صناعة الحروب واختلاق الأزمات
تاريخ النشر: 30th, October 2024 GMT
حمد الناصري
قرون مضت على الحروب التقليدية التي كانت تسبقها منازلة بين أقوى فرسان الطرفين لتعطي الدافع للقتال بحماس وشجاعة، ويتحدد من خلالها تفوق وهيمنة طرف على حساب الآخر، أما حروب اليوم فقد تغيرت المعايير ولم يعد للشجاعة والقوة والحماس تأثيرات كبيرة وأصبحت تلك الحروب تعتمد بنسبة كبيرة جدًا على التفوق التكنولوجي وكفاءة وقوة الأسلحة وتتوقف عليها في حسم المعارك وكسر إرادة الطرف الآخر.
وقد كتب الصحفي والإعلامي كمال الذيب في صحيفة الوطن البحرينية بتاريخ 9 يونيو 2022 مقالًا حول نظرية الحروب الدائمة وصناعة الأزمات، وقال فيه: "إن نظرية الحرب الدائمة تقوم على فبركة وافتعال المخاطر والتهديدات والأزمات الدولية، لتبرير التدخل في شؤون الدول الأخرى، ولتبرير التمويل العسكري والاستثمار فيه، ليكون في ظاهره دفاعًا عن الأمن القومي، وفي حقيقته تكريسًا لمنطق الربح في صناعة السلاح والاتجار فيه. وهذا ما نراه اليوم في تضخم الترسانات العسكرية والعسكرة المفرطة في العالم، حتى أصبح اقتصاد الحرب أحد أهم الطرق لتكريس هيمنة المجمع الصناعي العسكري. ومن هنا يمكننا فهم ما يجري من حروب".
وأتفقُ مع وجهة نظر الكاتب كمال الذيب، وأعتقد أن حروب وأزمات الوقت الحاضر تدار بمبدأ الربح المادي بغض النظر عن المعايير الانسانية والأخلاقية.
ويضيف الكاتب الذيب "من هنا جاءت نظرية ’الحرب الدائمة‘ التي تتبعها عدد من الدول الرأسمالية الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية التي يكاد يكون تاريخها هو تاريخ الحروب الدائمة، استجابة لضغط المصالح التي يمثلها ’المجمع العسكري الصناعي‘ الذي يتعامل مع الحروب باعتبارها استثمارًا مربحًا، حتى أصبح القطاع العسكري ليس المولد الرئيسي للثروة فحسب، بل والمولد الرئيسي للتقدم العلمي والتكنولوجي وأحد أهم مستهلكي ثماره".
ونجد الكاتب يؤكد بعقلانية، ما قام به أعضاء في الكونغرس الأمريكي من الديمقراطيين والجمهوريين، حين اتهموا الإدارة الامريكية الحالية بعجزها التام عن قيادة العالم؛ لأن القيادة الحقيقية لا تفرضها المواجهات العسكرية وثقافة الحرب الدائمة. أما محاولات فرض العملقة بالقوة وجر العالم إلى منازعات ساخنة لإخفاء المشكلات الحقيقية التي خلقها نظام الرأسمالي.
وكما هو معروف من أساليب التعامل مع الأزمات فهناك مصطلحان مهمان ورئيسيان هما "إدارة الأزمات" و"الإدارة بالأزمات"، والأول واضح وجلي وله أساليبه واستراتيجياته، أما الثاني وهو ما نشهده في أغلب الصراعات والحروب في العقود الخمسة الأخيرة؛ حيث تبدأ الحرب بافتعال أزمة مخطط لها لتنتهي بصراع قد لا ينتهي. وخلال ذلك الصراع تتدخل "الأطراف المفتعلة المستفيدة" لتأجيج نيران الحروب وجني ثمارها المادية والعسكرية والسياسية ويتم بنفس الوقت إشغال الشعوب عما يتم حياكته من دسائس ومؤامرات تجري في الخفاء ليصحو العالم على أزمات وكوارث كبرى تهز كيانه وتدمر ما تبقى من نسيج اجتماعي وأخلاقي.
ورغم كل التهويل الاعلامي لأزمات صغيرة وبنفس الوقت التعتيم على كوارث كبرى، فقد بدأت أغلبية الشعوب بإدراك هذه اللعبة الدموية وتعالت أصوات كثيرة في كل أنحاء الأرض فاضحة تلك الممارسات ومطالبة بإنهاء كل أشكال الحروب والصراعات في العالم.
وحول استراتيجية القوة الذكية في إدارة الازمة الدولية ودورها في التعامل مع أزمات العصر، تحدث الصحفي محمد وائل القيسي في مجلة "دراسات إقليمية"، عن أن الازمة الدولية الحالية ظاهرة سياسية متجددة بصورة مستمرة في عالم السیاسة المتغیر بمدخلات سریعة التدفق، طبقًا لتقاطع المصالح والنفوذ وحرکة الأداء، ونطاق الفعل للقوى الدولیة وسواها من الإقلیمیة، الأمر الذی یتطلب معها اعتماد استراتيجية محکمة التطبیق لمواجهتها، وإدارتها أحیانًا، أو الإدارة بها في أحیان أخرى، وهذا ما یتوائم مع أنموذج الدراسة المعتمد "استراتيجية القوة الذکیة".
