لجريدة عمان:
2025-02-07@04:46:17 GMT

عـودة إلى إيديـولوجـيا الفـرد

تاريخ النشر: 30th, October 2024 GMT

آذنت حقبـةُ ما بعـد الحـرب العالميـة الثانيـة بازدهار خطابين سياسيـيـن في مسائل الحـقّ، أو الحقوق، دارا على كيـانـيْـن اجتماعـيـين رئيـسيْـن: الطبـقات الاجتماعـيّـة والشّـعـوب. لذلك الانتـقال في مركـز الخطاب «أسبابَ نـزول»، كما تقـول عـلوم القرآن: تعاظُـم نفـوذ الحركات النّـقابـيّـة العمّـاليّـة في الحياة العامّـة في أوروبا ومعها اتّسـاعُ نطاق التّأثـير السّياسيّ للحـركات الاشتراكيّـة والشّيوعيّـة (بعد الثّـورة البلشـڤـية تحديداً)، من جهـة، وانـطلاق مـدّ حركات التحرّر الوطـنيّ في بلـدان الجنوب وتصاعُـد نضالاتها السّياسيّـة والمسلّـحـة لانتـزاع الاستـقـلالات الوطنـيّـة لشعوبها من جهة أخرى.

ولقد كان الطّـورُ الأعلى لذلك المـدّ بين نهايـة الحـرب العالميّـة الثّـانيـة ومنـتـصف السّـبعـيـنـيّـات مع نجـاح الثـورة الڤـيـتـنامية في دحـر الاحتـلال الأمريـكيّ. امتـدّ بريق هـذيـن الخطابيـن إلى نهايات عقـد السّـبعـيـنـيّـات من القرن الماضي حيث بـدأ في الخمـود في سياقٍ اضمـحلالٍ تدريـجيّ للنّضـالات التّـحرّريّـة الوطـنيّـة والاجتماعيـة الطـبـقـيّة، بمـوازاة عـودة الحقـبـة الليـبراليـة ثانيـةً إلى أوروبا والعالـم: فكـرةً وسياسات... وفي صورةٍ من التّـوحُّـش غير مسبوقة.

لم يـنـدثـر مبْـنـى خطـابٍ حقوق الفـرد في هـذه السّـنـوات السّـتّـيـن، التي أومـأنا إلى خطابات الحـقّ فـيـها، ولا هـو أصيب بـوهـنٍ منـذ ميـلاد نظـام الدّولـة الحـديثـة التي ظـلّ فيـها الخطـابَ الرّئـيسَ المُـسْـتَـقَـاةُ مبادؤُهُ من الـفـكـر اللـيـبرالـي. كـلُّ الذي حصـل له، في ثـلـثـيْـن مـن القـرن الماضي، أنّـه زوحِـمَ على دوره، الذي احـتـكـره طـويلاً، ولم يعـد وحـده في الميـدان بـل وُجِـدَت إلى جـانـبـه خطابـات أخـرى تخاطـب حقـوق جـهـاتٍ اجتماعيّـة أخـرى أنجـبـها التّـطـوّر الرّأسـمـاليّ (= الطّـبـقـات الكادحـة) وتوسُّـع حركـات الاستعـمـار (الشـعـوب المسـتـعـمَـرَة). على أنّ خطـاب حقوق الفـرد هذا سيشـهـد على تعـديـلٍ في طـبيـعـته ومضمونـه، في هـذه الحقـبـة الجديدة منه التي بـدأت مطالـعَ عقـد الثّـمانيـنـيّـات، سيـنـتـقـل بـه من خطاب يدور على حـقوق فـردٍ هـو، بالتّـعـريـف، المواطـن (في الفـكـر السّـياسـيّ الحديث وفي نظـام الدّولـة الوطـنيّـة) إلى خطـابٍ يـدور على حقـوق فـردٍ عابـرٍ للأوطـان والدّول وأعـمُّ من المواطـن هـو الإنسـان.

