لبنان على صفيح ساخن.. تحذيرات من صراع داخلي وسط موجة النزوح
تاريخ النشر: 30th, October 2024 GMT
في خضمّ الحرب المستعرة بين حزب الله وإسرائيل، ومع نزوح نحو مليون و400 ألف شخص في لبنان، تزداد المخاوف من احتمال اندلاع فتنة داخلية بين اللبنانيين، حيث حذّر عدد من المسؤولين المحليين والدوليين من أن لبنان يقف على حافة حرب أهلية جديدة، تعيد إلى الذاكرة مشاهد الصراع الدموي الذي عاشته البلاد لعقود طويلة.
ومن بين أبرز التحذيرات، تصريحات وزير الخارجية اللبناني عبد الله بو حبيب، الذي عبّر الاثنين الماضي عن قلقه من الاحتكاكات المتزايدة بين النازحين اللبنانيين وسكان المناطق المضيفة.
وقال بو حبيب خلال اجتماع وزاري للاتحاد من أجل المتوسط في برشلونة "إن شعوبنا في منطقة البحر المتوسط مترابطة ومصيرنا مشترك. إذا لم تتوقف الحرب فوراً، فقد يؤدي النزوح إلى تفجير الأوضاع وحدوث صدامات مجتمعية واسعة وهجرة كبيرة".
وعلى الصعيد الدولي، نبّه وزير الدفاع الفرنسي سيباستيان لوكورنو، في 22 أكتوبر، إلى "احتمال انهيار لبنان" في حال استمرار النزاع. وصرّح لقناة "إل سي أي" الفرنسية بأن الوضع في لبنان بات "هشاً" نظراً للتوترات الداخلية والهجمات الإسرائيلية، محذراً من اندلاع حرب أهلية وشيكة إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق يضع حداً للصراع القائم.
وتتزامن هذه التحذيرات مع تفاقم الأزمة الإنسانية التي أثقلها النزوح، والتي تأتي في سياق ضغوط اقتصادية واجتماعية متزايدة، وانقسامات سياسية حادة وسط فراغ رئاسي وحكومة تصريف أعمال.
صفيح ساخن؟يشعر سكان المناطق المضيفة للنازحين في لبنان بقلق متزايد بشأن أمنهم، في ظل تكرار حوادث الاغتيال التي تستهدف كوادر من حزب الله ممن لجأوا إلى مناطقهم، كعملية اغتيال المسؤول في الحزب أحمد فقيه، في 14 أكتوبر، في بلدة أيطو في قضاء زغرتا (ذات الأغلبية المسيحية).
وإلى جانب ذلك، تشهد بعض المناطق اللبنانية المضيفة للنازحين توترات وشجارات بين النازحين والسكان المحليين، يضاف إلى ذلك احتكاكات بين النازحين والأجهزة الأمنية، التي تنفذ عمليات إخلاء من عقارات خاصة شُغلت دون موافقة أصحابها.
وفي السياق أثار عضو تكتل "الجمهورية القوية"، رازي الحاج، قضية إدخال شاحنتين محملتين بأكياس "الترابة الجاهزة" إلى مركز إيواء في مهنية الدكوانة في محافظة جبل لبنان. وعبّر الحاج عن استنكاره عبر تغريدة على صفحته على منصة "إكس" قال فيها "ما يحصل في مهنية الدكوانة خطير، في الأمس تم ادخال شاحنة تحمل اكياساً من "الترابة الجاهزة" واليوم عند الخامسة والنصف فجراً شاحنة اخرى تحمل مئة طن من نفس نوع الأكياس، بحجج واهية كوضعها تحت خزانات المياه لرفعها عن الأرض!".
وتساءل "هل المطلوب تحويل مركز لإيواء في الدكوانة إلى تحصينات؟ وما الحاجة إلى مواد بناء فيها؟".
وطالب الحاج الأجهزة الأمنية، خاصة الجيش اللبناني، باتخاذ إجراءات صارمة للحفاظ على أمن المنطقة وأهلها وأمن النازحين أيضاً، داعياً لجنة الطوارئ إلى تقييد دخول الجمعيات إلى مراكز الإيواء إلا بإذن مسبق وتفتيش المواد المقدمة، مشدداً على أن "الأمن خط أحمر، ولن نسمح بمربعات أمنية جديدة تحت أي مسمى".
