جريدة الرؤية العمانية:
2025-03-04@01:01:35 GMT

مجرد حياة فانية

تاريخ النشر: 30th, October 2024 GMT

مجرد حياة فانية

 

 

صاحب السمو السيد/ نمير بن سالم آل سعيد

 

أصل كلمة فندق يوناني وتعني "النُزُل"، والحياة عبارة عن فندق كبير ينزل فيه النَّاس لفترة بسيطة وما يلبثون إلا وأن يولوا عنها راحلين، والسكن في هذا الفندق له ثمن باهظ لا يُدفع بالمال وإنما يدفع من عمر الإنسان الذي ينقضي سريعًا.

وهذا الفندق ليس كالفنادق التي نعرفها إنما يحتوي على نزلاء بمختلف مستوياتهم المادية والاجتماعية والنفسية، وبمختلف ظروفهم المعيشية وأفكارهم وتوجهاتهم.

والجميع يتمسك بالسكن في هذا الفندق الذي وجدوا أنفسهم فيه دون إرادتهم ثم لا يرغبون في الرحيل عنه حتى ولو كانوا يعيشون في اضطرابات معيشية صعبة أو مُعاناة متواصلة.

أما الذين أمورهم ميسرة ودنياهم تسير على ما يرام والحياة فارهة مبتسمة لهم في هذا الفندق الكبير المقيمين فيه، فلا يكتفون بذلك، ويُتعبون نفسيتهم لأتفه الأسباب وصغائر الأمور، وأكثر الأمور تافهة وصغيرة لا تستحق الالتفات إليها إذا وضع الإنسان ثقته بالله الذي يُحسن التدبير، وإنما التركيز عليها والانشغال بها يجعلها كبيرة متضخمة في ذواتهم.

فلا لإعطاء المجال للمنغصات أن تصعب الحياة ولا للتوافه أن تقلق الراحة في هذه الدنيا التي تفني النَّاس وتبقي نفسها، ولتكُن ردة الفعل حول ما يحصل خارجا هادئا معتدلا عابرا كسحابة صيف لا تلبث أن تزول. ولا يجب إعطاء توافه الأمور وصغائرها أهمية أكبر من حجمها إذا أردت أن تنعم براحة البال؛ فلا وقت في هذا العمر القصير كنزيل في الفندق الدنيوي، للكرب والضيق والمنغصات الحياتية، وأن تجعلها تهيمن على حياتك ولتأخذ الأمور ببساطة وتروى وتغاضى.

ولا داعي للتشنج والخوف والارتباك والأسى والندم، "فما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وغدا أنت عن كل شيء راحل؛ فليجعل الإنسان في إقامته القصيرة في حياته الفندقية الانشغال بنفسه لا بالآخرين، فلديه ما يكفيه من انشغالات أهمها إصلاح نفسه وأهله بالتي هي أحسن.

والإنسان أحيانًا يكبل نفسه بنفسه بأوهام لا فكاك منها بسهولة؛ فيتصرف على نحو غير صحيح بوعي أو دون وعي. والبعض أوهامهم تبقى معهم يحملونها معهم طوال حياتهم وإنما تبقى أوهام مخدرة بالنسبة لهم ترضيهم لا يفيقون منها، ولا يريدون لأحد أن يطعن فيها لأنهم مؤمنين بها ويقتاتون عليها. وأن تعرف كيف تعيش فذلك فن ليس الجميع يتقنه، وإذا لم تعرف كيف تحكم عقلك في حياتك فستأتي الأوهام لتأخذ دور العقل في تسييرك وتحكم تصرفاتك.

البعض يقرر أن يقضي أكثر وقته في الصلاة وقراءة القرآن والتعبد ويبقى على هذا الوضع طوال حياته. وإذا تأخر عن أداء فريضة من الفرائض يومًا في وقتها في المسجد تراه يشعر بالخوف وغضب الله عز وجل ويشعر بتأنيب الضمير والحزن فيستغفر الله ويتوب إليه ألف مرة، ولا يريحه إلا الصلاة والاستغفار والتسبيح وله ذلك.

والبعض يقضي وقته متوجهاً للدنيا في لعبها ولَهْوِها، معتقدا بأنَّ الدنيا تعني المتع والسهر والخمر والرقص والموسيقى والانبساط بين أحضان النساء وله ذلك.

