فـي التقرير الذي نشره جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة مؤخرا حول التجاوزات التي طالت بعض الأجهزة الحكومية، وشبه الحكومية، مؤشر على الاتجاه الذي تتجه إليه الدولة، والذي يعتمد على أمرين مهمين هما: الرقابة الصارمة، والشفافـية الواضحة، وهما العاملان اللذان يحددان معالم المرحلة القادمة، ويعملان على إنشاء نظام رقابي قوي، ومتماسك، يتيح مزيدا من التنظيم، وإعادة هيكلة المنظومة الحكومية الرقابية.
ولعل حجم التجاوزات التي نُشرت، وطريقتها، يعكسان خللا هيكليا موجودا فـي نظام الرقابة الداخلية للمؤسسات، والدورة المالية التي تمر بها الحسابات، وتسلسل الإجراءات الإدارية، وهي تحديات يحاول «جهاز الرقابة» سدّها بكل الطرق المحاسبية الحديثة، وتضييق الخناق على الثغرات التي يتسلل منها سرّاق المال العام، وتطوير أجهزة وأدوات البحث عن طرق التحايل الوظيفـي، وعدم إغفال تلك الفجوات التي تبرز بين حين وآخر، وكل هذه التحديات تحتاج إلى عمل دؤوب ومتواصل، كما تحتاج إلى شخصية إدارية قوية مدعومة من أعلى الهرم المؤسسي فـي الدولة، وهذا هو الحاصل حاليا، حيث أصبح جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة اليوم يقوم بواجباته دون خشية أو مجاملة لأحد، وما نشرته التقارير فـي وسائل الإعلام المحلي مؤشر جيد على أن الممارسات الخاطئة لن تمر مرور الكرام، ولن تخفى عن أعين المواطن، ولعل ذلك أيضا يصب فـي مصلحة موثوقية الحكومة فـي الخارج، وسعيها الجاد لبتر يد الفساد من منابته. ومع كل هذه الجهود المثمنة من المؤسسة الرقابية الأولى فـي الدولة، يبقى دور وسائل الإعلام المحلية فـي كشف وفضح أي تجاوزات مالية أو إدارية قد تحدث فـي أي جهة كانت، وهو دور مكمل ومساند لجهود «الجهاز»، وعين أخرى للمسؤولين فـي الدولة، فالاكتفاء بدور الناقل للحدث، والمستقبل للخبر لم يعد ذا أهمية فـي ظل وسائل التواصل الاجتماعي، الذي بدأ فـي تجاوز الإعلام التقليدي، وأصبح الأسرع، والأقرب للناس، رغم كل السلبيات التي تشوب عملية النقل والتوصيل فـي هذه الوسائل الحديثة، وهو ما يضاعف من جهود جهات الرقابة التي يجب أن تتلقى كل شكوى أو ملحوظة بجدية تامة، وتبحث عن مدى صدقها، وتسعى لكشف الحقيقة، لتوضيح الصورة الواقعية للرأي العام، ولذلك تظل «الصحافة الاستقصائية» فـي الإعلام التقليدي واحدة من ضرورات التحول الإعلامي، وهو ما يجعله فـي موقع متقدم، ومهني بشكل أكبر، خاصة وأن هذه التحقيقات يجب أن تكون مدعومة، وموثقة بالمستندات، والوثائق، والأدلة، وهو ما يجعلها ذات مصداقية كبيرة. إن الصحافة هي السلطة الرابعة، والإعلام هو عين المسؤول على الأرض، وعليهما أن يأخذا دورهما الرقابي الذي هو أساس نشوء الصحافة التقليدية، وأن لا تكتفـي وسائل الإعلام بنقل الأخبار الرسمية، والاعتيادية التي لا تهم إلا فئات محددة، ومحدودة، وغير مؤثرة أحيانا فـي صنع القرار، ولذلك تحتاج الرقابة إلى عناصر فاعلة، وممكنات مهنية، لكي تساعد المؤسسات الرقابية الرسمية فـي الدولة على أداء مهامها، والوصول إلى مناخ آمن، وبيئة صحية للعمل، وطمأنة المواطن أن مقدراته، ومكتسباته فـي أيد أمينة، وأنه يعيش فـي دولة القانون التي تطبق التشريعات، والقوانين على كل أفراد المجتمع، وأنه لا مكان للمتجاوزين فـي هذا الوطن العظيم. |
|
|
|
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية:
فـی الدولة
إقرأ أيضاً:
التشكيك: سلاح خفي في الحرب النفسية التي تشنها المليشيات
في الحروب، لا تُطلق النيران فقط من فوهات البنادق والمدافع، بل تنطلق أيضاً من وراء الشاشات وصفحات التواصل، عبر رسائل مشبوهة وأحاديث مثبطة، في إطار ما يُعرف بالحرب النفسية. ومن بين أبرز أدوات هذه الحرب وأكثرها خبثاً: “التشكيك”. هذا السلاح الناعم تُديره غرف إلكترونية متخصصة تابعة للمليشيات، تهدف إلى زعزعة الثقة، وتفتيت الجبهة الداخلية، وبث الهزيمة النفسية في قلوب الناس، حتى وإن انتصروا في الميدان.
