«أصيلة».. الإسلام السياسي إلى أين؟
تاريخ النشر: 30th, October 2024 GMT
آخر تحديث: 30 أكتوبر 2024 - 2:32 مبقلم: رشيد الخيّون عقد منتدى «أصيلة» بالمغرب (من 20 إلى 21 أكتوبر 2024)، ندوته «الحركات الدِّينيّة والحقل السّياسيّ: أيُّ مصير»؟ وهي واحدة مِن ثلاث ندوات، في موسمه الخامس والأربعين. تُقام النَّدوات عادة في جامعة «المعتمد بن عباد المفتوحة» بأصيلة. شارك فيها سياسيون، ومهتمون بتاريخ الإسلام السّياسيّ، مِن بلدان شتى، وفي الغالب كلٌّ قدم تجربة بلاده.
فقد اختلفت تحولات الجماعات الإسلاميّة مِن بلاد إلى أخرى، منها سُلمت لها الإدارة وفشلت، فتراجعت عن شعارها «الإسلام هو الحلّ»، وما عادت تنادي به حتّى همساً، ومنها مكنتها الظّروف، ولو أحسنت الأداء، لرفعتها النَّاس، كما رفعت جنوب أفريقيا مانديلا (ت: 2018)، لكنَّ «فاقد الشَّيء لا يعطيه»، فصارت مهيمنة بأجنحتها المسلحة، ولو قطع حبلها السّري بالخارج، لانتهت بطرفة عين، لأنّها لم تُقدم شيئاً، بل صار وجودها كارثةً على النَّاس.
نشأ الإسلام السّياسيّ مخالفاً للزمن، فالحرب العالمية الأولى (1914-1918)، أنهت عصر الإمبراطوريات، المعتمدة كونيّة الدّين، وبدأ عصر الدّولة الوطنية، فلإحياء الخلافة ظهر الحزب الدِّينيّ عابراً الدَّولة، والمخالفة الثّانيّة للزمن، أنَّ هذا الحِزب الدِّيني ليس لديه جديدٌ، القديم هو جديده، وما «الحاكميّة»، بعنوانها السّنيّ، و«ولاية الفقيه» بعنوانها الشّيعيّ، إلا لاستقدام الماضيّ تعسفاً، فالقوانين المعاصرة تُعد وضعية، وبالتالي كافرة، وعليه اعتبروا «العلمانيَّة» كافرة، يشمل ذلك رجال دين ومؤمنين، ممَن لا يرى شرعية الدَّولة الدِّينية.
طرحت النّدوة تداعيات «الرّبيع العربيّ»، وتلقفه مِن قِبل الجماعات الدِّينيَّة، فشكلت أحزابها بألفاظ لا تقر بمعانيها، وقد أجاد معروف الرُّصافي (ت: 1945) القول مبكراً: «لا يخدعنك هِتاف القوم بالوطنِ/ فالقومُ بالسرِّ غيرَ القومِ بالعلن/إحبولة الدِّين ركَّت مِن تقادِمها/ فاعتاض عنها الوراء أُحبولة الوطنِ» (الدِّيوان، الدِّين والوطن). بعد أن جُربت الجماعات السّلطة، صارت وجهاً لوجه مع المعضلات الاقتصادية والسّياسيّة، فمنيت بالانتكاس، ومَن حصل على أغلب المقاعد، صار يتمنى الأربعة، ومنها ما إن استلم السُّلطة، أسرع إلى الأسلمة بتطبيقاته.
لا تستطيع الجماعات الدينيّة الاستمرار دون الأسلمة، هذا ما طُرح في النَّدوة أيضاً، لافتاً الأنظار إلى التَّعبير السّياسي المغلف بالشّعور الدّينيّ، فبعد فقدان التّمكن، صاروا إلى كتابة الحيطان، واستخدام الأجهزة لإثارة المشاعر، على سبيل الدَّعوة، في المحلات العامة، ووسائط النَّقل، وكلُّها وسائل للأسلمة.
لم يكن هذا النّشاط بريئاً مِن محاولة إثبات الوجود، والعودة إلى تجديد الصّحوة الدّينية، التي انحسرت عن مدن اعتبرتها عَقْر دارها، مثلما الحال في الثَّمانينيات. أخذت تنفذ هذه المظاهر بإدارة حزبيّة، فمَن يعترض يُشار إليه بعداوة الدّين، على أنّ الإسلام لا وجود له إلا عبر خطابهم.
