د. لُجين سليمان

 

لم تكن الذكرى السنوية الـ2575 لميلاد كونفوشيوس حدثًا عاديًا في الصين، فقد أُقيم بهذه المناسبة مؤتمر علمي افتُتح في قاعة الشعب الكبرى في بكين، واستمر لثلاثة أيام، وتضمن المؤتمر العديد من الأبحاث التي تناولت الكونفوشيوسية، والثقافة الصينية التقليدية، والعلاقة بين الحداثة والتراث، فضلًا عن اللغة الصينية وعلاقتها بالمفاهيم المستمدة منها والتقاليد والعادات المحيطة بها.

لن يخرج الحاضر قبل أن يدرك تمامًا أن الصين وفي خضم الحداثة والتقدم لن تتخلّى عن الماضي وما يرتبط به من تيارات فلسفية وفكرية. وعلى الرغم من الادعاءات المتكررة حول وجود تناقضات بين الاتجاه المحافظ الذي تدعو إليه الكونفوشيوسية، والنهج الثوري الذي تتبناه الماركسية، فإن الصين اليوم، بتجاوزها التفسيرات الضيقة لهذه المفاهيم، تثبت قدرتها على دمج هذه الأفكار المختلفة. وقد عبّر عن هذا التوجه الرئيس الصيني شي جين بينغ، بقوله إن "الصين الحالية يجب أن تعتبر الماركسية روحها، والثقافة الصينية التقليدية الرفيعة جذورها".

بكلماتٍ أخرى.. من يعرف الصين يدرك جيدًا أنها لا تتقدم نحو التحديث دون الاستناد إلى القديم الذي يُشكّل أساسًا لكل خطوة تخطوها. إضافة إلى ذلك، يُعَدّ فن دمج المفاهيم وتطويعها لخدمة المستقبل هدفًا أساسيًا؛ بدلًا من التركيز على الخلافات وتعميق المواجهة بين التيارات الفكرية؛ الأمر الذي قد لا يؤدي إلا إلى مزيد من الانقسام. وعلى الرغم من وجود العديد من التفسيرات الصادرة عن الأوساط الأكاديمية الغربية بشكل أساسي، والتي غالبًا ما تركز على الفجوات بين الكونفوشيوسية والماركسية، إلّا أنه بنظرة أعمق- ووفقًا للسياق التاريخي الذي ظهرت فيه تلك المفاهيم؛ سواء ما يتعلق بالماركسية أو الكونفوشيوسية- يمكن التوصل إلى استنتاج أن كلا الجانبين يركزان على مشتركات جوهرية في الإدارة والحكم.

وفي إطار تفسير بعض مظاهر الاختلاف لا بُد من الرجوع إلى الماضي. فقد نشأت الكونفوشيوسية في القرن السادس قبل الميلاد في الصين، خلال تدهور حكم أسرة "تشو"، وهي فترة اتسمت بالفوضى والحروب المستمرة. هذا الواقع دفع كونفوشيوس إلى السعي لإيجاد سبل لاستعادة النظام والاستقرار الاجتماعي، مما جعل التركيز على الانسجام والنظام جزءًا جوهريًا من تعاليمه. في المقابل، ظهرت الماركسية في القرن العشرين، وبدأ تأثيرها يتضح مع بداياته، خاصة بعد الثورة الصينية عام 1949 وتولِّي الحزب الشيوعي الصيني السُلطة. وبناءً على الخليفة التاريخية المختلفة لكل منهما يمكن القول إن الكونفوشيوسية تشكل أساسًا ثقافيًا واجتماعيًا عميقًا في التاريخ الصيني، بينما جاءت الماركسية كاستجابة للتحديات السياسية والاجتماعية في القرن العشرين؛ مما أدى إلى تغيير جذري في بنية المجتمع الصيني. 

في سياق الاختلاف الأساسي الذي يراه البعض أن "الماركسية" ثورية و"كونفوشيوس" ينطلق من نظرة محافظة، يمكن القول إنّ ديكتاتورية البروليتاريا الثورية لا تتنافى مع ما نادت به "الكونفوشيوسية" وتحديدًا ما رأه مينسيوس والذي هو أول تلميذ لكونفوشيوس؛ إذ رأى أن "الشعب هو الأغلى، يليه الأماكن المقدسة في الوطن وبعدها الحاكم"، كما إن الثورة مشروعةٌ إذا أخل الأمير (الحاكم) بواجباته وصار مجرد قاطع طريق، فيجب أن يُعامل على هذا الأساس. ولكن وكما ورد سابقًا فإن التيارات الكونفوشيوسية تتغير وفقًا لسياق التاريخي الذي ظهرت خلاله. وبالتالي فإن الاختلاف النظري بين الماركسية والكونفوشيوسية ليس جذريًا بالكامل، إذ توجد مساحة للتفاعل بينهما. فعلى الرغم من أن الماركسية تدعو إلى تغيير جذري في بنية المجتمع، فإن الكونفوشيوسية، وخاصة وفقًا لأفكار مينسيوس، تتيح إمكانية التغيير إذا كان الحاكم ظالمًا.

