعبَاً فقد لقى فيه أكثر من 5 مليون معتقل مصرعهم إما في التعذيب أو الإعدام.
لم تكن أفران الغاز تنطفئ في هذا المُعتقل ليل نهار فإما أن يتم الإلقاء بالمُعتقل حيّاً فيها إذا كان يهودياً أو يلقى فيها بعد وفاته إذا كان من أعضاء الكنيسة البارزين حيث تدرس لجنة من المختصين في إنتاج سماد عضوي رخيص الثمن من رمادهم!!. وقد أحرزت تلك اللجنة تقدُّم كبيراً بزيادة معدلات الإبادة الجماعية، فكان السجين يفقد كل أمل في الحياة، إذا وطئت قدماه أرض هذا المُعتَقل الجهنمي. وماذا نقول عن المناهج المؤدية لموت محتوم لا فرار منه؟ فهناك الجوع الدائم المُضْني يمزق الأحشاء وينفي النوم من العيون وهناك البرد القارس الذي يجمد حركة الدم في العروق وهناك أنواع المضايقات والتحقير التي تطعن إنسانية الإنسان في الصميم وتجعل منه مَسْخ مُشوّه .. أما عن الكهنة فهُم في الطبقة القبل الأخيرة من طبقات المنبوذين والمُضطهدين في المُعتقل لا يأتي بعدهم سوى اليهود. لذا فهُم يعاملون بالذُلّ والعار كالماشية فيقومون بأشقّ الأعمال والسياط تحرث ظهورهم ووجوههم أيضاً.
إنضم الأب ماكسمليان لفرقة الذلّ هذه دون مُراعاة لحالته الصحّية كما أنها كانت تحت إدارة الوحش النازي "رالف كروت" المُلقّب بالسفاح، وكانت مهمة الفرقة على مدى إسبوعين نقل جذوع الأشجار الضخمة وبمنتهى السرعة، والويل لمن لا يستطيع الجري المتواصل أثناء حمل هذه الأحمال الضخمة إذ ليس أمامه سوى تلقّي فيض السياط المُنهال من رالف كروت وهذا كان قَدَر الأب ماكسمليان الدائم نظراً لإعتلال صحته. يروى الأب "سويدا" – أحد الكاهنين اللذان خرجا على قيد الحياة من المعتقل - أحداث المرّة التي فقد فيها الوعي حتى ظَنّ كروت أنه مات فتركه بينما حمله زملائه لمستشفى المُعتَقَل حيث يرقد كل ثلاث أو أربع مرضى على فراش واحد دون أي تعامُل طِبّي وهناك اختار الأب ماكسمليان أسوأ مكان في المستشفى حيث يتمكن من رؤية الموتى الخارجين من المستشفى إلى الأفران فيصلّي من أجلهم فرداً فرداً ويباركهم. مما أثار دهشة الحرس والمرضى لإهتمام هذا الرجل المُحْتَضِر والمتدهور الحال بأحوال غيره من الأحياء والأموات. فكان يبدِّد حيرتهم بقوله: ((مستعد أنا للتألُم من أجل المسيح أكثر مما أُقاسي الآن، والنقيّة تساندني بصلاتها بقوة)
ويُكْمِل ألأب سويدا روايته عن الأب ماكسمليان إذ كان معه أيضاً في المُستشفى قائلاً: في إحدى الليالي القاسية أشفق عليه أحد الأطباء وهو أسير أيضاً، فحمل إليه خِلْسَة كوباً من الشاي، وهو ما يحلُم به المرضى في ذلك المستشفى ليقمعوا عطشهم، فرفض الأب ماكسمليان قائلاً: ((الآخرون هنا لا ينعمون بنظيره، إذاً لا يحقّ لي التفرُّد بهذا الإنعام، فإما ان أشربه معهم أو لا أشربه)). وإذا ما هبط الليل كان المرضى يزحفون إليه في الظلام رغم تهديدات الحرس لهم بالعقاب فيعترفون لديه بخطاياهم ويُدخِلهُم للفرح الروحي بالخلاص لتتعزّى قلوبهم ويحتملوا العذاب بفرح وصبر.
في سرب الأعِلاّء لفترة مؤقتة:
بقى الأب مكسمليان بالمستشفى إسبوعين ثم إنضم بعد خروجه لـ "سِرب الأعِلاّء" أي الذين لا يصلحون للعمل ولذلك فهُم يأخذون ما مقداره النصف من التعيين (الطعام) المخصص للمعتقلين العاملين وكثيراً ما كان يتنازل عنه الأب ماكسمليان لأي معتقل يعاني الجوع الذي يدخله في سكرات الموت.