ما يحصل في مهنية الدكوانة خطير ... في الأمس تم ادخال شاحنة تحمل اكياساً من "الترابة الجاهزة" واليوم عند الخامسة والنصف فجراً شاحنة اخرى تحمل مئة طن من نفس نوع الاكياس، بحجج واهية كوضعها تحت خزانات المياه لرفعها عن الارض!
هل المطلوب تحويل مركز لإيواء في الدكوانة إلى تحصينات ؟… pic.twitter.com/Y6LYcuFNYf
— Razi W. El Hage (@RaziElHage) October 28, 2024
بدورها، أصدرت بلدية الدكوانة بياناً توضيحياً حول الحادثة، مؤكدة أن شرطة البلدية أوقفت الشاحنات ونسقت مع الجهات المعنية للتفتيش، ليتبين أن الأكياس تعود لجمعية ACF، وقد كانت مخصصة لإنشاء منصات لوضع خزانات المياه، وذلك بموجب مناقصة مع مجلس الوزراء ولجنة الطوارئ الوزارية.
وأشارت البلدية إلى أنها طلبت من الشاحنات المغادرة، تمهيداً لتنفيذ مناقصة جديدة لبناء المنصات من الحديد تحت إشرافها والقوى الأمنية. كما دعت إلى إقامة نقطة ثابتة للجيش في المكان لضمان أمن المنطقة.
مستنقع خصب؟تبرز الباحثة الاجتماعية والأستاذة الجامعية، البروفيسورة وديعة الأميوني، أوضاع النازحين اللبنانيين وتداعياتها على المجتمع المضيف، مشيرة إلى أنهم "يعيشون في ظروف اقتصادية وصحية صعبة ويعتمدون بشكل أساسي على المساعدات الإنسانية التي غالباً ما تكون غير كافية لتلبية احتياجاتهم الأساسية".
وتوضح الأميوني في حديث لموقع "الحرة" أن "العدد الكبير للنازحين من مناطق الجنوب وبعلبك والبقاع والهرمل، يشكّل ضغطاً هائلاً على الموارد والخدمات في المناطق المضيفة، مما يشكّل تهديداً لاستقرار المجتمع على المدى البعيد في حال طال أمد الحرب ومعه النزوح".
وتضيف أن "الأزمات الاقتصادية المتفاقمة تؤدي إلى تأجيج التوتر الاجتماعي، حيث تصل نسبة الفقر في لبنان إلى 80%، فيما تعيش نحو 35% من العائلات تحت خط الفقر المدقع، مما يفاقم استنزاف موارد المناطق المضيفة مثل المياه والكهرباء".
أحد أبرز أسباب الاحتكاك بين النازحين والمجتمع المضيف هو "التنافس على فرص العمل"، كما تشير الأميوني "لا سيما مع ارتفاع معدل البطالة إلى 30% وتراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 70% منذ عام 2019" مشددة على أهمية "الاستجابة الحكومية الفعلية والشاملة للتعامل مع هذه الأزمة".
وفي ظل هذه التحديات، تحذّر الأستاذة الجامعية من "احتمالية نشوب فتنة داخلية، موضحة أن الخطر لا يقتصر فقط على التوترات المباشرة، بل يمتد ليشمل احتمالات التدخلات الخارجية التي قد تسعى لزعزعة الاستقرار"، إلا أنها تشيد "بوعي الشعب اللبناني وقدرته على احتواء الأزمة حتى الآن دون تصاعد للخطابات الطائفية".
وعلى العكس من الأميوني، لا يخشى وزير الداخلية الأسبق العميد مروان شربل من حدوث فتنة داخلية أو حرب أهلية، وفي حديث مع موقع "الحرة" يتساءل "من من اللبنانيين لديه الأسلحة التي تجعله يفكر في محاربة ابن بلده وصديقه وجاره؟ من لديه دولار في جيبه لشراء خرطوشة؟ الناس تبحث عن ثمن رغيف الخبز."