والبعض يقضي مُعظم وقته مع أصدقائه وأصحابه بالسفر وجلسات السمر ومراكز التسوق والمطاعم والأندية والمجالس مهملاً عمله وبيته وله ذلك.

والبعض الآخر يقضي وقته منغمسًا في العمل وغارقاً في الواجبات الوظيفية طوال حياته إلى أن يجد نفسه قد تقدم به العمر بسرعة إلى المشيب دون أن يعيش حياته لتهبط عليه الأمراض المزمنة التي لا فكاك منها. وكان معتقدا بأنه حتما سيأتي اليوم الذي يرتاح فيه ليستمتع بحياته وأمواله، مؤجلا فرحته إلى يوم آخر لا يأتي، عائشا في وهم الوظيفة وله ذلك.

 والبعض يكرس حياته لزوجته وأبنائه مسخرا ماله ووقته وقدراته وإمكانياته لهم مضحياً بكل ما لديه دون أن يلتفت لحاجاته ورغباته وسعادته، متفانيا لخدمتهم لا يأتي ولا يذهب لنفسه، ناكرًا ذاته وله ذلك.

ولا تلبث إلا أن تجد إقامتك في هذا الفندق قد انتهت أو أوشكت على الانتهاء وأنت لم تعرف كيف تعيش في هذا الفندق؟!

والآن قبل فوات عمرك هل تريد أن تعيش واهمًا أم تستيقظ من وهمك وتعطي توازناً لنفسك في هذه الحياة القصيرة الفانية؟! فوقتٌ لعبادتك ووقتٌ لعائلتك ووقتٌ لأصدقائك ووقتٌ لأعمالك ووقتٌ لهواياتك ووقتٌ لنفسك، أم تبقى غارقًا في وهمك؟!

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

بطالة بثوب الوظيفة

 

 

سلطان بن محمد القاسمي

تخيَّل مَعيَّ هذا المشهد: شخص يستيقظُ صباحًا، يرتدي ملابسه الرسمية، يحتسي قهوته، ويتوجه إلى مكتبه؛ حيث يقضي ساعات العمل متنقلًا بين هاتفه الجوال وقراءة الأخبار، وربما يُنجز مهمة أو مُهمتين لا تحتاجان لأكثر من دقائق معدودة، وفي نهاية اليوم، يخرج مبتسمًا لأنه حصل على راتبه مُقابل وقت قضاه دون إنتاج حقيقي!! هذا هو جوهر البطالة المُقنَّعة، تلك الظاهرة التي تجعل من الوظيفة مجرد مسمى دون أن يكون لها تأثير حقيقي على العمل أو المجتمع.

وعندما نتحدث عن البطالة، غالبًا ما يتبادر إلى الذهن صورة شخص يبحث عن وظيفة بلا جدوى، لكن هناك نوعًا آخر أكثر خفاءً وأشد ضررًا، وهو البطالة المُقنَّعة؛ حيث يكون الموظف حاضرًا جسديًا لكنه غائب فعليًا عن منظومة الإنتاج. فقد يكون في مكتب فاخر أو خلف شاشة كمبيوتر، إلّا أنه في الحقيقة لا يضيف أي قيمة تُذكر. هذه الظاهرة ليست مجرد مشكلة فردية؛ بل هي أزمة مجتمعية واقتصادية تهدر الطاقات وتستنزف الموارد دون تحقيق أي مردود حقيقي.

هذه المشكلة ليست وليدة اليوم؛ بل هي نتيجة تراكمات طويلة من التوظيف العشوائي، والتخطيط غير الدقيق، وربما معايير غير موضوعية في التعيينات. كذلك في بعض المؤسسات، تجد أن عدد الموظفين أكثر من المطلوب بكثير، والمهام يتم توزيعها بشكل غير عادل، فتجد موظفًا غارقًا في العمل، وآخر يقتل الوقت بحثًا عن شيء يفعله. هذا الخلل يُنتج بيئة عمل راكدة تفتقر إلى الابتكار؛ حيث يتعود الموظفون على نمطية الأداء دون تطوير أو تقدم.

