لجريدة عمان:
2024-11-01@04:31:51 GMT

ها نحن ألقينا نظرة خاطفة على العالم القادم

تاريخ النشر: 30th, October 2024 GMT

في قمة عالمية فخمة عقدت الأسبوع الماضي في مدينة كازان الروسية، تحدث رئيس الوزراء الإثيوبي أبيي أحمد الذي كان مدللًا لدى الغرب -والفائز بجائزة نوبل في السلام والحليف القوي سابقا للولايات المتحدة- فصب الثناء صبا على مستضيفه فلاديمير بوتين، عدو النظام القائم على القواعد.

قال أبيي «اسمحوا لي أن أهنئكم على الحفاظ على المرونة الاقتصادية في فترة عصيبة.

هذه الفترة لم تكن يسيرة على روسيا، لكنكم نجحتم في ظل قيادتك في الحفاظ على المرونة الاقتصادية التي قد تكون مثلا يحتذيه أغلبنا».

قد يبدو هذا للأذن التي لا تألفه إطراء أجوف مما نعهده في كلمات الزعماء العالميين. ولكن بالنسبة لي، كان ذلك دالا على مفترق طرق خطير أمام عالمنا الذي مزقه انعدام المساواة وحاصره من الأزمات ما لا نهاية له. كان ذلك لمحة لعالم قادم ومثالًا لتوازن القوى المتغير الذي يفلت زمامه أكثر فأكثر من قبضة الغرب.

أبيي أحمد رجل طموح يبني أمة ويرأس أحد أسرع الاقتصادات الإفريقية نموا. وهو أيضا في خلاف متزايد مع الغرب، وما كان ذكره للمرونة الروسية في مواجهة العقوبات شديدة القسوة إلا تحذيرا غير خفي تماما. ففي حال محاولة الغرب احتواء خطوات أبيي العدوانية في منطقته الاستراتيجية الحيوية، فإن لبلده في روسيا بوتين حليفا وقدوة.

كان أبيي يتحدث أمام قمة دول بريكس السنوية، وهي أكبر تجمع لزعماء العالم في روسيا منذ بدء حربها على أوكرانيا سنة 2022. ولقد كان القصد من تلك الفعالية شديدة الفخامة هو الاستعراض أمام الغرب بأن محاولته لعزل بوتين عقابًا له على غزو أوكرانيا قد أخفقت.

بدا بوتين وهو في زمرة من زعماء أكثر من ثلاثين بلدًا أشبه بالقط الذي التهم العصفور، فهو الرجل الذي تحتوي قائمة اتصالاته السريعة أغنى رجل في العالم أي إيلون ماسك، وهو الذي تردد أنه أجرى اتصالات خاصة مع رئيس الولايات المتحدة السابق وربما القادم دونالد ترامب. حضر أمين عام الأمم المتحدة أيضا فأثار العجب بأولى زياراته إلى روسيا منذ أكثر من سنتين. وفي مؤتمر صحفي بنهاية القمة مضى بوتين يسخر من معذبيه الغربيين.

قال بوتين وهو يستعرض إحصاءات نمو روسيا التي يقول صندوق النقد الدولي إنها سوف تتفوق على اقتصادات متقدمة أخرى في هذا العام «مثلما ترون، لا نزال نعيش ونعمل على نحو طبيعي، واقتصادنا يتطور». وعليه في هذا أن يوجه شكرا غير قليل للصفقات التي أبرمها مع زملائه من أعضاء بريكس، وأحقهم بالشكر الهند والصين، فكلتاهما من أكبر مستوردي النفط في العالم وكلتاهما مصدر حيوي للتجارة بالنسبة لروسيا في مواجهة العقوبات.

بدا أن بوتين يقول (حظًا سعيدًا لكم، أنتم ونظامكم القائم على القواعد. أما أنا وأصدقائي فنقيم مستقبلًا آخر).