حافظ الأب مكسمليان على هدوءه في هذا الجحيم فلم ييأس ولم ينهار ولم تضعُف قوته الروحية رغم ضعف جسده النحيف، ورغم يقينه من أنه لن ينجو حيّاً من هذا المكان المُوحِش، بل وكان أيضاً يشدِّد عزم الكهنة الشباب ويحثهم على إبقاء الأمل في الخروج والعمل كمُبشّرين وسفراء المسيح داخل المُعتَقل وخارجه. كان يستطيع الحديث عن الشئون الروحية والعقائدية بحماس كان يشوِّق حتى المُهمشين روحياً فيُنسيهم همومهم.
حاول رفاقه جاهدين أن يقنعوا القائد كروت بإبقاء الأب مكسمليان في سرب الأعِلاّء، إلا أن نقله للفرقة الرابعة عشر كان أمراً محتوم ليواجه المحنة الكبرى.
الوصول للجلجثة والاستشهاد:
في أواخر يوليو 1941 نجح أحد المُعتقلين في الهرب من المُعتقل وهو ضمن الفرقة التي ينتمي إليها الأب ماكسمليان فأخذ أعضاء الفرقة الرُعب من بطش مدير المُعتقل "فريتش" الذي كان قد أصدر قراراً سابقاً بالحكم بالموت جوعاً وعطشاً على 10 من أفراد الفرقة التي ينجح أحد أعضاءها في الهرب من المعتقل. نعم أصابهم الهلع رغم تعرضهم للموت كل يوم وإشتياقهم له مراراً مع إحتدام الألم والحزن. إلا انهم يهابون الموت جوعاً وعطشاً بعد أيام من النزاع الرهيب أكثر من هيبتهم من الموت الخاطف برصاص الحرس أو بالسقوط موتاً من التعب والمجهود الزائد.
عَلم فريتش بأمر الهروب و صرف كل الفرق لعملها بإستثناء الفرقة الرابعة عشر حيث أمر بإيقافهم في الحرّ الشديد وتحت أشعة الشمس الحارقة بلا ماء بينما يراقبهم الحرس من تحت المظلاّت إلى حين يتم التأكُد من اختفاء الهارب أو أن يتمكن الجنود من القبض عليه وإعادته للمعتقل، ظلّ الحال هكذا لساعات حيث بدأ يتساقط أفراد الفرقة الواحد تلو الآخر فاقدين الوعي لا يشعرون بشئ رغم سيل الضربات التي يوسعهم بها الجنود فيتم إلقاءهم فوق بعضهم البعض على الرمال. أما الأب مكسمليان فظلّ واقفاً كالرُمْح لم يفقد رشده وهو ذلك المريض الهزيل الذي سلَّم الأطباء في شفاءه مِراراً، لكنه شعر بداخله برغبة في إستقاء كأس العذاب حتى النهاية مع المسيح قائده.
في حوالي الساعة الثالثة أمر لهم القائد بالراحة لتناول تعيين الغذاء وكانت الوجبة الأخيرة حيث ثبت فشل الجنود في جهود العثور على المعتقل الهارب. هنا دعا فريتش كل فرق المعتقلين ليروا ما سيحدث للعشرة المختارين للإعدام من فرقة الهارب فيأخذوا عبرة ولا يتواطئوا مع من يود الهرب.
استقرّ فريتش على اختيار عشرة للإعدام لم يكن الأب مكسمليان منهم ولما فرغ من الإختيار صرخ أحد المُختارين صرخة الحزن واليأس قائلاً: ((آه يا إمرأتي المسكينة ويا أولادي الصِغار التعساء .. لن أراكم ثانية .. لا أعلم ما تحمل لكم الأيام)). خلع المحكوم عليهم أحذيتهم لأن قانون الإعدام ينصّ على أن يسير المحكوم عليه حافي القدمين حتى يصل إلى القبو الذي سينتظر الموت فيه، وهو عبارة عن حجرات ضيقة مظلمة شديدة الرطوبة لا تتسع إلا لشخص واحد. عاد الرجل ليبكي زوجته و أولاده و بينما هم سائرون نحو صناديق الموت هذه، إذا بالجميع يفاجئون بالأب مكسمليان تاركاً صفّه في الفرقة وسائراً نحو القائد فريتش، هنا سحب فريتش مسدسه قائلاً: ((ماذا يريد هذا الخنزير الپولندي مِنّي؟!)). فتكلم الأب مكسمليان بهدوء قائلاً: ((أود أن أموت بديلاً عن أحد هؤلاء المحكوم عليهم)). فنظر إليه فريتش مذهولاً لأنه سمع ما يفوق إدراكه .. فهو الذي لا يحتمل إعتراضاً ولا يرجع في قراره ولا يجد أي متمرد ردّاً منه سوى طلقة من مسدسه، قد صار الآن في حيرة من أمر هذا الرجل الهادئ الذي بهدوءه يروضه كما تروَّض الوحوش، في هذه اللحظة أضحى الأب مكسمليان الآمر الناهي.