كذلك يرى الكاتب والمحلل السياسي علي الأمين عدم وجود مؤشرات جدية على استعداد اللبنانيين لخوض حرب أهلية، على الرغم من تفهمه كما يقول في حديث لموقع "الحرة"، "لمخاوف البعض من احتمال تدهور الأوضاع الأمنية في الداخل في حال انتهت الحروب الخارجية".
ويوضح الأمين أن "ما يظهر من محاولات للاستفزاز عبر وسائل التواصل الاجتماعي لا يعدو كونه تصرفات فردية أو منظمة للاستقطاب"، مشدداً على أن الشعب اللبناني يتطلع نحو السلام وبناء دولة".
مقومات الفتنةيتطلب اندلاع فتنة داخلية وحرب أهلية وفق ما يقوله الأمين "جبهات متقابلة ودعماً خارجياً وتمويلاً، وهي عوامل غير متوفرة حالياً في لبنان الذي يفتقر اليوم لمناطق ذات ثقل سكاني موحد طائفياً، حيث يوجد أكثر من مليون نازح مشتتين في مناطق لبنانية عدة، كما أن حزب الله هو الجهة المسلحة الوحيدة في البلاد، في ظل غياب أحزاب أخرى تمتلك ترسانة عسكرية أو دعماً إقليمياً".
ويوضح الأمين أن "البعض يعتقد أن حزب الله قد يلجأ إلى خيار الحرب الأهلية لتعويض أي خسائر أو انتكاسات قد يتعرض لها في المواجهة مع إسرائيل، إلا أنني أستبعد هذا السيناريو لاسيما وأن بيئة الحزب منتشرة في العديد من المناطق، ما يضع الحزب في موقف ضعيف لا يؤهله لخوض حرب أهلية، وحتى لو أراد ذلك، فإنه غير مؤهل لتحقيق نتائج لصالحه"، ويضيف أن "حزب الله قد يلجأ إلى خيارات المواجهة السياسية لكن ليس إلى النزاع العسكري الداخلي".
كذلك يشير شربل إلى أن "الحرب تتطلب مقومات خارجية"، مشيراً إلى أنه "لا الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية تريد رؤية لبنان مدمّر ومقسّم، كما أنه لا يوجد أي حزب من الأحزاب اللبنانية المسيطرة على السلطة يدعو إلى الحرب".
ويؤكد شربل على أن "كل ما يقال عن الفتنة والحرب الأهلية في لبنان هو شائعات تنشرها إسرائيل التي تسعى جاهدة لرؤية اللبنانيين يتقاتلون فيما بينهم، وهي تسعى للقول لهم أنها تمكنت من القضاء على حزب الله في الجنوب، وأنه دورهم لإنهاء وجوده في الداخل بعد أن ضعف."
ويشدد "لن يستمع اللبنانيون لما تريده إسرائيل، بل إن احتلالها لأي جزء من أراضي لبنان سيؤدي إلى تضامن أكبر بين اللبنانيين، ومن لا يتدخلون في الصراع الحالي سيقفون في وجهها حينها".
وفيما يتعلق بتصريحات وزير الخارجية اللبناني حول مخاوفه من فتنة داخلية، يقول شربل "لديه معلومات يحللها"، مشدداً على أنه "إذا تفاقمت الاحتكاكات، قد تؤدي إلى مشاكل معينة في أحياء محددة. لكن نشوب حرب مثل تلك التي حدثت عام 1975 أمر غير وارد على الاطلاق".
وشهد لبنان حرباً أهلية مدمرة استمرت 15 عاماً، من 1975 إلى 1990، تورطت فيها معظم الأطراف اللبنانية، ما أدى إلى دمار واسع وخسائر بشرية فادحة، ويعود اندلاع الحرب إلى أسباب معقدة ومتداخلة، من أبرزها الصراعات الطائفية والمذهبية، والتدخلات الخارجية، والصراع على النفوذ والسيطرة داخل مؤسسات الدولة.