لا أحد يستطيع الدّفاع عن جماعات الإسلام السياسيّ الأولى، فالتنظيمات الإرهابيَّة اليوم أفرعها، وتجهيل المجتمع غايتها، فقد حرصت، منذ نشأتها، على إدارة التّعليم بكوادرها، وضخه بالتكفير والكراهية، وربط العِلم بالدّين، كربط الدّين بالسّياسة، فأظهروا «الاعجاز العلمي»، وهو في حقيقة الأمر أسلمة للعلم، وعلمنة للدين، بينما للدين مجاله وللعلم مجال، والخلط بينهما يُعد ضرراً على الاثنين، كلّ هذه الأفكار وغيرها طُرحت في ندوة أصيلة.
كان راعي «أصيلة»، الوزير محمد بن عيسى، يحثُ على الحديث عن المستقبل، فالغالب مِن المداخلات كان ماضوياً، وقد نعطي الحقّ للمتحدثين، لأن الزمن عند الأحزاب الدينية بعد ألف عام، هو قبل ألف عام نفسه، كذلك الحقّ لراعي المنتدى، إذا كان ما نبه إليه كعب بن زُهير (ت: 26هج) واقعاً في المجالات كافة: «ما أرانا نقول إلا مُعاراً/ أو مُعاداً مِن قولنِا مكرورا»(ابن عبد ربّه، العقد الفريد)، لكنَّ بما يخص تطبيقات الإسلام السّياسيّ، وحاكميته المعلنة عند جماعة، والمخفية لدى أخرى، نجد كعباً قد أصاب في ما ذهب إليه، عطفاً على معاكسة الأحزاب الدينية لاتجاه الزمن، في تأسيسها ودعوتها وتطبيقاتها.
المصدر: شبكة اخبار العراق
كلمات دلالية: الإسلام الس الس یاسی
إقرأ أيضاً:
في كتاب "العودة إلى للتصوف".. حسام الحداد يطرح الأسئلة الشائكة في توظيفه السياسي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
الكتاب نفذ بعمق إلى جوهر الإشكالية وتجنب تقديم الإجابات السهلة.
كيف تلاعب الإخوان والسلفيون بجبة التصوف؟
ما بين البحث المعرفي والتفكيك الأيديولوجي، يطرح الباحث الكبير حسام الحداد في أحدث كتبه "العودة إلى التصوف" قضايا جوهرية، محورها مدى إمكانية اعتبار التصوف بديلًا لحركات الإسلام السياسي.
لم يتعامل حسام الحداد مع هذا التساؤل ببساطة، كما فعل آخرون وجدوا في ذلك حلًا سحريًا، بل تناوله بعمق الخبير، موضحًا كيفية معالجة العنف والتطرف في الفكر السياسي الإسلامي عبر العودة إلى التصوف كتيار روحي وفكري.
وأكد أن التصوف ليس مجرد طقوس دينية أو تأملات فردية، بل يحمل أبعادًا فكرية وإنسانية عميقة، ويُقدَّم باعتباره نموذجًا للتعايش السلمي ومواجهة التشدد. فالتصوف بمفاهيمه التي تركز على قيم التسامح والمحبة والسلام، يسعى ليكون بديلًا إيجابيًا بعيدًا عن العنف والانتقام الذي اتسمت به بعض الحركات الإسلامية المعاصرة.
لكن هذه الرؤية ليست بهذه السطحية ولا تخلو من تساؤلات وتحديات حقيقية؛ طرحها الكاتب بذكاء شديد فهل يمكن للتصوف فعلًا أن يواجه التشدد الديني؟ وهل يملك القدرة على احتواء التيارات السياسية المتطرفة؟ وهل له تأثير على مفاصل السلطة في المجتمعات التي تشهد نشاطًا للحركات السياسية المتشددة؟ هذه التساؤلات تنبع من واقع معقد في العديد من الدول الإسلامية، حيث تُلقي التحديات الاقتصادية والسياسية والأمنية بظلالها على إمكانية تحقيق أي إصلاح جذري. قلم حسام لم يري في التصوف يوتوبيا إنقاذ، فالتصوف يواجه تحديات واقعية كبيرة تتعلق بمدى قدرته على اختراق التيارات السياسية أو التأثير على مفاصل الدولة في بيئات تعاني من أزمات شديدة التعقيد.