لكن كيف تؤثر هذه الظاهرة على الاقتصاد؟ ببساطة، عندما تُخصص الرواتب لموظفين لا يقدمون إنتاجًا حقيقيًا، فإن ذلك ينعكس على ميزانية المؤسسات، ويحد من قدرتها على الاستثمار في مجالات أكثر حيوية. كما إن البطالة المُقنَّعة تُضعف من تنافسية الاقتصاد؛ حيث تصبح بيئات العمل متخمة بالروتين والبيروقراطية بدلًا من أن تكون منصات للإبداع والإنتاج. والأسوأ من ذلك أنَّ هذه الظاهرة تؤثر على روح العمل الجماعي، فحين يرى الموظفون المجتهدون أنَّ هناك من يحصل على نفس الامتيازات دون جهد يُذكر، فإنَّ ذلك يولد شعورًا بالإحباط، وقد يدفع البعض إلى تبني نفس سلوك التراخي واللامبالاة.

أما على المستوى الاجتماعي، فالموظف الذي يشعر بعدم جدوى عمله يفقد حماسه ورغبته في التطوير، وقد تتحول الوظيفة إلى عبء نفسي بدلًا من أن تكون مصدرًا للإلهام والإنجاز. ومع الوقت، قد تنتشر ثقافة "الراتب مقابل الحضور"، بدلًا من "الراتب مقابل الإنتاج"، وهو ما يُؤدي إلى تآكل روح العمل والابتكار. والأخطر من ذلك أن هذه الثقافة تمتد إلى الأجيال الجديدة، فينشأ الشباب على قناعة بأن الوظيفة مجرد مكان يُؤتى إليه صباحًا ويُغادر مساءً، دون أن يكون هناك هدف أو معنى حقيقي وراء ذلك.

ولا تقتصر الأضرار على الإنتاجية فحسب؛ بل تمتد إلى التأثير النفسي العميق على الموظفين؛ حيث يشعرون بعدم القيمة والانتماء، مما يؤدي إلى تراجع معنوياتهم وإحساسهم بعدم الجدوى. هذا الإحساس قد يتحول إلى حالة من الإحباط الوظيفي، وربما يؤدي في بعض الحالات إلى اضطرابات نفسية مثل القلق والاكتئاب، خاصة عندما يكون الشخص محاطًا بثقافة عمل راكدة لا تحفزه على الإنتاجية أو العطاء.

وعلى المستوى الدولي، هناك تجارب ناجحة تمكنت من تقليص البطالة المُقنَّعة بفعالية. على سبيل المثال: اليابان والتي تشتهر بتطبيق نظام التوظيف القائم على الكفاءة وتطوير المهارات؛ حيث يُعاد تأهيل الموظفين باستمرار لضمان مساهمتهم الحقيقية في الاقتصاد. وفي الدول الإسكندنافية، يُعتمد على قياس الإنتاجية الفعلية بدلًا من التركيز على عدد ساعات العمل، مما يخلق بيئة وظيفية قائمة على الأداء والابتكار.

أما في عالمنا العربي، فإنَّ هذه الظاهرة أكثر انتشارًا في القطاع الحكومي مقارنة بالقطاع الخاص؛ إذ إن المؤسسات الحكومية غالبًا ما تكون مُشبَّعة بالموظفين الذين لا يمتلكون أدوارًا واضحة أو إنتاجية حقيقية. وفي المقابل، يميل القطاع الخاص إلى قياس الأداء بناءً على النتائج لا الحضور، مما يحد من انتشار البطالة المُقنَّعة فيه. لكن المشكلة الكبرى تكمن في أن ثقافة "الوظيفة المريحة" ما زالت سائدة؛ حيث يبحث الكثيرون عن وظائف تضمن لهم راتبًا ثابتًا دون النظر إلى مدى إنتاجيتهم الفعلية.

ومما يزيد الأمر تعقيدًا، هو أن هذه الظاهرة تؤثر على حس المواطنة والانتماء الوطني؛ حيث يشعر بعض الموظفين بأنَّ هناك غيابًا للعدالة الوظيفية عندما يرون أن الأداء لا ينعكس على الامتيازات، فيصبح العمل مجرد روتين لا يحمل أي قيمة حقيقية. وهذا بدوره يقلل من ثقة الأفراد بمؤسساتهم، ويخلق بيئة عمل غير صحية تؤثر سلبًا على الاقتصاد ككل.