فسأله فريتش: لماذا؟
فعمد الأب مكسمليان إلى سياسته الحكيمة النافذة مُتحاشياً كل ما يثير الحُنْق والإمتعاض، لئلا يفشل، وأجاب مُلَمِّحاً إلى أحد البنود الألمانية الغير مكتوبة، والذي يدعو إلى التخلُص من الأجساد الهزيلة المعلولة فقال: ضعيفاً أنا ولا أصلُح لشئ، وحياتي ليست مفيدة
فعاد فريتش يسأل: (وأيًّ منهم تريد الموت بدلاً منه؟)
فأجاب: مكان هذا الذي يندب زوجته وأولاده وأشار إلى الرجل وهو شاباً يدعى "جاجونيكزك" وقد كان ملازماً بالجيش الپولندي.
هنا تغلَّب الفضول على الوحشية في قلب فريتش فقال للأب مكسمليان: ((من أنت؟!)). فأجاب: ((كاهن مسيحي كاثوليكي)) نعم كاهن يريد أن يموت كاهناً، ولأنه كاهِن مؤتمَن على أرفع الودائِع جسد ودم الفادي الإلهي وعلى حِلّ مغفرته، فهو أيضاً مؤتمَن على خِراف سيده ومُعلمه أيضاً. فسمح له بالمبادلة، ليخلع الأب مكسمليان حذاءه ويأخذ مكانه في مؤخرة الصَفّ كالراعي خلف قطيعه ليُشَدِّد عزم المحكوم عليهم معه ويعزيهم بالصلاة التي كان يتلوها بصوت خافت على أسماعهم.
دخل الأب مكسمليان والتسعة الآخرون يوم 30 يوليو 1941 إلى الزنزانات أو الصناديق الأسمنتية الصغيرة وكان سُمْك الجدران لا يمنع صرخات المنازعين الذين سبقوهم إلى هذا العقاب البشع وصدرت الأوامر للمستجدين بأن يخلعوا ملابسهم فاستحضر الأب مكسمليان صورة الفادي الحبيب عندما عُلِّق على الصليب عارياً وقام بخلع ملابسه فرحاً بإشتراكه في أحد تفصيلات عذابات المسيح التي لا شبيه لها في شدتها.
إتضح للألمان بعد قليل أن شيئاً جديداً وغير معهود قد جرى في صناديق الموت هذه. حيث لم ترتفع أصوات التوسُل للعفو أو إصدار الشتائم واللعنات عليهم، بل كانت تصدر فقط أصوات ترنيم وتسبيح بادئة من زنزانة الأب مكسمليان لتنتشر بين رفاقه وتعطيهم الصبر وتنقلهم إلى عالم السموات وتبعث فيهم الشوق إليها.
