جريدة الرؤية العمانية:
2025-05-02@06:48:30 GMT

الأساتذة المصريون في عُمان

تاريخ النشر: 30th, October 2024 GMT

الأساتذة المصريون في عُمان

 

 

يا موعدين بالهنا عَلبخت دلوني

 

 

د. سعيد بن سليمان العيسائي **

 

يتحدثُ مقالنا اليومَ عن الأساتذةِ المصريينَ الذين عَمِلوا في السلطنة، وكان لهم حظ وافر عند عودتهم إلى وطنهم مصر، وقد تحدثت عن التواصل الثقافي والحضاري بين مصر وعُمان في محاضرة ألقيتها في اتحاد كُتَّابِ مصر عام 2013 عندما كنت مُلحقًا ثقافيًا بالقاهرة.

وليس بغريب أن يكون عنوان مقالنا هو أغنية للفنان المصري عبد الغني السيد، المولود في القاهرة عام 1908، والمتوفى في 9 ديسمبر عام 1962 ، وهي من أغاني الزمن الجميل. ومقالنا هذا هو جزء واستمرار لتلك المحاضرة، وللصالون الثقافي الذي أقمناه في القاهرة قبل أسابيع، والذي كان موضوعه عن التواصل الثقافي والحضاري بين مصر وعُمان، وقدَّم فيه رموز الفكر والثقافة والفن أوراق عمل ومداخلات قيمة.

ونشير هنا إلى مقال الأستاذ أحمد الفلاحي، الكاتب والأديب، الذي عمل في حقل الإعلام والصحافة منذ بداية النهضة عام 1970، وعمل مساعدًا للملحق الثقافي بالقاهرة لسنوات، مكَّنته هذه الميزات من أن يطلع على مجال التعاون الإعلامي بين مصر وعُمان، كما مكَّنته مقالته التي عنوانها: (التواصل الإعلامي بين مصر وعُمان)، التي نشرها في صحيفة عُمان، وتحدث فيها عن بعض الصحفيين المصريين الذين زاروا عُمان قبل عام 1970 ، ودَونُوا ملاحظاتهم ومُشاهداتهم، ونشروها في بعض المجلات والصحف المصرية القديمة، كما أشار إلى ما نشره بعض العلماء والشعراء العُمانيين في بعض تلك الصحف والمجلات، وخَصَصَ الجزء الأخير من مقاله للحديث عن بعض الصحفيين المصريين الذين عَمَلوا في بعض الصُّحف والمجلات العُمانية.

والملاحظ على هذا المقال أنه ركَّز على جوانب من التعاون الصحفي بين مصر وعُمان، ولم يتطرق إلى بعض الجوانب الإعلامية الأخرى.

وفى إطار حديثنا عن التواصل الثقافي والحضاري بين مصر وعُمان نود أن نشير إلى ندوة: (العلماء العُمانيون والأزهريون والقواسم المشتركة) التي عُقِدت بجامعة السلطان قابوس خلال الفترة من 3 إلى 5 جُمادى الأخرة 1434هـ، الموافق 14 إلى 16 إبريل 2013م، حَضَرَ هذه الندوة عدد كبير من العلماء العُمانيين والأزهريين، وقدمت فيها أوراق عمل مهمة تناولت العلاقات بين الأزهر وعُمان عبر عُقودٍ من الزمان، وقد تشرفت بحضور هذه الندوة بترشيح وتزكية من العلماء المشاركين.

وقبل أن ندخل في الحديث عن عمل الأساتدة المصريين في السلطنة نودُّ أن نشير إلى خطاب للرئيس الراحل محمد حسني مبارك، شاهدته في التليفزيون المصري قبل سنوات طويلة، يقول فيه باللهجة المصرية: "هُوَ فِيهَا إِيه لمَّا الواحدْ يُخرج بَرْا عَشان يِحَوِّش قِرشين حِلوين لِعْيَالُه".

وذكر لي أحد كبار المسوولين العُمانيين أنه عندما قابل الرئيس المصري الراحل محمد مرسي، حاملًا رسالة من السلطان قابوس، قال له الرئيس مرسي: "إنَّ أحد أهم أوجه مساعدة مصر هو النظر في إمكانية استيعاب كفاءاتها وخبراتها للعمل في السلطنة".