كان الطريق طويلا من قمة بريكس الأولى، وكلمة بريكس اختصار نحته جولدمان ساكس ليشير به إلى الدول الصاعدة المستفيدة من العولمة والترابط في العالم والصانعة لهذا العالم. اجتمعت هذه القوى -البرازيل وروسيا والهند والصين، مع إضافة جنوب أفريقيا في وقت لاحق- للمرة الأولى في عام 2009 في ظل الأزمة المالية العالمية مطالبة بنصيب من السلطة في العالم الخاضع للسيطرة الغربية بما يتناسب مع قوتها الاقتصادية والجيوسياسية المتزايدة. وفي ذلك الوقت كان هذا يمثل -بالنسبة لأغلب القوى المعنية- مجموعة من المطالب العاجلة والمقبولة نسبيا.

بدا الغرب من جانبه مستعدًا للترحيب بهذه التغييرات، ولكن وفقًا لجدوله الزمني وشروطه. فقال أوليفر ستونكل، أستاذ العلوم السياسية البرازيلي الألماني والخبير في تحالف بريكس «كان ثمة دائمًا إجماع على أن التعددية القطبية محتومة ومرغوبة في آن واحد وأنها لن تؤدي إلى تفكك النظام. ولم يكن من حديث عن حرب باردة جديدة».

بعد خمسة عشر عاما، يبدو العالم شديد الاختلاف. إذ اجتاحت كوكب الأرض حروب ووباء وأزمة مناخية وما هو أكثر من ذلك. ولقد ولت منذ أمد بعيد روح العولمة التفاؤلية التي سادت فترة نهاية الحرب الباردة، وحلت بدلا منها في أماكن كثيرة من العالم عودة مناقضة إلى القومية المنكفئة على النفس بدافع المصلحة الذاتية الضيقة غير القابلة لربح مشترك.

وسط هذه الاضطرابات، مضت المطالبة بالإصلاح إلى حد كبير دونما استجابة. فيبقى الدولار الأمريكي هو العملة المهيمنة على التجارة العالمية ومجموعة الاقتصادات السبعة المتطورة الثرية تلعب دورًا أكبر في صياغة الاقتصاد العالمي يثير استياء الدول الأفقر. والمؤسسات المالية العالمية القوية التي تسيطر على حياة المليارات من البشر، من قبيل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، مستمرة على ما درجت عليه من الخضوع لقيادة أوروبا والولايات المتحدة. والمؤسسات التي نشأت عند نهاية الحرب العالمية الثانية للمساعدة في ضمان السلام العالمي تبقى خاضعة للغرب.

في الوقت نفسه ابتعدت روسيا والصين عن الغرب ابتعادًا حادًا ووحدتا قواهما توحيدًا كبيرا سعيًا إلى توحيد العالم النامي ضد أنانية الهيمنة الغربية التي لا تفسح مجالا يذكر لصعود الآخرين. ويزعم البلدان أنهما ينطقان بصوت «الأغلبية العالمية»، وذلك مصطلح بدأ بوتين في الآونة الأخيرة يستعمله بشيء من الإفراط، ولو أنه يشير في حالته إلى مسألة انتهازية لا مسألة تضامن.

ولكنه يتفق مع مجموعة حقيقية تماما من الاستياءات التي ظللت أسمعها بمزيد من الغضب والإحباط من زعماء وباحثين ومواطنين عوام في أرجاء الجنوب العالمي. فهم يسمعون من الشمال العالمي مجموعة من الرسائل الموجهة إلى العالم الفقير: لا تتجاوزوا حدودنا، ولا تتاجروا إلا بشروطنا. (والعولمة انسوها، سنركز على البناء في الداخل). أسهموا في تحمل عبء تقليل الانبعاثات ولا تنتظروا الكثير من العون في التعامل مع تغير المناخ، برغم حقيقة أننا تاريخيًا الذين تسببنا في الضرر كله تقريبا. ساندونا فيما يتعلق بسيادة أوكرانيا وفي إدانة اللامبالاة الروسية بالضحايا المدنيين. أنصتوا إلى عظاتنا فيما يتعلق بحقوق الإنسان والديمقراطية والقانون الدولي، وإياكم والتساؤل عن دعمنا لحرب إسرائيل الدموية في غزة.