وكنتيجة لتطور فكر التعامل مع الأزمات الدولية، نرى تلك المعادلة الجامعة بين صناعة الحروب وبين اختلاق الأزمات، يمكن حلها بتبني ثقافة السلام، ومعالجة الأحداث السياسية التي تسبق الازمات والحروب بحكمة وتروي لوأد الفتنة قبل حدوثها وتطويق الأزمات بمختلف مستوياتها وأنواعها لمنع انتشار تأثيراتها وتخفيف أضرارها؛ فأغلب بؤر الصراعات الناشئة عبارة عن بؤر مرحلية وتوترات مرتجلة، وهي في المحصلة عبارة عن أزمات ظاهرة في مراحل تتنامى حدتها وتنشط أحداثها وتتطور إلى أزمة أكبر ثم صراع وحرب، وبذلك تكون صناعة الحروب هو في الأساس أمر مختلق ومخطط له وتم رسم مساراته بعناية حتى وإن تخللتها حلول وسطية أو مؤقتة لحين إيجاد حلول جذرية تنهي الصراع وهذا ما لا يرضي مفتعلي الأزمات والحروب فيلجؤون إلى تأجيج النيران بأزمات أخرى لكي لا يعطوا أي فرصة للحلول المستدامة.
خلاصة القول.. إن ترسيخ ثقافة السلام وإدراك الشعوب والحكومات بعبثية الحروب وأضرارها المدمرة في كل نواحي الحياة قد يفتح آفاقًا جديدة لإنهاء كل الصراعات والحروب من جذورها وحسم النهايات السائبة وإلى الأبد، كما إن التوصل إلى فكر ذي ثقافة خالية من التوترات والتهديدات يقوم على دعم قوي وإصلاحات جذرية في هيئة الأمم المتحدة وأخواتها من المنظمات الأممية والقارية؛ لهو حاجة ملحة لتحقيق عالم جديد تتناغم فيه المعتقدات والأفكار، لكل الشعوب ضمن ثقافة التعايش بسلام واستقرار طال انتظارهما.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
دراسة: الحروب تلحق أضراراً بالحمض النووي للأطفال
خلصت دراسة جديدة إلى أن الأطفال الذين يعيشون في بلدان تمزقها الحروب، لا يعانون فقط من مشكلات في الصحة النفسية، بل من المحتمل أيضاً أن يتعرضوا لتغيرات بيولوجية في الحمض النووي "دي.إن.إيه"، يمكن أن تستمر آثارها الصحية مدى الحياة.
وأجرى الباحثون تحليلات للحمض النووي لعينات لعاب تم جمعها من 1507 لاجئين سوريين تتراوح أعمارهم بين ستة و19 عاماً يعيشون في تجمعات سكنية عشوائية في لبنان، وراجعوا أيضاً استبيانات أجريت للأطفال والقائمين على رعايتهم، شملت أسئلة عن تعرض الطفل لأحداث مرتبطة بالحرب.
رد فعل بيولوجي فريد من نوعهوظهرت في عينات الأطفال الذين تعرضوا لأحداث الحرب تغيرات متعددة في مثيلة الحمض النووي، وهي عملية تفاعل كيميائي تؤدي إلى تشغيل جينات أو تعطيلها.
وقال الباحثون إن بعض هذه التغيرات ارتبطت بالجينات المشاركة في وظائف حيوية مثل التواصل بين الخلايا العصبية ونقل المواد داخل الخلايا.
وقال الباحثون إن هذه التغيرات لم تُرصد لدى من تعرضوا لصدمات أخرى، مثل الفقر أو التنمر، مما يشير إلى أن الحرب قد تؤدي إلى رد فعل بيولوجي فريد من نوعه.
وعلى الرغم من تأثر الأطفال من الذكور والإناث على حد سواء، ظهرت في عينات الإناث تأثيرات بيولوجية أكبر، مما يشير إلى أنهن قد يكن أكثر عرضة لخطر التأثيرات طويلة الأمد للصدمة على مستوى الجزيئات.
وقال مايكل بلوس رئيس الفريق، الذي أعد الدراسة في جامعة سري في المملكة المتحدة، في بيان "من المعروف أن للحرب تأثيرا سلبيا على الصحة النفسية للأطفال، إلا أن دراستنا خلصت إلى أدلة على الآليات البيولوجية الكامنة وراء هذا التأثير".
وأشار بلوس أيضاً إلى أن التعبير الجيني، وهو عملية منظمة تسمح للخلية بالاستجابة لبيئتها المتغيرة، لدى الأطفال الذين تعرضوا للحرب لا يتماشى مع ما هو متوقع لفئاتهم العمرية، وقال "قد يعني هذا أن الحرب قد تؤثر على نموهم".
وعلى الرغم من محاولات الباحثين لرصد تأثيرات مدى شدة التعرض للحرب، خلصوا في تقرير نُشر يوم الأربعاء في مجلة جاما للطب النفسي إلى أن "من المرجح أن هذا النهج لا يقدر تماماً تعقيدات الحرب" أو تأثير أحداث الحرب المتكررة على الأطفال.
وتشير تقديرات منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسف" إلى أن نحو 400 مليون طفل على مستوى العالم يعيشون في مناطق صراع أو فروا منها.