ونقصد بالأساتدة المصريين المحظوظين أو الموعودين في مقالنا، هم أولئك الأساتذة الذين عملوا في السلطنة، وعادوا إلى بلدهم مصر، وحصلوا على مناصب ووظائف قيادية مرموقة؛ حيث أصبح منهم الوزراء، ورؤساء الجامعات، ونواب رؤساء الجامعات والعُمداء، ورؤساء تحرير الصحف.

فمن الوزراء: فضيلة الدكتور شوقي علام مفتي الجمهورية الأسبق، ومعالي الشيخ الدكتور محمد صابر عرب، وزير الثقافة الأسبق، ومعالي الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف السابق، ومعالي الدكتور شاكر عبد الحميد وزير الثقافة الأسبق.

ومن رؤساء الجامعات: الأستاذ الدكتور عبد الحي عزب، رئيس جامعة الأزهر الأسبق، والأستاذ الدكتور ماجد نجم رئيس جامعة حلوان الأسبق.

ومن نواب رؤساء الجامعات: الأستاذ الدكتور جمال رجب سيدبي نائب رئيس جامعة السويس الأسبق.

ومن الذين حصلوا على منصب عميد كلية: الأستاذ الدكتور أحمد درويش، والأستاذ الدكتور أحمد كشك، والأستاذ الدكتور عبد الحميد زهري، والأستاذ الدكتور سعد خلف عبد الوهاب، والأستاذ الدكتور محمود عباس عابدين.

ومن العمداء: الأستاذ الدكتورحسن عماد مكاوي عميد كلية الإعلام الأسبق بجامعة القاهرة، والحاصل على جائزة الدولة التقديرية، والأستاذة الدكتورة سهام نصَّار التي عملت بقسم الإعلام بجامعة  السلطان قابوس، وكلية العلوم التطبيقية بصحار، وعندما عادت تولت منصب عميد كلية الإعلام بجامعة سيناء.

أمَّا الذين حصلوا على وظيفة رؤساء قسم في كلياتهم وجامعاتهم فهم كثر.

وإذا انتقلنا إلى الصحفيين الذين عملوا في السلطنة، وحصلوا على رؤساء تحرير في وطنهم الأم مصر، فنذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الكاتب الصحفي محمد الهواري، الذي عَمِلَ في صحيفة عُمان، وتولى رئاسة مجلس إدارة الأخبار. والكاتب الصحفي ممتاز القط، الذي عَمِلَ في صحيفة عُمان، وتولى رئاسة تحرير الأخبار. والكاتب الصحفي عبد الناصر سلامة، الذي عَمِلَ في صحيفة عُمان، وأصبح رئيسًا لتحرير جريدة الأهرام. والكاتب الصحفي سامي حامد، الذي عَمِلَ مديرًا لتحرير جريدة الوطن لعشرين عامًا، وعندما عاد تولى رئاسة تحرير جريدة المساء. والكاتب الصحفي محمد القصبي، الذي عَمِلَ مديرًا لتحرير مجلة الأسرة لعشرين عامًا، وعندما عاد عمل مديرا لتحرير جريدة الأخبار المسائية.

وأشير هنا إلى أنَّ المرحوم محمد القصبي، حضر المحاضرة التي ألقيتها في اتحاد كُتاب مصر عام 2013، والتي امتلأ فيها المسرح عن بَكْرَةِ أبيه، وكتب فيها الأستاذ محمد مقالًا بعنوان: "هل يترشح الدكتور الكاتب سعيد العيسائي في عُضوية مجلس الشعب المصري؟"، وكان عنوان المحاضرة عن التواصل الثقافي والحضاري بين مصر وعُمان.

وفي عام 2023 نشر مقالة في صحيفة الرؤية بعنوان: "نحن والعُمانيون.. هل قدرًا ساذجًا؟"، وكان هذا المقال قبل وفاته بشهرين، وأشار فيها إلى مقالته التي نشرها في صُحفٍ مصرية شهيرة كالأهرام والجمهورية إلى تلك المحاضرة، وكرر مقولته مرة أخرى: (هل يترشح الكاتب الدكتور سعيد العيسائي لعضوية مجلس الشعب المصري؟). وإن دلَّ هذا على شيء فإنما يدل على وفائه، وحُبه للبلد الذي عَمِلَ فيه، رحمة الله على الصحفي والكاتب والروائي محمد القصبي، وأسكنه فسيح جناته.