في كتابه "صعود الفكر الصيني الحديث" (The Rise of Modern Chinese Thought)، يُشير وانغ هوي أستاذ الأدب في جامعة تشنغهوا، إلى أن احتضان الصين للماركسية لم يكن نتيجة رفض تام للكونفوشية؛ بل قد يكون السبب في ظهور الماركسية الصينية، هو محاولة المفكرين الصينيين توظيف المبادئ الكونفوشية لمواجهة تحديات الحداثة. ويعرض الكتاب رؤية ثاقبة لصورة الصين كدولة نابضة بالتنوع الفكري والسياسي، وهي صورة تختلف تمامًا عن النظرة النمطية لدى الكثير من المهتمين بالصين من الخارج.

وفي هذا الإطار، نجد تقاطعًا بين الماركسية والكونفوشية؛ حيث يسعيان معًا إلى تحليل الواقع الصيني وتقديم حلول لمشكلات مثل الفقر، وعدم المساواة، والتحرر الوطني. هذا التفاعل بين الفكرين أتاح للماركسية أن تجد بيئة مواتية في الصين، ما أضفى على الشيوعية الصينية طابعًا خاصًا يُميزها عن الماركسية الأوروبية التقليدية. ولطالما تمتعت الصين بتنوُّع فكري وسياسي على مر العصور، ما يتعارض مع الصورة النمطية بأنها دولة ذات نهج سياسي أحادي ومُتصلِّب. ويتجلَّى هذا التنوُّع في تفاعل الفكر الصيني مع موجات الحداثة المختلفة.

وحتى إذا أخذنا مثالًا داخل الكونفوشيوسية نفسها، فإن السياق التاريخي مارس دورًا كبيرًا في تشكيل المفاهيم وظهور تيارات مختلفة، على سبيل المثال: مينسيوس في القرن الرابع قبل الميلاد عاش في فترة "الممالك المتحاربة" (Warring States Period)، وهي فترة مليئة بالاضطرابات والصراعات بين الممالك الصينية المختلفة (حوالي بين عامي 475-221 ق.م). وكان المجتمع يُعاني من حروب وانقسامات، وكان الناس يشعرون بعبء الحُكَّام الفاسدين والظالمين. ومن هذا المنطلق، كان من الطبيعي أن تكون فلسفته مُوجَّهة نحو حماية حقوق الشعب ومساءلة الحاكم.

أما ونغ زهونغ شو (خلال القرن الثاني قبل الميلاد)، فقد عاش أثناء فترة حكم أسرة هان (Han Dynasty)، وتحديدًا في مرحلة توحيد الصين تحت إمبراطورية قوية. وفي هذا السياق، كان الاستقرار والنظام أمريْن حاسميْن لاستمرار وحدة الإمبراطورية والحفاظ على قوتها. وقد سعى إلى دعم مفهوم "حكم السماء" (Mandate of Heaven)، الذي يربط شرعية الإمبراطور بإرادة السماء. وكان الهدف هو التأكيد على مركزية السُلطة ودورها في الحفاظ على استقرار الإمبراطورية. وفي تلك المرحلة، كان التحدي الأكبر هو توحيد الأراضي الصينية الواسعة وإرساء نظام سياسي قوي ومستقر، لذا رأى دونغ زهونغ شو أن تعزيز سلطة الحاكم كان ضروريًا لتحقيق هذا الهدف.

وأخيرًا.. إنَّ حجب الفكر بالتقديس عملية غير موجودة في الصين اليوم؛ فالفكر من أهم أدوات تحديث الواقع، وبناءً على ذلك، فإنَّ التيارات الفكرية تتصارع وتتوافق، ومن ثم لا بُد من أن تندمج لتحقيق الأفضل، وهو ما قد يكون أفضل تكريمٍ عَمليٍّ لكونفوشيوس في ذكرى ميلاده.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