الحل النهائيأكد وزير الداخلية اللبناني، بسام مولوي، أن بعض الحوادث التي وقعت تُعدّ طبيعية في ظل الظروف الراهنة، مشيراً إلى أن "الشعب اللبناني لا يزال متماسكاً رغم الشائعات المتداولة". ودعا مولوي، خلال حديث تلفزيوني أدلى به في 22 أكتوبر، اللبنانيين إلى التمسك بوحدتهم الوطنية والعودة إلى "لبنانيتهم"، مشدداً على أهمية الانتقال إلى ساحة وحدة لبنان.
كما أوضح مولوي أن "الخطاب السياسي في لبنان كان غالباً ما يتضمن انقساماً، بما في ذلك الانقسام حول جبهة الإسناد ووحدة الساحات"، مشيراً إلى أن "المعطيات الحالية لا تشير إلى اندلاع حرب أو فتنة داخلية"، مضيفاً أن " القوى الأمنية تستطيع دخول مراكز الايواء ساعة تشاء وقد يكون هناك سلاح فردي خفيف، ولكنه ليس ظاهراً والأجهزة ستعمد إلى القيام بالتفتيش اللازم عند الحاجة".
وللحد من التوتر بين النازحين والمجتمع المضيف، تقترح الأميوني استراتيجيات من ضمنها "تفعيل التواصل وتنظيم لقاءات لتعزيز التفاهم الثقافي بين الطرفين"، داعية المنظمات غير الحكومية للعب دور أكبر في بناء الثقة وحل الخلافات بطرق سلمية.
وفي ختام حديثها، تؤكد الأميوني أن الحل النهائي لأزمة النزوح يتطلب "خطة وطنية شاملة وتدخلاً دولياً يضمن عودة النازحين إلى مناطقهم بكرامة وأمان".
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: بین النازحین حرب أهلیة فی لبنان حزب الله على أن إلى أن
إقرأ أيضاً:
الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية
يأخذك الحديث وأنت تتأمل فيلم غيوم لمُزنة المسافر إلى التطور الفني والموضوعي في تجربتها، موضوعا التعددية الثقافية والعرقية في المجتمع العماني كمصدر ثراء غني، تتجه إليه مزنة في استقصائها الطويل، مزيلة وهم ما يفصل بيننا، عبر البحث عن ما يجمع بيننا ويأتلف في نسيج اجتماعي واحد. عبر هذا الثراء العرقي واللغوي نخلق تجانسنا الحقيقي، التجانس المميز لمجتمعنا منذ جذوره التاريخية البعيدة. فنيا يشكل فيلم غيوم تحولا نوعيا تخرج به مزنة عن الطرح الأفقي للتجربة، عن أحكام البداية فتتسلسل الأحداث وصولا إلى نهايتها. فيلم غيوم يخرج عن القوالب التقليدية في السينما منحازا إلى شاعريتها، الغائب والماضي والمفقود هم من يشكل وهج الأحداث، ويدفع بشخوصه إلى المحبة والأسى والفراق والندم، محكومة بالماضي الذي تسدل ظلال أحداثه على الحاضر والمستقبل معا. فنيا ينحاز السيناريو إلى الصورة السينمائية عنه إلى الحوار، الصورة خاصة في تجسيدها المباشر لملامح شخوص الفيلم، قادرة حقا على نقل عواطفهم واختلاجات قلوبهم، سينمائيا تضفي هذه اللغة الجمال السينمائي، الذي تريد مزنة إيصاله إلينا، ما لا يستطيع الحوار نقله عبر السينما.
اختيار مُزنة لطرح تجربتها جبال ظفار، عائدة بنا إلى عام ١٩٧٨م، أي بعد ثلاثة أعوام من نهاية حرب الجبل بعد حرب طويلة استمرّت عشرة أعوام. هذه الحرب هي الماضي الذي يثقل أرواح رعاة الجبل، الماضي الذي يسدل على الحياة مشاعر الفقدان والخوف من عودة الحرب ثانية. الحرب التي تركت في كل منزل قتيلًا، أو قريبًا لقتيل، أحرقت المراعي وفتكت بالإبل مصدر حياة سكانه، والأثقل أنها تركت روح الفرقة بين أبناء الجبل، نظرا لتغير مواقفهم من موقع إلى آخر، ذلك ما نقرأ ثقله في حياة بطل الفيلم دبلان الذي يتحول بعد الحرب إلى رجل منطو على نفسه، يرفض مشاركة الناس أفراحهم وأحزانهم ويقضي معظم وقته في العناية ببندقيته، وملئها بالرصاص حتى تكون جاهزة للقضاء على النمر في أي وقت تتكرر عودة الحرب ثانية إلى جبال ظفار.