ومن الصحفيين الذين عملوا في صحيفة عُمان الكاتب الصحفي حسين عبد الغني، الذي أصبح مديرًا لمكتب قناة الجزيرة الإخبارية بالقاهرة.

زمن الإعلاميين: الأستاذ الإعلامي محمد الوكيل، الذي عَمِلَ في أخبار تليفزيون سلطنة عُمان، وعندما عاد للقاهرة تولى رئاسة قطاع الأخبار في التليفزيون المصري.

وعندما عملتُ مراجعًا ومُدققًا لغويًا في دائرة الأخبار بتليفزيون سلطنة عُمان لمدة عامين في بداية التسعينيات كان يعمل في الدائرة 3 محررين مصريين:  أحدهما اسمه: صبحي، والثاني: رجب، ولعل الثالث هو: محمد الوكيل.

ومن الذين جمعوا بين الصحافة والإعلام الدكتور عبد الحميد الموافي، الذي عَمِلَ في صحيفة عُمان، واستفادت منه دائرة الأخبار بإذاعة سلطنة عُمان. وأذكر أنه كان يكتب تحليلات سياسية بجريدة عُمان لعدة سنوات.

وسمعت أنَّ الإعلامي المصري الكبير أمين بسيوني، كان يتعاون مع وزارة الإعلام العُمانية بشكل غير ثابت؛ حيث كان يتردد بين القاهرة ومسقط بشكل دائم ومستمر.

ومن الذين جمعوا بين الصحافة والإعلام إبراهيم شعراوي، الذي كان يكتب في الصحافة العُمانية مقالات ذات طابع ثقافي، ويعد برامج ثقافية في إذاعة سلطنة عُمان آنذاك، والواضح أنه كان يعمل مُعلمًا للغة العربية بوزارة التربية والتعليم.

ومن الذين كانوا يُعدون برامج ومسلسلات تليفزيونية ذات طابع ثقافي وتاريخي أبو الوفا القاضي، الذي كان يعمل مُوجهًا للغة العربية في مسقط.

ونود أن نشير هنا إلى الدكتور يوسف شوقي، الذي أسس مركز عُمان للموسيقى التقليدية، وكان يُعِدُّ ويقدم برنامجًا أسبوعيًا في هذا المجال هو حصيلة زياراته وتسجيلاته للفنون التقليدية في مُعظم مُدن وولايات السلطنة.

ولا ننسى أن نشير إلى بعض الصحفيين المصريين الذين عملوا في السلطنة، ولم يحالفهم الحظ في الحصول على وظائف قيادية، أو مناصب، ومنهم: الصحفي والكاتب والروائي محمد جبريل، الذي عمل مديرًا لتحرير جريدة الوطن لعدة سنوات. ومنهم كذلك الكاتب الأستاذ أحمد سليم، الذي عمل مديرًا لتحرير مجلة العقيدة الذي كلفني بإجراء لقاء صحفي مع أحدِ كبارِ المسؤولين السعوديين، وكان يقيم في فندق قصر البستان ، وكتبت في هذه المجلة عدة مقالات عندما كان الأخ الأستاذ المرحوم مبارك العامري نائبًا لمدير التحرير.

وأذكر أنَّ أحمد سليم كان يعلق صورة له مع أحد الرئيسين السادات، أو محمد حسني مبارك، وهو يصافحه على المنصة.

ومنهم كذلك: محمد رضوان، الذي عمل مديرًا لتحرير مجلة النهضة، التي كتبت فيها عددًا من المقالات.

ومن الصحفيين الذين عملوا في صحيفتي عُمان والوطن، وحصلوا على وظائف قيادية في صحف الأخبار والجمهورية والمساء محمد الهواري، وممتاز القط، وفتحي سند، ومحمد علي إبراهيم، وخالد إمام، ولا أنسى هنا الأستاذ عبد الستار خليف الصحفي والروائي الذي عمل في صحيفة الوطن من عام 1987 إلى وفاته عام 2011، وقد زرت الأستاذ الراحل في مكتبه بجريدة الوطن، وفي منزله الذي كان لا يبعد كثيرًا عن صحيفة الوطن، وأجرى معي حوارًا صحفيًا عن الأستاذ الراحل مبارك العامري عندما كان يمر بظروف مرضية، وسألته عن الأستاذ الدكتور الناقد الكبير يوسف خليف الذي قرأت له العديد من كتبه بحكم التخصص فقال لي: إنه عمه.