لـيس يـعْـنيـنا مـن خـطاب حقـوق الإنسـان مـدى ما يوجـد فيـه - أو لا يوجـد - من تـنـاسُـبٍ مع المـقـدّمـات الـفـكـريّـة التي عـليها انـبـنى خطـابُ حـقوق المـواطـن، في الـفـكـر السّياسيّ الحديـث، إنّـما يـعـنيـنا النـظـرُ إليه بـما هـو خطابٌ صُـنِـع صُـنْـعـاً ليُـسْـتَـخْـدَم في الصراع السـياسـي والإيـديـولـوجيّ بين الغـرب - الذي صَـنَـعـه وفَـرَضـه - والعالَـم المعارِض لـه (في المعسـكـر «الاشتــراكـي» سابـقـاً وبلـدان الجـنـوب) الذي يُـرَادُ مواجهـتُـه بـه. لا يَسـتخـدم الغـربـيّـون، في مخـاطـبـة بعـضـهـم بـعـضاً، مـفـهـوم حقـوق الإنسان لأنّـه ما مـن شيء يـبـرّر لـهـم التّـراشـق بـه. لـقـد وُضِـعَ برسـم الاستـخـدام ضـد أعـداء الغـرب مـن كـلّ المِـلـل والنِّـحَـل، فبـات دارجـاً اتّـهامُـه (= أي الغـرب) خصومَـه بانـتـهاكـهـم حـقـوقَ الإنسـان، والبـنـاءُ على ذلك بسـياسـاتٍ تـتـوسّـل الضّـغـط السّـياسـيّ والعـقـوبات الاقـتـصاديّـة والحصار...إلخ. وفيـما كان الشرق («الاشتراكي» سابقـاً) والجـنـوب يمـثّـلان المجـال التـداولـي لهـذا المفـهـوم وحـقـلَ اشتـغـالـه، ظـلّـت بـلـدان الغـرب تـتـحـدّث في داخلـهـا، وفي ما بـيـنها، عـن حقـوق المواطَـنـة مثـلما فعـلـت ذلك في عـهـود سابـقـة. وهـذه قـرينـةٌ على إيـديـولوجيّـةِ مفـهـوم حقـوقُ الإنسـان والأغـراضِ المـبـتـغـاة مـنـه.

على أنّ العـودة إلى مـفـهـوم الفـرد في الخـطـاب النّـيـوليـبـراليّ مـا كـانت محـضَ عـودةٍ إلى مـفـهـومٍ بـلـورتْـهُ فـلسـفـةُ السّـياسـة والـقانـون واسـتـتـبّ لـه أمـرُ السّـيادة والمرجـعـية فـي فـكـر اللـيـبـرالـية، بـيـن منـتـصـف القـرن السّـابـع عشـر ومنـتـصـف القـرن التـاسـع عشـر، وإنّـمـا أتـى يمـثّـل ردّةً على المـفـهـوم الأصـل واستـدخـالاً قـيـصريّـاً لـحـقـوقٍ فـرديّـة جـديـدة لم يـقُـل بـها الـفـكـر السّـياسـيّ الحـديـث، ولا نتـيـجـة لـها - في المطـاف الأخيـر- سـوى نقـض مبـادئ ذلك الـفـكـر والتّـطـويـح بـبـنـيانـه. لـم تكـن عـودةً نيـولـيـبـرالـيـة إلى اللـيـبرالية؛ لأنّ هـذه لا تُـشـبـه تلك، وإنّـمـا أتـت تـعـيـد صـوْغ مفـاهـيـم تلك اللّـيـبـراليّـة بـما يتـنـاسب والانـتـقـال الجـديـد الذي حـصـل في النّـظـام الاقـتـصـاديّ اللّـيـبـراليّ نفـسـه، في ثـمـانـيـنـيّـات القـرن العشـريـن، وأنـجـب نظـام اللّـيـبـراليّـة المتـوحّـشـة على أنـقـاض ليـبـراليّـةٍ اجتـمـاعـيّـة فـتـحـت للـرّأسـماليّـة أفـقـاً جـديـداً أَخَـذَهـا، في نطـاق الهـنـدسـة الكـيـنـزيـة، إلى اختـبـار نـمـوذج دولـة الرّعـايـة الاجتـمـاعـيّـة.