سلطان يفتتح مهرجان الشارقة للشعر العربي في دورته الـ21

افتتح صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، مساء الاثنين، فعاليات الدورة الحادية والعشرين من مهرجان الشارقة للشعر العربي، والتي تقام خلال الفترة من 6 لغاية 12 يناير الجاري، بمشاركة أكثر من 70 شاعراً وشاعرة وناقداً وإعلامياً يمثلون الدول العربية، وذلك في قصر الثقافة بالشارقة
وشاهد صاحب السمو حاكم الشارقة والحضور في مستهل حفل الافتتاح عرضاً مصوراً حمل عنوان 'بيوت الشعر 10 أعوام من العطاء'، متناولاً أبرز إنجازات بيوت الشعر العربية وإصداراتها المتنوعة، مستمعاً سموه إلى القراءات الشعرية لكل من: الشاعر طلال الجنيبي من دولة الإمارات العربية المتحدة، والشاعر حسين العبدالله من سوريا، والشاعر طلال الصلتي من سلطنة عُمان.
وألقى الشاعر طلال الجنيبي قصيدة بعنوان 'سلطان القاسمي لحن الحياة' قال في مستهلها:
سُـــــــــــــلطان يــــا لــــــــــــحن الحـــــــــــــــياة ســــــــــلامــــــــــــــــــا ... يـــــا حــــــــــــاكماً بيــــــــــــــــن القلـــــــــــــــوب أقــــــــــــاما
لـــــــــــــــك فــــــــــــــي الضمــــــــــــــير منـــــــــــــــازل مـــرفوعة ... يــــا مــــــــــــــن بشارقـــــــــــــــــة الكــــــــــــــــــرام تسامى
طــــــــــاولــــــتم الأمجــــــــــــــــــــاد مــــــــــــــــــذ ارســــــــــــــــــــيتم ... مـــــــــــــالا يحــــــــــاكـــــــــــــي منهجـــــــاً ونظامـــــــــــا .
وأضاف:
سُــــــــــــلطان بـــــــــــات نموذجــــــــــــــــــــاً متفــــــــــــــــرداً ... بتــــــــــــــــواضـــــــــــــع للمجد قــــــــــــــاد زمــامــا
مــــــــــــــلك القلـــــــــــــــوب فــــــــــأسلمته زمـــــــــــامها ... ســـــــــــاس العـــــــــباد فأسبغ الإكراما
يـــــــا رب ألبســـــــــــه العنـــــــــــــــاية حــــــــــافـــــــــــــــــظاً ... وأرفــــــــــعه لــــــــــــه فــــــي العالمين مقاما.

وألقى الشاعر السوري حسين العبدالله قراءة شعرية بعنوان '' قال فيها :
أســــــــيراً فــــــــي المــــــــرايـــــــا بـــــــــتُّ وحـــــــــدي ... أســـــــــامــــــــــرُ عـــــــــبرتـــــــي، سُهـــــــدي، ووجدي
وأبحـــــــــــثُ فــــــي عيــــــونـــــــي عـــــــــن عيــــــــوني ... ومـــــــا دربٌ هــــــــــناك إلـــــــــــيَّ يهـــــــــدي
أضـــــــعتُ مـــــــــدينتي، وطـــــــني، و أُمـــــــــي ... وكـــــــنتُ مــــــــــعي وصــــــرتُ اليــــــــــوم ضدي.