ثمة بالطبع فوارق دقيقة، وحجج تعارض هذه التصورات. لكن من الصعب على أحد أن يجحد حقيقة أساسية مفادها أن توازن القوى العالمي لا يعكس الشكل الفعلي للقوة الاقتصادية والسياسية بل ولا يميل في الاتجاه الحتمي لانتقال تلك القوة -وهو جنوب العالم وشرقه- في العقود القادمة.

وهكذا، على هذه الخلفية، جمع بوتين أعضاء كتلة بريكس التي توسعت حديثًا لتضم مصر وإيران والإمارات بالإضافة إلى إثيوبيا، وكثيرا من البلاد المفاجئة وأبرزها تركيا، وهي عضو في حلف شمال الأطلنطي وكانت ذات يوم طامحة إلى عضوية الاتحاد الأوروبي.

من المؤكد أن هذه الكتلة أقرب إلى جمع من البلاد المتباينة التي تتفاوت مصالحها وتتعارض في كثير من الأحيان. فبالنسبة لبعض الأعضاء الجدد والبلاد الطامحة، من قبيل إيران وفنزويلا، تتمثل الجاذبية بوضوح في الانضمام وربما السعي إلى حماية محور الصين وروسيا المناهض للغرب. لكن الأعضاء الأصليين في الكتلة منقسمون حيال الهدف من التحالف. بالنسبة لبعض أقوى أولئك اللاعبين، يتمثل الهدف في التحوط، والعثور على ميزة في أي مجال ممكن، وتذكير الغرب بأن ثمة خيارات أخرى متاحة.

وبرغم كل حديث بريكس عن إيجاد مؤسسات بديلة للمؤسسات الخاضعة لسيطرة الغرب، لم تحرز الكتلة تقدما كبيرا. فبنكها التنموي الذي أقيم لمنافسة البنك الدولي ضئيل نسبيا. ولم تقترب الكتلة من إيجاد عملة بديلة للدولار، برغم أن التبادلات التجارية بالعملات المحلية بين الأعضاء في صعود.

وترفض الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا الميل الصريح المناهض للغرب وتسعى إلى نهج أكثر مرونة وتعددية. وللهند بالطبع منافسة جيواستراتيجية عميقة مع الصين. وتشكل حدود جبال الهيمالايا التي تتنازعان عليها نقطة اشتعال نووية خطيرة، على الرغم من أنهما توصلتا عشية القمة إلى اتفاق من شأنه أن يخفف التوترات في الوقت الحالي. ومع ذلك، يخوض البلدان معركة ضارية على مكانة القوة الأكثر بروزا في آسيا. فالهند هي أكثر دول العالم سكانًا ولديها أسرع الاقتصادات الكبيرة نموا، ولديها تراث طويل في رسم مسارها متعدد الأطراف في الشؤون العالمية، مدركة لقوتها في تشكيل الأحداث.

قال لي كومفورت إيرو، رئيس مجموعة الأزمات الدولية ورئيسها التنفيذي «إن دول مجموعة بريكس واجهت صعوبة في تبني خطوط مشتركة بشأن الأزمات الكبرى في العام الماضي بسبب ما بينها من خلافات سياسية عميقة».

والواقع أن مشاهدة أحداث القمة من بعيد أظهرها وكأنها ليست جهدًا لقيادة العالم في اتجاه جديد بقدر ما هي سعي إلى إضعاف القوى التي تقود النظام الحالي من خلال استغلال أنانية ونفاق قادتها. وقد وفرت أزمة غزة، بصفة خاصة، قدرا كبيرا من الغذاء للرؤساء المستبدين... لكن انتهازيتهم الكريهة لا تخفف من تهمة ازدواج المعايير الغربي.

وهذا ما يرجع بي إلى إثيوبيا، وهي البلد الذي يعرف جيدا عدم ثبات الغرب على مبادئه المعلنة. ففي عام 1935، غزت إيطاليا الفاشية إثيوبيا وهي من الدول القليلة في إفريقيا التي لم تخضع قط للاستعمار. فسعى زعيم إثيوبيا، الإمبراطور هيلا سيلاسي، إلى الحصول على دعم وحماية عصبة الأمم وهي سلف الأمم المتحدة.