ومن الأساتذة المصريين الذين كانوا يكتبون مقالات في الصحف العُمانية الأستاذ الدكتور عاطف عدلي العبد، الذي يشيد بالسلطنة بعد عودته إلى كلية إعلام القاهرة؛ حيث تحدث الأستاذ الفنان يوسف طلال، أنَّ أستاذه الدكتور عاطف كان يحدثهم عن عُمان بشكل دائم.

ومنهم الأستاذ يوسف الشاروني، الذي عملت معه بدائرة الإعلام والترجمة بشركة تنمية نفط عمان، في إحدى فترات الصيف، عندما كنت بالمرحلة الجامعية، ورأيته في حفل افتتاح الممر الجديد بسفارة السلطنة بالقاهرة، فسألته بعد مرور أكثر من 30 عامًا من أنا؟ قال: أنت سعيد العيسائي.

ومن الأمور التي تجدر الإشارة إليها أيضًا الرسائل الإعلامية في مصر وعُمان، والتي منها (رسالة عمل الإخبارية)، (رسالة القاهرة الإخبارية) ووتبادل المذيعين بين البلدين، وبخاصة مذيعو التليفزيون، واستمر هذا التعاون الإعلامي بين مصر وعُمان لعدة سنوات.

وأذكر أنَّ بدايات هذا التعاون بدأت بالمذيع التليفزيوني المصري أحمد سمير في بدايات السبعينيات من القرن الماضي، الذي كان يغطي زيارات وجولات السلطان الراحل في تلك الفترة، ولا ننسى المصور الخاص لجلالته، الأستاذ محمد مصطفى، الذي بدأ العمل مع جلالته منذ بداية السبعينيات، وحصل على الجنسية العُمانية.

ومن الذين عملوا في عُمان منذ السبعينيات، وحصلوا على الجنسية العُمانية بنداري أحمد بنداري، المتخصص في مسرح الجريمة، وكان يكتب مقالات في هذا المجال بمجلة الشرطة لعدة سنوات.

وأذكر هنا مقولة رواها لي أستاذنا الشيخ أحمد بن سعود السيابي أمين عام مكتب الإفتاء، الذي كان يتردد على القاهرة عدة مرات في العام للاجتماع بعلماء الأزهر، ومسؤولي وزارة الأوقاف حين يقول: "إنَّ هولاء العلماء كانوا يبتدرون قائلين لزملائهم الذين لم يتح لهم العمل في السلطنة إن من أراد أن يحصل على منصب منكم في مصر فليعمل في عمان أولًا".

وإذا كنا قد خصصنا مقالنا هذا للأساتذة المصريين الذين عملوا في عمان، وحصلوا على مناصب عندما عادوا إلى مصر، فإن هناك الآلأف من المصريين الذين عملوا في السلطنة لسنوات طويلة في وظائف أخرى كالطب والتعليم والهندسة وغيرها، وحصلوا على خيرٍ كثير غير المناصب.

** كاتب وأكاديمي

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

الأسرى الذين أطلق سراحهم من السجون الإسرائيلية.. دورهم بقيادة النهضة الفكرية

بم تمتاز هذه الشريحة من الناس؟ نفروا في سبيل الله ثم خاضوا غمار السجون لسنوات طويلة قضوها في القراءة والبحث والتربية والتزكية النفسية والخبرات الأمنية والبصيرة السياسية والتبحّر في معرفة العدوّ لغة وسياسة واقتصادا وأمنا وثقافة، وأهم من هذا كلّه أنّهم فقهوا الدين على محك التجربة والعمل فوصلوا إلى ما لا يصل إليه النظريون، الذين تفقهوا بعيدا عن ساحات العمل والمواجهة.