مزنة في هذا الفيلم العميق والشاعري في آن تبتعد عن تقديم الرصاص والقصف والقتلى، كما أن المرأة القتيلة لم تظهر في الفيلم أبدا، رغم ظهور ذكراها المتواصل، كهاجس يومي يلازم حياة الأب وابنه عمر وابنته سلمى، المرأة ومقتلها الغامض هي السر المكتوم في الفيلم، ابنها عمر كل ليلة ينام في حضن أخته الكبرى، متخيلا والدته تنام على سحابة بعيدة في السماء، يراقب أباه يوميا أثناء تنظيف وتعمير بندقيته، محاولا أكثر من مرة خطفها منه، دون أن يتبين لنا السبب المباشر لذلك، حتى نجاح اختطافه البندقية في مشهد سينمائي أخاذ، يوجّه فيه عمر البندقية إلى صدر أبيه طالبا منه فك لغز اختفاء أمه، تكون الفرصة مؤاتية آنذاك للأب للاعتراف لابنه وابنته أن الأم قد توفيت برصاصة طائشة أثناء معارك الجبل، دون أن يحدد من أي طرف جاءت الرصاصة، ذكاء مزنة يوقف التجربة برمتها أمام تقييم جديد يكشفه التاريخ في مستقبل الأيام، والوقت ما زال باكرا لإدانة طرف ضد آخر، فقط الخوف من عودة الحرب ثانية، هي النمر الذي يستعد دبلان يوميا لمواجهته. وأخيرا لتعليم ابنه طريقة استخدام البندقية لقتل النمر وحش الحرب قبل وصوله إلى الجبال.
مصدر إيحاء غيوم هي مجموعة من الصور الوثائقية التقطها والدها الفنان موسى المسافر، الذي دون شك عاصر مرارة تلك الأحداث، تكشف لنا جانبا مهما من حياة أبناء الجبل في ظفار أثناء الحرب وبعد انتهائها. من تلك الصور الوثائقية استمدت مزنة هذا الإلهام المتدفق، وصاغت سيناريو فيلم غيوم، الذي يأتي ليس لإدانة طرف دون آخر، بل لإدانة الحروب البشرية برمتها، ذلك لأنها نظرت لنتائجها الوخيمة في عيني دبلان رب العائلة الذي مع خروجه حيا منها إلا أنه خرج مهزوما فاقد القدرة على الحياة، معذبا بالماضي الذي قدمته مزنة كنمر يفترس كل ما أمامه دون تمييز ورحمة.
مزنة تعي جيدا آثار الحروب على تغيير العلاقات الاجتماعية بين البشر، العلاقة بين دبلان وشيخ القبيلة بعد الحرب، ليست هي العلاقة إياها قبل الحرب، يتقدم شيخ القبيلة المتقدم في العمر لخطبة سلمى صبية دبلان، المرتبطة بعلاقة عاطفية مع سالم الصبي الجبلي من جيلها. يقف دبلان وهو راعي الإبل الجبلي موقفا متقدما عندما يرفض تزويج ابنته شيخ القبيلة الثري، مزوجا إياها الصبي الفقير مع مباركة الأب له بحبات من شجرة اللبان الأسطورية والتي تصل محبة أبناء الجبل لها إلى درجة التقديس، نظرا لارتباط استخدامها بطقوس دينية في معابد الأديان الهندية بل وفي معابد الأديان السماوية قديما.
الفيلم ناطق بالشحرية لغة رعاة الجبال بظفار، كان ذلك ضروريا، هذا ما أدركته مزنة، منذ بداية اشتغالها على المشهد السينمائي العماني، بما يحمله من تنوع عرقي وثقافي أخاذ منذ قديم الزمان. قبلها قدمت فيلم شولو الناطق بالسواحيلية وفيلم بشك الوثائقي الناطق بالبلوشية. هي السينمائية التي لا تعترف بفوارق وهمية بين أبناء الوطن الواحد، القادرة على اكتشاف النسيج الاجتماعي المخفي، الرابط أبناءه روحيا على أرض واحدة، وتحت سماء واحدة.