التشكيك في الانتصارات العسكرية، أحد أكثر الأساليب استخداماً هو تصوير الانتصارات المتحققة على الأرض من قِبل القوات المسلحة السودانية على أنها “انسحابات تكتيكية” من قبل المليشيات، أو أنها “اتفاقات غير معلنة”. يُروّج لذلك عبر رسائل تحمل طابعاً تحليلياً هادئاً، يلبسونها لبوس المنطق والرصانة، لكنها في الحقيقة مدفوعة الأجر وتُدار بخبث بالغ. الهدف منها بسيط: أن يفقد الناس ثقتهم في جيشهم، وأن تتآكل روحهم المعنوية.
التشكيك في قدرة الدولة على إعادة الإعمار، لا يكاد يمر يوم دون أن نقرأ رسالة أو منشوراً يسخر من فكرة إعادة الإعمار، خصوصاً في مجالات الكهرباء والمياه وإصلاح البنى التحتية المدمرة. هذه الرسائل تهدف إلى زرع الإحباط وجعل الناس يشعرون أن لا جدوى من الصمود، وأن الدولة عاجزة تماماً. لكن الواقع أثبت أن إرادة الشعوب، حين تتسلح بالإيمان والثقة، أقوى من أي دمار، وقد بدأت بالفعل ملامح إعادة الحياة تظهر في أكثر من مكان، رغم ضيق الموارد وشدة الظروف.
التشكيك في جرائم النهب المنظمة، مؤخراً، لاحظنا حملة تشكيك واسعة، تُحاول التغطية على جرائم النهب والسلب والانتهاكات التي ارتكبتها المليشيات طوال عامين. الحملة لا تنكر تلك الجرائم بشكل مباشر، بل تثير أسئلة مغلّفة بعبارات تبدو عقلانية، لكنها في جوهرها مصممة بعناية لإثارة دخان كثيف ونقل التركيز نحو جهات أخرى.
كيف نُساهم – دون قصد – في نشر التشكيك؟ المؤسف أن الكثير منا يتداول مثل هذه الرسائل بعفوية، وأحياناً بدافع الحزن أو القلق على الوطن، دون أن يتوقف ليتساءل: من كتب هذه الرسالة؟ ولماذا الآن؟ وما الذي تهدف إليه؟ وبهذا نُصبح – دون أن ندري – أدوات في ماكينة التشكيك التي تخدم أجندة المليشيات وتطعن في ظهر الوطن.
كيف نواجه هذه الحرب النفسية؟
الرد لا يكون بصمتنا أو بتكرار الرسائل المشككة، بل بـ:
وقف تداول أي رسالة مجهولة المصدر أو الكاتب.
عدم إعادة نشر أي محتوى يحمل ظنوناً أو يشكك أو يُحبط أو يثير اليأس.
نشر الإيجابيات، وبث الأمل، وتعزيز الثقة بالله أولاً، ثم بمؤسسات الدولة مهما كانت لدينا من ملاحظات أو انتقادات.
في الختام، التشكيك لا يبني وطناً، بل يهدمه حجراً حجراً. فلنكن على وعي، ولنُفشل هذا السلاح الخفي، بمناعة داخلية قائمة على الإيمان، والعقل، والأمل، والثقة بأن الوطن سيعود أقوى، ما دام فينا من يرفض الانكسار ويؤمن بأن النصر لا يبدأ من الجبهة، بل من القلب والعقل.
عميد شرطة (م)
عمر محمد عثمان
٢١ أبريل ٢٠٢٥م
إنضم لقناة النيلين على واتساب