الفرق بين هؤلاء وهؤلاء ما بين السماء والأرض، وهذا ما علينا أن ننتبه له جيدا وأن نعلي من شأن من فقهوا في الميدان وأن نأخذ ما وصلوا إليه. وسأضرب لذلك أمثلة، ولكن قبل ذلك أودّ أن نعرّج على قول الله تعالى: "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون"، وهنا نقف عند استخدام كلمة نفروا حيث إنّها تستخدم لمن خرج للجهاد، فهذا الفهم الذي وصل إليه المجاهدون من أحكام من عمق تجربتهم ومن صميم خبرتهم في الميدان، هو الفقه العملي الذي وصلوا إليه في جهادهم ولو لم يخرجوا لما وصلوا إليه أو لبقي فهمهم نظريا بعيدا عن الاستفادة من واقع تجربتهم وجهادهم.

لذلك فإن واجب هؤلاء المفكرين والفقهاء أن يُعلّموا من لم يخرجوا في سبيل الله ولم تتغبّر أقدامهم ولم تكتو أمعاؤهم الخاوية ولم يشتبكوا مع ألدّ أعداء الله، ولم يدركوا كيف تتنزّل آيات آل عمران والتوبة والأنفال والأحزاب ومحمد على قلوب الرجال وعند اشتداد الالتحام مع صفوف الأعداء. عسكريا وسياسيا وأمنيا وثقافيا، هناك مسائل كثيرة لا تتضح أمورها إلا في ميادين العمل والمواجهة.

إذا هناك فقه لا يصل إليه القاعدون بينما يصل إليه المجاهدون فيسبرون غوره ويستنبطون منه الأحكام، هناك مستجدّات تواجههم فيجتهدون وغالبا ما يكون ذلك بشكل جماعي ليصلوا إلى ترجيح ما يرون فيه صوابا، فالفقيه هنا ليس الذي يميّز بين المصلحة والمفسدة، وإنما قد يوضع في مواقف ليرجح أقلّ المفسدتين ضررا أو ليرجح بين مصلحة ومصلحة ليصل إلى أفضل المصلحتين. كثير من أهل الفقه لا يفقهون السياسة ولا يسبرون غورها، فإذا تحدّثوا في السياسة ظهر ضعفهم وجمودهم الذي لا يصيب الدين ولا السياسة، وهم يعتقدون أنّهم خير من يجسّد المبادئ والعقائد والأصول الدينيّة الثابتة، بينما الأمر يتطلّب الحنكة السياسيّة والمرونة التي تتعامل مع معطيات المسائل المطروحة بما يصل إلى الصوابية والرشد والوصول إلى الأهداف المطلوبة.

وهناك أيضا "ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون" يصلون إلى القدرة العالية على تحسّس المخاطر التي تتعرض اليها شعوبهم وأمتهم خاصّة الأمنية والسياسية، ويعرفون كيف توظّف الإمكانات المحدودة في لتجنّب هذه المخاطر.

"لعلّهم يحذرون" يُحذّرون قومهم بعد أن درسوا تفاصيل المعركة المحتدمة في ميادين السياسة والأمن والثقافة، ومن خلال معرفتهم التفصيلية والعميقة لعقل عدوّهم وطريقة تفكيره السياسية والأمنية ومعرفة ثقافته بكلّ أبعادها من باب "من عرف لغة قوم أمن شرّهم". هم بذلك الانخراط في معركة الوعي يملكون قدرات عالية على أن يحذّروا أمّتهم بعد هذا الرجوع العظيم من تلك الرحلة الطويلة في ميدان الفقه العملي ومعركة الوعي مع هذا العدو الذي اشتبكوا معه من خنادق متقدّمة عمرا مديدا هو فترة وجودهم في السجن.

باختصار، هم الأكثر كفاءة وقدرة على قيادة طوفان الوعي وهم المؤهّلون ليكونوا المرجعية العليا لمسائل كثيرة لن يفقهها على أصولها مثلهم خاصة ما لها علاقة في فقه الأولويات ومتطلبات المعركة، لأن هذه المعركة ليست معركة بين جماعة أو تنظيم صغير اشتبك مع المشروع الصهيوني المدعوم من كل طواغيت الشرّ في العالم، بل هي معركة الأمّة.