قال في خطاب ألقاه أمام الزعماء المجتمعين: «إذا حدث ووجدت حكومة قوية أنها تستطيع أن تدمر شعبا ضعيفا دونما عقاب، فقد حان الوقت لأن يناشد هذا الشعب الضعيف عصبة الأمم لكي تصدر حكمها بكل حرية. وسوف يتذكر الله والتاريخ حكمكم».

فلم يلق نداؤه آذانا مصغية. وساعد عدم حماية عصبة الأمم لإثيوبيا في تسريع المسيرة نحو حرب عالمية مدمرة. وكان سيلاسي محقا: فقد تذكر التاريخ بالفعل حكم عصبة الأمم، ولم يتذكره بلطف شديد.

قد يبدو من المفارقات أن يصطف أبيي في تصريحاته إلى جانب المعتدي في صراع معاصر يشكل تهديدا مماثلًا للنظام العالمي الحالي. لكن أبيي، شأن بوتن، دارس لتاريخ بلده الإمبراطوري وشغوف به. وإن كان سيلاسي قد توسل إلى الأقوياء لحماية الضعفاء، يبدو أن أبيي عازم على ألا يكون الضعيف في المقام الأول.

ومع ذلك، لا أعتقد أن إثيوبيا تريد أن تكون في جانب المنبوذين. فثمة فارق بين الشكوى من الدولار وأسعار الفائدة المرتفعة وبين التذمر من محاضرات الديمقراطية وحقوق الإنسان من الغرب الذي يبدو إما متعاميا عن معاييره المزدوجة أو متغطرسًا لدرجة أنه لم تعد لديه القوة الكافية لفرض نفاقه. لكنني أستبعد على كثير من هذه الدول، وهي موطن لما يقترب من نصف البشرية، أن تفصل نفسها عن النظام العالمي القائم طوعًا لصالح نظام تهيمن عليه الصين، وهي قوة اقتصادية واستراتيجية عظمى في طور التكوين، وشريكتها الصغيرة روسيا.

لقد كان من الصعب على الوفود في كازان أن تغفل عن علامات عزلة روسيا، برغم كل البذخ. إذ طولبت الوفود بإحضار كميات كبيرة من النقود بالدولار الأمريكي أو اليورو لأن بطاقات الائتمان الخاصة بأعضائها لن تعمل في روسيا، وذلك بسبب العقوبات. ولو أن نسخة التعددية الراهنة تبدو في شكل مساعدة قوات كورية شمالية لروسيا في استعمار دولة مستقلة، فهي إذن أشبه بمذاق كوكاكولا مزيفة، ومن الصعب أن نتخيل العالم الصاعد راضيا بغير الأصلي. فلماذا تريد دولة ناشئة سريعة النمو أن ترمي بثقلها مع مظالم روسيا، حتى لو فعلت الصين ذلك؟

والخبر السار هو أن الوقت لا يزال متاحًا لتغيير النظام القائم وأن الكثير من الشركاء المهمين على استعداد للمشاركة في هذا الجهد. ففي غضون أسابيع قليلة، سوف تجتمع مجموعة العشرين، وهي نادٍ يضم أكبر اقتصادات العالم، في البرازيل. وسوف يتوجه العديد من الزعماء الذين اجتمعوا في كازان إلى ريو دي جانيرو إلى جانب قوى صاعدة أخرى في جنوب العالم، للقاء مع القوى الكبرى في شمال العالم يقام على أرض أكثر توازنا.

والزعيم الذي لن يحضر هو فلاديمير بوتن: بسبب مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية، وهي رمز منهك ولكنه دائم من رموز النظام القائم على القواعد وطموحاته مهما اعتوره من النقص إلى بناء عالم أعدل. ومن الصعب أن نتخيل لحظة أكثر ملاءمة، في غيابه، لكي يغتنم الغرب الفرصة ويبدأ، بصدق، في التنازل عن سلطة لبقية العالم.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: عصبة الأمم فی العالم من الصعب أکثر من

إقرأ أيضاً:

الغرب.. حضارة زائفة وأيادٍ ملطخة بالدماء

كثيراً ما ينظر إلى العالم الغربي على أنه قمة التطور الإنساني ومنارة التقدم العلمي والتكنولوجي. يُبجَّل في الإعلام كرمز للرقي الحضاري، بينما الحقيقة التي تُخفيها هذه الصورة المزعومة هي تاريخ مظلم مليء بالانتهاكات والقهر والاستبداد للشعوب.
لقد أسس الغرب حضارته على أنقاض الشعوب المضطهدة واستغل مواردها وثرواتها، واستمر في فرض هيمنته على العالم بوسائل تتناقض مع المبادئ الإنسانية التي يتغنى بها. ما يبدو عليه من قوة وعظمة ليس إلا وهماً يخفي وراءه تاريخاً حافلاً بالقهر والدمار. مجده المصطنع لم يُبنَ إلا على أشلاء الضحايا وصوت الأنين المكتوم لأولئك الذين جُرّدوا من حريتهم وحقوقهم. وبينما تتغنى بقيم الحرية والمساواة، نجد في الواقع أنه لا يعيش إلا على نقيض تلك القيم. a
في فلسطين، تتجلى أمام العالم صورة مشوهة يتصدرها الغرب، حيث يظهر اليد سخية تمد العون للاحتلال الإسرائيلي. ذلك العون لا يتمثل في دعم عابر أو مساعدة بسيطة، بل يأتي في صورة تدفقات مالية سخية وتسليح متواصل يمكِّن إسرائيل من انتزاع أرض عربية كانت يوماً موطناً آمناً لأصحابها، وكأن التاريخ يُعاد كتابته ليصبح المحتلّ صاحب الأرض، بينما يُقتلع الفلسطيني من جذوره العميقة، مجبراً على ترك ما تبقى من تراثه وهويته.
الغرب، الذي يدعي أنه الحارس للقانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان، يتحول إلى مظلة واسعة تتيح لهذا الاحتلال ممارسة أفظع الجرائم بحق شعب أعزل. تحت تلك المظلة، تُدمر المنازل بأهلها، وتتحول إلى قبور جماعية لعائلات بأكملها. تتعالى أصوات القذائف لتُخرس أصوات الحياة في المستشفيات والمدارس، وكأن كل حجر أو جدار فلسطيني هو عدو يجب القضاء عليه.
وفي مشهد المفارقة، يقف العالم متردداً، يراقب بعيون باردة ما يحدث، وكأن الدم الفلسطيني ليس له ذات الوزن أو القيمة. فبينما تُدمر بيوت الفلسطينيين، تُبنى المستوطنات، وبينما تمزق القذائف جسد الأرض، يستمر الدعم الغربي للكيان الإسرائيلي، حتى باتت حياة الفلسطينيين ليست سوى ومضات بين قصف وآخر، بين دمعة ودم.
وفي لبنان، يتواصل الاحتلال الصهيوني، متكئاً على دعم الغرب بقيادة الولايات المتحدة، ليعيد إنتاج مشاهد العدوان والتدمير بصورة رتيبة تتكرر دون وازع أو ضمير. احتلال لا يفرق بين مدينة مزدهرة نابضة بالحياة أو قرية تنعم بالهدوء، ولا بين شيخ أرهقته الأيام ووهنت عزيمته، أو طفل لم يلامس الأرض بعد بقدميه البريئتين. وما نشهده اليوم ليس سوى فصل جديد من الألم والمعاناة، رواية قديمة لا تكتبها قوى الغرب بمداد من دماء، وما زالت مستمرة في كتابة صفحاتها المظلمة.
ولم تكن الجرائم الغربية مقتصرة على فلسطين ولبنان وحدهما؛ بل إنها تأتي ضمن مشروع استعماري مترامي الأطراف يستهدف العالم العربي والإسلامي برمته. فمن الصومال إلى أفغانستان، ومن العراق إلى سوريا وليبيا، وحتى اليمن، يبقى التاريخ شاهداً على حقبة طويلة من المعاناة، حيث تتوالى صفحات الدمار والخسائر. وكأنما هذا المشروع الاستعماري يسعى لتحويل المنطقة إلى ركام من الخراب المتواصل، مدعوماً بأساليب متعددة ومتوحشة.