ولمواجهة هذه المشكلة، لا بُد من إعادة النظر في سياسات التوظيف والتقييم الوظيفي، بحيث يتم قياس الأداء بناءً على النتائج الفعلية لا مجرد الوجود في المكتب، وإن كان هذا يوجد في بعض الدول والمؤسسات إلا أنه ينبغي أن يكون سياقًا مستمرًا في استراتيجية وخطة أية مؤسسة. كما إن الاستثمار في التدريب المستمر وتطوير مهارات الموظفين يمكن أن يُحسن من إنتاجيتهم، ويجعلهم أكثر ارتباطًا بأعمالهم. أيضًا، يمكن للحكومات والقطاع الخاص تشجيع ريادة الأعمال والمشاريع الصغيرة، مما يفتح المجال أمام الكفاءات الحقيقية لإيجاد فرص عمل تتناسب مع إمكانياتهم.

ويمكن أن يكون التحول الرقمي أحد الحلول الفعالة أيضًا، إذ يساعد على كشف الوظائف الزائدة عن الحاجة، ويوفر أدوات لمراقبة الأداء بطريقة أكثر شفافية. فبعض الدول، مثل إستونيا، نجحت في استخدام التكنولوجيا لتحليل بيانات سوق العمل وتحديد الفجوات الوظيفية، مما أسهم في تقليل البطالة المُقنَّعة وتحسين الكفاءة الإنتاجية. ويمكن أن تستفيد الدول النامية من هذه التجربة من خلال رقمنة الوظائف الإدارية والحد من العمليات الورقية غير الضرورية، مما يُسهم في خلق بيئات عمل أكثر كفاءة وإنتاجية.

وبالحديث عن الحلول الفعّالة، فإنَّ إعادة هيكلة المؤسسات يمكن أن تكون خطوة ضرورية في القضاء على البطالة المُقنَّعة. وقد يبدو الأمر صعبًا في البداية، لكنه حيوي لاستدامة أي اقتصاد. على سبيل المثال، يمكن إعادة توزيع المهام داخل المؤسسات بحيث يكون لكل موظف دور حقيقي ومُؤثر. كما يُمكن تطبيق برامج تحفيزية تربط العلاوات والترقيات بمستوى الإنتاجية والابتكار، لا بعدد سنوات الخدمة فقط.

وفي الختام.. لا بُد من أن نُدرك أنَّ الوظيفة ليست مجرد وسيلة لكسب العيش؛ بل هي أداة لبناء الذات والإسهام في تطور المُجتمع. حين يصبح العمل مرتبطًا بالإبداع والإنتاجية، لا بالحضور الشكلي، حينها فقط يمكننا أن نقول إننا على الطريق الصحيح نحو بيئة عمل أكثر كفاءة واقتصاد أكثر ازدهارًا. وإذا استمررنا في تجاهل المشكلة، فسنظل ندور في دائرة مُغلقة من الجمود الوظيفي؛ حيث تكون الوظائف مجرد أسماء، والرواتب مجرد أرقام، لكن دون أثر حقيقي في مسيرة التنمية.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • الجيش ينعي اللواء الركن المتقاعد أنطوان سعد.. هذه تفاصيل حياته ومسيرته العسكرية
  • الدور المصري الذي لا غنى عنه
  • بطالة بثوب الوظيفة
  • "معًا نتقدَّم".. حوار وطني بسقف عالٍ ووقت محدود
  • شاب ينهي حياته في المهرة بعد تحطيم والده لهاتفه
  • عايدة رياض تكشف تفاصيل محاولة أحمد زكي إنهاء حياته بسبب الكرنك
  • مسن يتخلص من حياته شنـ.قاً داخل أرض زراعية بالشرقية
  • نائب رئيس جامعة الأزهر: العبادة ليست مجرد أعمال ظاهرية وإنما منهج حياة شامل
  • اليمن.. مراهق ينهي حياته بسبب تحطيم والده هاتفه المحمول
  • مراهق ينهي حياته بسبب تحطيم والده هاتفه المحمول