مفهوم الفـرد في الـفـكر السّياسـيّ الحديث، وخاصّـةً بعد الـدستـور الأمريكـي والثّـورة الفرنسيّـة، هو عيـنُـه المفهـوم الذي تَـوَلَّـد منـه معـنـى المواطـن؛ إذِ الـفـردُ - الذي هـو مبـدأ الـدّولـة في القانون - هـو ذاك الذي ينـتـمـي إلى الـدّولـة ويـسـلِّـم بحاكـميّـة قوانـيـنـها وتعـتـرف لـه الـدولـة بحقـوقـه مقابـلاً للانـتـمـاء إليها ولأداء الواجـبـات تجـاهـهـا: إنّـه عيـنُـه المواطـن. وهـذا يعـنـي أنّ فـرديَّـتـه تـتـحـقّـق داخـل الـدولـة والمجـتـمـع، وفي نطـاق ما تسمـح بـه القـوانـيـن مـن حريّـات. في المقابـل، يكـتـسـب مفـهـوم الـفـرد معـنًـى مخـتـلـفـاً في اللّيـبـراليّـة الجـديـدة: إنّـه الوحـدة الاجتـماعيّـة الصّـغـرى التي تـتـمـتّـع بالحـقّ في عـدم الخـضـوع لأيّ إرادةٍ أخـرى غيـر إرادتـهـا الخاصّـة. ليـس مـن سلـطـانٍ على هـذا الـفـرد لا مـن الـدّولـة ولا من المجتـمـع؛ فهـو سيِّـد نفـسـه وقـانـونُ نفسـه. وعليـه، فإنّ فـرديّـتـه تـتـحـقّـق خـارج الـدّولـة والمجـتـمـع وضـدّاً منهـمـا!

هـكـذا سـتُـؤْذِن اللّـيـبراليّـة الجـديـدة بانـتـقالٍ دراماتـيـكـيّ حاسـم في الـفـكـر السّـياسـيّ ومـفاهـيـمـه؛ ومعها لـن نعـود أمام فـلـسـفـةٍ حقـيقـيّـة للفـرد - نظيـر ما كـانـت عليـه الـفلسـفـة الليـبراليّـة - بـل أمام نـزعـةٍ فـردانـيـة لا عِـقالَ يَـعْـقِـل انـدفاعـةَ الـفـرديّـة الهَـوجـاءَ فيـها! وهـذا، طبـعـاً، هـو ما سـوَّغ لـخـطابـات النّـهايـات: «نهايـة الـدّولـة»، «نـهايـة السّـيادة»، «نـهايـة الإيـديـولـوجيـا»، «نـهايـة المـجـتـمـع» وأَطْـلَقَـها في الكـلام على الحاضـر والمستـقـبـل ...!

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الس ـیاسـی الـد ولـة

إقرأ أيضاً:

جيشنا يقول: [ممنوع الخروج] !!

إعتاد الناسُ علی رٶية اللافتات التحذيرية، وأشهر تلك اللافتات هی التی تقول [ممنوع الدخول] لكن لم نسمع بلافتة تقول، [ممنوع الخروج] غير أن جيشنا كتبها أو بالأحریٰ فعلها بالمتحركات والمسيَّرات، وأغلق بوابات الخروج من العاصمة المثلثة إغلاقاً محكماً، بعد سلسلة راٸعة من الإنتصارات في فاشر أبو زكريا، ومدني وساٸر ولاية الجزيرة، والنيل الأزرق وسنار، وشرق النيل، ولم يكتفِ الجيش بذلك، ولكنه زحف بجحافله علی وسط الخرطوم من كل إتجاه، وقال للمتمردين:-{ أمرقوا كِنْ تقدروا .

وبما أنه ما في (طيارة سغييرة) من النوع الذی ذكره الأهطل وهو يصف خروج البرهان من القيادة المحاصرة وقال هو طلع لابس (سفنجة) !! أو إنَّه ليس هناك مايكفي من نوع هذه (الطاٸرات السغييرة) لإجلاء كل الإرهابيين من وسط الخرطوم، فإن ذلك يجعل (البرهان يكسب الرهان)؛ فليس أمام المليشيا المتمردة غير (تِتّين بس، الإستسلام أو الموت الزُٶَام!!) فلينظروا أيُّهما الأقرب، ولمن سمع منهم بقول إبن الرومي، ولا أظُن، نهديه البيت التالی:-

أمامك فانظر أيَّ نهجيك تَنْهجُ.