وأضاف:
تقلـــــبني الليـــــــالـي لا تبـــــالــــي ... كــــــأنـــي فـــي يــــــــــــديهـــــــا زهـــرُ نَــــــــــــــــردِ
وظـــــــلِّي قـــــــــــــدَّ مــن دُبُــرٍ قميصي ... يقــــول: تعبتُ، قِفْ، ضيــــــــَّعت رُشدي
بشيبي لـــو تــــــــعدِّي ألــــــــفُ جرحٍ ... وقـــــــلبي فــــــيه ألــــفٌ لا تَــــعُــــــــــــدِّي.
من جانبه ألقى الشاعر العُماني طلال الصلتي قراءة شعرية بعنوان 'سفينة من الطين'جاء فيها:
مســـــــــــــافـــــــراً تاركــــــــــاً مـــــــــــن خلفه الزمــــــــــــنا ... أنــــــا المســــــــــــافــــــــــرُ يا نفسي، وليسَ أنا
أنــا المســــــــــافــــــــــــــرُ لـــــــــــــــم يفتــــــــــحْ حقــــــــــــــائبَه ... لأنــــــــــه لـــــــــــم يجـــــــــــد فــــــي المُنتهى وطــــنَا
أنــــا المســـــــــــــافرُ، قــال اللهُ: كن، فمضى ... سفينةً تعشـــــــق الإِبحــــارَ لا السفنا .
مضيفاً:
هــــذا الـــــوجود الــــذي فــــي الظلمة اختبأت ... أنــــــــوارهُ، فـــــــــإذا مــا أبصرته دنــــــا
وأشـــــــــــــــرقتْ بهما كـــــــــــــــــلُّ الجـــــــــــــــــــهات، فــــــــــــــيا ... ســـــــــفينةً تحملُ الأسرار والمُؤنا
لــــــــــــــــقد تــــــــــوقفتُ منـــــــذ الآن عــــــــــن سفري ... وآن لــي الآن أن أستوقفَ الزمنا!
وتفضل سموه بعدها بتكريم الشعراء الفائزين بالنسخة الثالثة عشر من جائزة الشارقة للشعر العربي، والذان ساهما بنتاجهما الشعري في إثراء الساحة الإبداعية لخدمة الشعر ورفد المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات الشعرية اللافتة، وهما: الشاعر طلال الجنيبي من دولة الإمارات، والشاعر حسين العبدالله من سوريا. 
كما كرم سموه الفائزين بالدورة الرابعة من جائزة الشارقة لنقد الشعر العربي، وهم: فتحي بن بلقاسم نصري من تونس بالمركز الأول، عن بحثه السير ذاتية في القصيدة العربية المعاصرة، والدكتور أحمد جار الله ياسين من العراق بالمركز الثاني، عن بحثه تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة، وإبراهيم الكراوي من المغرب بالمركز الثالث عن بحثه شعرية النص العابر للأجناس: من هاجس التأصيل إلى سؤال الحدود.
ويستعرض المهرجان خلال أيامه القراءات الشعرية، إضافة إلى ركناً لتوقيع الدواوين الشعرية لمجموعة من المبدعين، ويطل القراء العرب على 12 اسماً جديداً من الفائزين في الدورة الثالثة من جائزة القوافي الذهبية، الذين ساهموا بإبداعاتهم الشعرية في مجلة القوافي خلال 12 عدداً لعام 2024، ويصاحب المهرجان ندوة فكرية تحت عنوان 'الشعر العربي من الثبات إلى التحول' ليتعرف الجمهور من خلال مجموعة بحوث ودراسات نقدية على أبرز القضايا التي تتصل بالشعر العربي.
كما تشهد الدورة الحالية لمهرجان الشارقة للشعر العربي مشاركة شعراء أفارقة يمثلون دول السنغال، ومالي، والنيجر، وتشاد، تماشياً مع أهداف المهرجان التي تسعى إلى الإنفتاح على آفاق شعرية جديدة، وتعزيزاً لملتقيات الشعر العربي في إفريقيا.
وسيشهد المهرجان في ثاني أيامه تكريم الفائزين بجائزة القوافي الذهبية – الدورة 3، كما ستقام أمسيات شعرية وندوة فكرية تحت عنوان 'الشعر العربي من الثبات إلى التحوّل'، وقراءات شعرية، وسيختتم المهرجان فعاليات الدورة 21 بأمسية شعرية في قصر الثقافة، يشارك فيها عدداً من الشعراء العرب.
شهد حفل الافتتاح بجانب صاحب السمو حاكم الشارقة كل من: الشيخ سالم بن عبدالرحمن القاسمي رئيس مكتب سمو الحاكم، وراشد أحمد بن الشيخ رئيس الديوان الأميري، وعبدالله محمد العويس رئيس دائرة الثقافة، وعلي سالم المدفع رئيس هيئة مطار الشارقة الدولي، وخالد جاسم المدفع رئيس هيئة الإنماء التجاري والسياحي، ومحمد عبيد الزعابي رئيس دائرة التشريفات والضيافة، وعدداً من كبار المسؤولين والشعراء.

مقالات مشابهة

  • القيادة تعزي رئيس جمهورية الصين الشعبية في ضحايا الزلزال الذي وقع جنوب غرب بلاده
  • مصر تُعرب عن صادق تعازيها لجمهورية الصين الشعبية في ضحايا الزلزال الذي وقع في منطقة الجنوب
  • الأونروا: ينبغي ألا يموت طفل في القرن الـ21 بغزة لأنه يحتاج إلى بطانية
  • مقتل وإصابة أكثر من 100 شخص جراء الزلزال الذي ضرب منطقة التبت الصينية
  • سلطان يفتتح مهرجان الشارقة للشعر العربي في دورته الـ21
  • تعزيز الشراكة الصينية-الأفريقية مع زيارة وزير الخارجية الصيني لأربع دول أفريقية
  • ما حقيقة “فيروس الصين الجديد” الذي يثير مخاوف العالم ؟
  • تفاصيل جديدة بشأن الفيروس الصيني الذي يثير الهلع في العالم
  • ما حقيقة “فيروس الصين الجديد” الذي يثير مخاوف العالم؟
  • حقيقة الفيروس الصيني الذي يثير الهلع .. هل يتكرر سيناريو كوفيد-19؟