فيلم تشولو، تناقش مُزنة فيه تجربة الانتماء الوطني والحنين إلى الجذور البعيدة خلف البحار، تدور أحداثه في زنجبار، موطن أساسي لهجرة العمانيين عبر التاريخ لقرون مضت، يستقبل تشولو الصبي أخاه عبدالله القادم من عُمان، يعيشان معا توافق البحث عن جذورهم المشتركة، يتعرضان للاعتداء من رجال أفارقة بسبب انتماء عبدالله العربي الواضح في لونه، تتراءى عمان وطنا بعيدا مجهولا لتشولو، أرضا سحرية لن يعود إليها أبدا، يعود عبدالله مع أبيه ويظل تشولو ينظر إلى البحر، إلى السفن وهي تبحر عائدة إلى عمان التي لن يراها أبدا، هكذا تتكرر تجربة الماضي الساكن كقيد يرتبط به المرؤ. ولكن بشكل إيجابي في تشولو عنه في غيوم، مزنة تتجاوز تجربة الحنين النوستالجي إلى الماضي، في الفيلمين تنظر إلى الماضي كقيد يجب علينا كسره والانطلاق إلى المستقبل دون الالتفات إليه. خاصة في مرارة أحداثه كما هو في فيلم غيوم، حيث يبقى الدم الأفريقي العماني المشترك، تجربة حضارة مشتركة أيضا، تغذي النسيج الاجتماعي العماني بخصوبة العطاء في فيلم تشولو، أي أنها تنطلق من الإيجابي في ثراء الوجود العماني بشرق إفريقيا، الثراء الذي دفع بالأفارقة إلى ما هو مثمر، حيث حمل العمانيون معهم الأساليب الحديثة في الزراعة، وارتياد آفاق العمل التجاري، ونشر الدين الإسلامي وغيرها من الدلائل الحضارية المهمة، التي تؤكد إيجابية وجودهم المبكر في شرق إفريقيا. وحش الماضي الذي يصوب له دبلان وابنه عمر البندقية لمواجهته، يحتفظ له تشولو وأخيه عبدالله بمئة قطعة من المندازي الذي خبزته لهما جدتهم الإفريقية، يحشوان فم النمر المفترس بها حتى لا يكون قادرا على افتراسهما معا. ذلك دون شك مشهد طفولي ساحر يؤكد وحدة الأخوين ضد وحش الحرب المأساوية بين العمانيين والأفارقة، أي من المحبة المشتركة بينهما نخلق إمكانية التعايش المشترك والوحش الذي يطعمه الطفلان العماني والأفريقي المندازي، هي الحرب التي خلقت روح الكراهية بينهما، وآن لنا جميعا طي صفحاتها الدموية، نحو خلق عالم أجمل لأجيالنا القادمة.
مُزنة التي جاءت بعد ستين عاما على مأساة خروج العمانيين من شرق إفريقيا بطريقة مأساوية فقد فيها العمانيون الآلاف من أبنائهم ثم أنها جاءت بعد خمسين عاما أيضا بعد نهاية حرب الجبل بظفار، تنصت إلى أوراق التاريخ التي تحفظ لنا ما فقد وتم نسيانه، مؤهلة حقا للذهاب أبعد مستقبلا، نحو تقديم تجارب العطاء العماني المتدفق عبر التاريخ، ورفد السينما العمانية الناشئة بلغة شاعرية متميزة، ذلك حقا جوهر الفن الطليعي الجاد، يضيء كالنجوم ترشد المسافرين في ليل البحار إلى المجهول.
فيلم غيوم /روائي قصير /ناطق بالشحرية/ جائزة أفضل فيلم روائي قصير /المهرجان السينمائي الخليجي ٢٠٢٤م. إخراج مزنة المسافر.
فيلم تشولو/ روائي قصير/ ناطق بالسواحيلية /جائزة أفضل سيناريو /مهرجان أبوظبي السينمائي ٢٠١٤ م. إخراج مزنة المسافر.
سماء عيسى شاعر عُماني