بمرور الأيام بدأت قوى السجناء العشر تخور، فيروي لنا شاهد عيان ظلّ على قيد الحياة يدعى "بورجويك" وهو من المُعتقلين وقد استخدمه الألمان لنقل الجثث الهامدة من زنزانات الموت كل يوم ، حيث لم يجرؤ الألمان على المُجازفة بصحتهم بدخول صناديق الموت العَفِنَة الموبوءة، فأعطوا هذه المهمة لهذا الشاب الپولندي الأسير. ومما رواه بورجويك أنه كان يشاهد الأب مكسمليان عند فتحه الزنزانة كل يوم مُنتصباً أو راكعاً يصلّي بصوت مرتفع فيما انطرح أقرانه في باقي الزنزانات الأخرى كأنهم خِرَق مشوهة ويستطرد قائلاً: ((لقد بدىَ المحكوم عليهم في الأيام الأولى غارقين في الصلاة، لا يسمعون حتى صوت الباب عند فتحه وبعد ما يقارب الأسبوع، رأيت بعضهم يدنون إليَّ باكين يطلبون قطرة ماء لتبريد أحشاءهم المُشتعلة، إلا أن الأب مكسمليان بدى مُرتاحاً حتى النهاية، فلا يسأل شيئاً، ينظر إلى جلاديه في هدوء و لم يكن الجلادون يحتملون نظراته فيصيحون به قائلين: ((لم نرى رجلاً كهذا
مرت الأيام، والمعتقلون في (أوشفيتز) يصلون من أجل المنازعين، وهُم يراقبون خروج الجثث كل يوم من صناديق الموت. وقد صرّح أحد شهود العيان قائلاً: ((أنقذ الأب مكسمليان بتضحيته حياة كثير من السجناء، لأن الألمان صاروا أقل وحشية تجاه المعتقلين أثناء العمل، فلم يعودوا يجلدوهم بقسوة كما كان يحدث في السابق هي صلاة الأب مكسمليان قد ألانت القلوب الحجرية)). ومنذ خريف 1941 أي بعد وفاة الأب مكسمليان بشهر، أضحَت الحياة في المُعتَقَل أقل قسوة ، فكان المعتقلون القُدامى يقولون للجدد عند تزمرهم: آه، لو عشتم هنا العام الماضي لتصورتم الآن أنكم في نزهة
تسليم الروح:
نعود لنرى الليلة الأخيرة في حياة الأب مكسمليان كولبه، حيث جاءت عشية عيد إنتقال العذراء مريم بالنفس و الجسد ( 14 أغسطس 1941) ولم يبقى حول الأب مكسمليان سوى ثلاثة من الأحياء، و هو الوحيد بينهم الذي لم يفقد وعيه بعد. لكنه لم يعد قادراً على الوقوف أو الركوع ، لذلك طفق يصلّي جالساً، لقد سرّح قطيعه إلى السماء الواحد تلو الآخر، والثلاثة الباقون فاقدي الوعي وفي طريقهم للمثول أمام الله لقد أنهى الراعي عمله واستحق أن يستريح. يحكي لنا بورجويك عن هذه الساعة قائلاً: ((كان الأب مكسمليان يصلّي عندما دخل عليه الجند ليجهِزوا عليه بحقنة (ليثيل) تعجِّل بموته، فلما رأى الحقنة مَدّ ذراعه مُتشجِّعاً عندها هربت أنا إلى خارج الزنزانة حتى لا أشاهد هذه القسوة والبشاعة .. كيف يسمحون لأنفسهم بقتل رجلاً كهذا؟
وعندما عاد بورجويك ليرى هل مات الأب مكسمليان أم لا، وجده منحني الرأس قليلاً مستنِد إلى الحائط، وعيناه منفتحتان جميلتان، تنظران إلى نقطة معينة من الزنزانة وكأنه كان يرى رؤيا واستطرد بورجويك: لن أنسى ما حييت هذا المشهَد
بكى جميع المعتقلين وأولهم "فرانسيس جاجونيكزك" الذي افتداه الأب مكسمليان عند سماعهم نبأ وفاته وعبثاً حاولوا الحِفاظ على جسده الطاهر، فقد تم إحراقه كغيره من الأجساد في الأفران الكيميائية التي لا ينقطع دخانها ليل نهار.
مات الأب مكسمليان في عشية عيد إنتقال مريم العذراء التي كانت مَهْوَىَ فؤاده، والتي أطلق أسمها على الصحيفة التي أصدرها والمدينة التي أنشأها للخدمات قضى فترة الصوم بإرادته في إنقطاعاً لا نهاية له فلم يأخذ كِسْرَة خبز أو قطرة ماء فنقلته هي إلى أجواء إبنها السماوية.
جاءت لتأخذه في يوم من أبهى أيامها تُرى، هل كانت تحمل بين يديها آنذاك الإكليلين الذين أرته إياهما في صباه، الإكليل البيض والأحمر؟
التطويب والقداسة:
أعلنه البابا "بولس السادس" طوباوياً عام 1971م، وأعلنه البابا "يوحنا بولس الثاني" قديساً عام 1982م، ومازالت زنزانته بأرض معتقل (أوشفيتز) بپولندا مزاراً أساسياً للحج الروحي.