لقد وصلوا على سبيل المثال إلى القدرة العالية على بناء الذات بامتياز، وهم متفرغون لهذا الأمر في محاضن خاصة شكّلتها تجربتهم التربوية في السجون، بإمكانهم المساهمة تربويا في كيف يكون البناء للشخصية القادرة على مواجهة مخاطر المشروع الصهيوني العالمي.

وصلوا إلى الكفاءة العالية في معرفة تفاصيل العقل الصهيوني وثقافته وسرديّته، وكيفية الاشتباك مع هذه الثقافة بكفاءة عالية واقتدار يحسم الأمر لصالح هويتنا الثقافية ويحسن تحصينها ويعزّز من قدراتها على الاشتباك المنتصر.

وصلوا إلى الكفاءة السياسية العالية في الاستفادة من قدرات الأمّة، ومعالجة تراكمات سلبية جعلت من التناقضات المذهبية تطغى على المشتركات التي تصنع وحدة الأمة وتوظف قدراتها كافة؛ بدل تبديدها في حالة من التخلّف الفكري الذي يشتّت ويضعف بدل أن يجمع ويوحّد، إضافة إلى أنها تملأ مساحات واسعة من الفضاء المعرفي والفكري في نقاشات لا طائل منها سوى الشحن الطائفي والمذهبي المقيت.

وصلوا إلى فقه السياسات الاستعمارية والاستفادة من تجارب كثيرة من المجتمعات البشرية التي خضعت وتحرّرت، فساروا في الجغرافيا والتاريخ ليصلوا للاستفادة من كل التجارب وطرق توظيفها لصالح قضيتنا وأمتنا.

ميادين فكرية نهضوية كثيرة يستطيع هؤلاء الأسرى الفقهاء والمفكّرون أن يكونوا عناوين واضحة ومنارات فكرية تنشر ضوءها على مساحات الفكر الواسعة بما يحقّق النهضة الفكرية للأمّة، وبصراحة بما يقطع الطريق على الحالة الهلامية التي شكّلها كثيرون ممّن يتصدرون الخطاب الإسلامي بعيدا عن فقه الواقع وفقه السياسة، يظنهم الناس بقدراتهم العالية على الوعظ وحسن الخطابة والكلام في جوانب محددة من العلوم الدين أنهم المؤهّلون للحديث في شئون السياسة والأمن والاقتصاد والعلاقات والتحالفات الدولية، بينما هم في الحقيقة لا يحسنون صنعا ولا يملكون خبرة ولا تجربة ولا معرفة في هذه المجالات. الفقهاء والمفكرون المشتبكون في الميادين هم الذين يُستمع إليهم وهم المرشّحون لهذه النهضة الفكرية، وقد يكون ذلك بشكل جماعي كمؤسسات دراسية وهو الأفضل.

أذكر على سبيل المثال مركز حضارات الذي تشكّل من قبل مجموعة ممن تحدّثت عنهم، كان ذلك وهم في السجن قبل الحرب، الآن أُفرج عنهم بالتبادل وننتظر منهم أن يكملوا الطريق وأن يزوّدوا الناس بما وصلوا إليه: "ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون".

مقالات مشابهة

  • الأستاذ السيد عبدالله حسن وعبير الأمكنة
  • د.حماد عبدالله يكتب: " نصف مصر " الذى لا يعرفه المصريون !!{2}
  • الدكتور عمرو الورداني: المصريون القدماء اعتبروا العمل عبادة فبنوا حضارة
  • هل نجح الفيتناميون الذين فروا إلى أميركا في التعايش؟
  • الأسرى الذين أطلق سراحهم من السجون الإسرائيلية.. دورهم بقيادة النهضة الفكرية
  • الدكتور ربيع الغفير: النصح مسئولية الجميع.. والدعوة بالحكمة والرفق لا بالفضيحة
  • الدكتور ربيع الغفير يحذر من الناقل للكذب: يُسمى في القرآن صاحب الإفك
  • جامعة عين شمس تعتمد نتائج الفائزين بجوائزها العلمية لعام 2024 بمختلف المجالات
  • الملاكم محمد علي وحرب فيتنام: البطل الذي رفض التجنيد فعوقب على مواقفه ثم انتصر
  • فرن بلدي للمليشيا الإجرامية داخل مكتب أحد الأساتذة بجامعة الخرطوم