** طريقان شَتَّىٰ مُستقيمٌ (وأعوجُ).

وقد نهجت مليشيا آل دقلو (الأعوج)، فما وجدت غير الخسارة والبوار.

ومن دلاٸل بشاٸر النصر أن بلغتني دعوة كريمة لحضور حفل تكريم تقيمه منطقة (مِدينِي) بولاية نهر النيل لابنها الباسل العميد الركن حسن خالد حاج الحسن،الذی ظلَّ مرابطاً فی القيادة العامة مع إخوته من الضباط والرتب الأخریٰ طوال مدة حرب الكرامة، وهذه الدعوة التي تَنادَیٰ لها اْهل محافظة المتمة فی وادي بُشارة والحقنة وود حامد وحجر ود سالم وأبو رغيوة والثورة كبوتة وحجر الطير بالإضافة إلیٰ مديسيسة ومَدِيني وغيرها من مدن وقری محافظتي المتمة وشندي، يحضرها قادة المنطقة، ودفعة المحتفی به من شندي وعطبرة ووادي سيدنا، ولما كانت ظروفي بوجودي خارج البلاد لن تسمح لي بالحضور لمشاركة الأخ القريب، وابن العم الكريم، والصديق الوفي العزيز، والمريخابي العتيد، العميد الركن حسن خالد الرجل البطل، الذی أكرمه الله بحب أهله وكل من عرفه، وهاهو اليوم يُزَفَّ بطلاً تُنحر له الذباٸح، وتُهبَّك له الدلوكة، ويُخلَف له الشَتَم، وتنطلق فرحاً به الزغاريد، فتشيع الفرحة فی تلك الديار الحبيبة التی لها فی النفس أكثر من أثرٍ ومعنیٰ.

الربط بين حصار الجيش للمليشيا، ووضعها أمام خيارَي الإستسلام أو الموت الزُٶام، وبين تكريم البطل العميد الركن حسن خالد حاج الحسن، يُبَيِّن البونَ الشاسِع بين وضع الجيش المنتصر، والمليشيا المتمردة المنهزمة هزيمةً مُدَمَّرة، ولم يتبق لها أی شٸٍ لتفعله، سویٰ ما فرضه عليها الجيش عنوةً واقتداراً بلا مقررات جدة ولا أمبدة، فقد بات [الخروج ممنوعاً] يعنی (تاباها مملحة تاكلا قَرُوض).

هنيٸاً لك يا (أبو الحُسْن) من علی البُعد بهذا التكريم المستحق والذي هو تكريم لكل الجياشة من قاٸدهم العام إلیٰ أحدث مُسْتَجِد، ممثلاً فی شخص (الحَسَنْ صاقِعْتَ النَّجِمْ البِيَحَمي الشِهادة والنَّضِم) وعبركم التحية لدفعتكم البطل نجم بابنوسة العميد حسن درموت ولكل البواسل، وكدت أن أكتب(الأشاوس) لولا إن مليشيا آل دقلو أفرغت كلمة الأشاوس من محتواها فأصبحت رديفاً للخيانة والخيابة والخسة والغدر.

-النصر لجيشنا الباسل.

-العزة لشعبنا المقاتل.

-الخزی والعار لاْعداٸنا، وللعملاء.

محجوب فضل بدري

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • جيشنا يقول: [ممنوع الخروج] !!
  • ما الذي فعلته البطالة بثقافتنا العراقيَّة؟
  • الرئيس الصماد .. القائد الذي حمى وبنى واستشهد شامخا
  • من هو الجنجويدي المجنون الذي سيبيت الليلة في منطقة السوق العربي
  • المخرج الذي أبهر أجاثا كريستي
  • ما الذي ينتظر العراق بعد استئناف حملة الضغط الأقصى على إيران؟
  • حليم عباس: من هو هذا الحمار الذي يفكر للمليشيا؟
  • شخص يعتق طيره الذي يمتلكه منذ 21 عاماً ..فيديو
  • خالد الجندي يشيد بمعرض الكتاب: عرس ثقافي يعكس قيم العلم والإيمان
  • قنابل نووية.. الكشف عن سبب الغبار المشع الذي جاء من أفريقيا إلى أوروبا