هو شفيع مدمني المخدرات، والمسجونين، العائلات، الصحفيين. تحتفل الكنيسة الجامعة بذكراه يوم 14 أغسطس.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: أقباط المحکوم علیهم المحکوم علیه هذا الم ل الأب من الم کل یوم فی الم ة التی من أجل
إقرأ أيضاً:
سي إن إن تفند الرواية الإسرائيلية وتؤكد أن الشهيد اللوح كان صحفيا مميزا
قالت شبكة "سي إن إن" الأميركية إن مصور الجزيرة أحمد بكر اللوح -الذي استشهد في غارة إسرائيلية استهدفت موقعا للدفاع المدني في مخيم النصيرات بوسط قطاع غزة أمس الأحد- كان معروفا بين الصحفيين في غزة، وكان يرافق الدفاع المدني في كثير من الأحيان بصفته صحفيا، ويغطي مهام الإنقاذ.
وأضافت الشبكة نقلا عن الصحفي محمد الصوالحي، وهو مراسل حر متعاون معها، أن اللوح كان شخصا ممتعا للغاية، وكان دائما يحاول مساعدة الجميع وإضفاء البهجة على وجوههم.
كما قالت "سي إن إن" -نقلا عن مراسلها- إن اللوح كانت له علاقات رائعة مع جميع الصحفيين، وكان يساعدهم جميعا لأنه كان يعرف وسط غزة جيدا.
وترد الشبكة بذلك على مزاعم جيش الاحتلال الإسرائيلي التي قال فيها إن مكاتب الدفاع المدني -حيث استشهد المصور اللوح- كانت تستخدم "كمركز قيادة وتحكم" لحركتي المقاومة الإسلامية (حماس) والجهاد الإسلامي.
كما قالت الشبكة إن الجيش الإسرائيلي زعم -من دون أن يقدم أي دليل- أن مصور الجزيرة "إرهابي" خدم سابقا مع حركة الجهاد الإسلامي.
ونفى المتحدث باسم الدفاع المدني في غزة زكي عماد الدين بشدة ادعاء جيش الدفاع الإسرائيلي بوجود إرهابيين في الموقع.
وقال المتحدث إن فرق الدفاع المدني تعمل على مدار الساعة لإنقاذ الناس والجميع يعلم أن منظمة الدفاع المدني هي هيئة إنسانية تقدم خدمات في السلم والحرب للمدنيين، وليس لها أي تدخل سياسي، مؤكدا أن الاحتلال استهدف الفريق بشكل مباشر.
إعلان
من جهتها، أدانت شبكة الجزيرة الإعلامية بشدة جريمة اغتيال الاحتلال لمصورها أحمد بكر اللوح، مؤكدة أن إسرائيل تستهدف صحفييها بشكل منهجي، وتتبع نمطا من الهجمات التي قُتل أو أصيب فيها صحفيوها بهجمات إسرائيلية.
وقالت إن هذه الجريمة تأتي بعد أيام معدودة فقط من قصف القوات الإسرائيلية منزل الزميل اللوح في حي الدعوة بمخيم النصيرات، حيث تم تدميره بشكل كامل في تلك الغارة.
كما تأتي في ظل الذكرى الأولى لاستشهاد الزميل سامر أبو دقة، وإصابة الزميل وائل الدحدوح، ومن قبلهما استشهاد الزميلة شيرين أبو عاقلة بمخيم جنين بالضفة الغربية عام 2022.
واستنكرت الشبكة بشدة استمرار هذه الجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق الصحفيين والعاملين في مجال الإعلام في غزة، وطالبت المجتمع الدولي والمؤسسات القانونية ذات العلاقة باتخاذ إجراءات عملية وعاجلة لمعاقبة المسؤولين الإسرائيليين المتورطين في هذه الجرائم البشعة، واعتماد آليات لوقف استهداف الصحفيين.
وأكدت الجزيرة التزامها باتخاذ جميع الإجراءات القانونية الممكنة لمقاضاة مرتكبي هذه الجرائم بحق صحفييها، وتضامنها التام مع الصحفيين في غزة حتى تحقيق العدالة ومعاقبة قتلة أكثر من 196 شهيدا من الإعلاميين الذي سقطوا في القطاع منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، ومن بينهم 4 زملاء من شبكة الجزيرة الإعلامية.
وتقول لجنة حماية الصحفيين إن إسرائيل قتلت من الصحفيين خلال عام واحد في غزة أكثر من أي صراع آخر وثقته هذه المجموعة. ووفقا للجنة فقد استشهد ما لا يقل عن 137 صحفيا في غزة والضفة الغربية وإسرائيل ولبنان منذ بدء الحرب، مما يجعلها الفترة الأكثر دموية بالنسبة للصحفيين منذ بدأت في جمع البيانات في عام 1992. في حين يؤكد مكتب الإعلام الحكومي في غزة، استشهاد ما لا يقل عن 196 صحفيا.
إعلان