لم تتجسد هذه الممارسات العدوانية في الحروب والصواريخ والقنابل فقط؛ بل امتدت لتشمل أسلحة من نوع آخر، لا تقل ضراوة وخطورة، وهي العقوبات الاقتصادية التي تستهدف شريان الحياة ذاته. هذه العقوبات، التي تبدو للوهلة الأولى موجهة للأنظمة السياسية، سرعان ما تتحول إلى خنجر في خاصرة الشعوب، فتضرب بيوت الآمنين وتقلب حياتهم رأساً على عقب، لتتحول حياتهم إلى كفاح يومي من أجل البقاء. وكأن العالم العربي والإسلامي يعيش بين شقي الرحى، حيث تختلط السياسات الاستعمارية بالهيمنة الاقتصادية لتخلق واقعاً من الظلم المستدام، مفعم بالحسرة والدموع، وكأنما الغرب بقيادة الولايات المتحدة، قد نصب نفسه قاضياً وجلاداً في آنٍ واحد.
ذلك الغرب الذي يرفع شعارات الإنسانية وحقوق الإنسان، ليس إلا قناعاً يخفي خلفه تاريخاً طويلاً من القمع والإبادة. وجهه الذي يدّعي نضارته ما هو إلا ستار يخفي بشاعة حقيقية، يحاول أن يغسله بماء الدعاية الإعلامية، لكنه لا يستطيع أن يمحو آثار الدماء التي التصقت به.
ولقد شهد العالم على وحشية هذا الغرب في مناسبات لا تحصى. فمن التطهير العرقي لقبائل الأونداجو، الموهوك، والشيروكي، واحتلال فيما يُعرف اليوم بالأمريكيتين، وصولاً إلى قائمة طويلة من الجرائم التي ارتكبت بحق الشعوب العالم، كقصف مدينتي هيروشيما وناغازاكي بالقنابل الذرية، وجرائم الاستعمار في العالم العربي، بالإضافة إلى ما تعرضت له القارة الإفريقية على مدى قرون من حملات استعمارية غربية، نرى صورة واضحة للوجه الآخر لهذا الغرب.
وما يزيد المأساة أن هذه القوى الغربية تُظهر نفسها كحاملة لواء التمدن والتقدم، تشرّع القوانين الدولية لتدين الضعفاء، لكنها تستثني نفسها من المساءلة كلما ارتكبت مذابح جماعية. إنها منظومة استعمارية لا تنتمي إلى زمن الإنسانية أو القيم الحقيقية، بل تستمد قوتها من خراب العالم. بقاءها في نظر حكوماتها يعتمد على إشعال الحروب وسحق أي مقاومة تسعى للحرية والكرامة.
هكذا يبقى التاريخ ماثلاً أمامنا، ليس كقصة ماضية تنسى، بل كمرآة تعكس تناقضات السياسة الغربية؛ حيث تدفن المبادئ تحت أنقاض المصالح، وتمحى الإنسانية بوقع البوارج والدبابات والطائرات.
لكن، ورغم كل هذه الجرائم والفظائع، تظل الإرادة الإنسانية حاضرة، فهي السلاح الأخير لمن فقدوا كل شيء. والإرادة في النهاية لا تقصف.

مقالات مشابهة

  • لافروف: الغرب ضاعف جهوده لردع روسيا عشر مرات وفشل
  • تطور مثير.. روسيا تتدخل عسكريا لإنقاذ قائد الحرس الثوري الإيراني في اليمن بعملية خاطفة!! ”صورة”
  • موسكو: "شيطنة" الغرب للعلاقات بين روسيا وكوريا الشمالية لا أساس لها من الصحة
  • ترامب؟ أم هاريس؟ أيهما يفضل بوتين أن يكون هو الرئيس القادم للولايات المتحدة؟
  • لافروف: قمة بريكس تعكس فشل الغرب في عزل روسيا
  • الغرب.. حضارة زائفة وأيادٍ ملطخة بالدماء
  • وسيلة لردع الغرب.. بوتين يأمر بإجراء تمرين نووي للقوات الروسية
  • تحت إشراف بوتين..تدريبات نووية استراتيجية في روسيا
  • شـواطئ.. روسيا والغرب.. لمن الغلبة؟ (8)