الجدل حول التصوف كبديل لا يخلو من أهمية في سياقات الحاضر، فهو يمثل نوعًا من العودة إلى الأصول الروحية والتسامح، وهي قيمة ملحة في عصرنا. ومع ذلك، الكتاب يثير أسئلة مشروعة حول مدى واقعية تطبيق هذا الطرح، خاصةً عندما يتعلق الأمر بتأثيره الفعلي في عالم السياسة والأمن. لذا فإن الكتاب لم يقدم إجابات معلبة تريح القارىء الكسول بل الكتاب يجعلنا نتساءل: هل يمكن للتصوف أن يقدم حلًا عمليًا ومستدامًا في ظل تعقيدات الواقع الحالي؟ وهل يستطيع هذا التيار الفكري أن يتجاوز الحدود الروحية ليصبح قوة فاعلة في تغيير البنية السياسية والمجتمعية؟
إن العبور إلى سطور حسام الحداد العميقة في كتابه المدهش يأخذنا بقوة إلى تاريخ توظيف التصوف ومدى قابليته للتوظيف في الوقت الحاضر.
كتب الحداد يقول:
نشطت الأفكار المطالبة بتسييس التكتلات الدينية على مر التاريخ؛ فمنها من التقط الخيط وتحول من صومعة الحركة الفكرية، إلى حلبة المصارعة السياسية، بل وتخطاها ليستخدم العنف باحثًا عن السلطة، مثل جماعة الإخوان، ومنها من لم يتقبل الأمر، مثل الصوفيين، ولكلٍّ تحوّل أدواته ودوافعه.
ومن وقت ليس بالقليل طرحت تقارير بحثية واستخباراتية فكرة استخدام «الحركات الدينية الإسلامية» لأغراض سياسية، وأحد البدائل التي طرحت حينها كانت «الصوفية»؛ خاصة مع صعود الفكر السلفي والمتطرف واستحواذه على أتباع حول العالم، والبحث عن بديل لتحسين صورة الإسلام، لكن سرعان ما عاد هذا الاقتراح حبيس الأدراج والأطروحات غير الجدية.
لكن مع إعادة تقديم الصوفية باعتبارها البديل الأنسب لتحسين صورة الإسلام، بعد أعوام دامية من الإرهاب المتطرف في دول العالم؛ يعاد هذا الطرح إلى الأذهان، وقبل الدخول في جدوى هذا الطرح نحاول في هذه القراءة التعرف على علاقات جماعات الإسلام السياسي بالتصوف بين استغلال الإخوان وعداء الإسلام الحركي.
وقدم "الحداد" حسن البنا ومحاولة التوظيف كنموذج فكتب يقول:
تفاوتت التأويلات حول السبب الذي دفع مؤسس جماعة الإخوان، حسن البنّا (1906-1949) لوضع تعريف لجماعته، التي أسسها عام 1928، ينص على كونها «دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية،..»، فأحسن هذه التأويلات ظنًّا ذهب إلى أن «البنّا» كان يدرك متطلبات المرحلة التي أسس فيها جماعته، والتي كانت تشهد تداعيات سقوط الخلافة العثمانية، في 1924م، أي قبل تأسيس «الإخوان» بأربع سنوات فقط، ما يطرح حقيقة أن المسلمين يعيشون لأول مرة بدون خلافة، وهو ما دفع باتجاه التفكير في تكوين جماعة دينية توافقية، أما التأويل الثاني، فيقول: إن مؤسس جماعة الإخوان ومرشدها الأول سعى من خلال تعريفه هذا إلى زيادة أعضاء جماعته حتى لو كلفه ذلك ضم أصحاب تيارات فكرية تتعارض مع أفكار الجماعة.
ويشير تاريخ جماعة الإخوان إلى واقعية الرواية الثانية، التي تشكك في نوايا «البنّا»؛ إذ تبنت جماعته سياسات تهدف لاختراق الطرق الصوفية والتيارات السلفية لاستقطاب أفرادها، ومن ثم إدخالهم لـ«الإخوان»، ثم يأتي بعد ذلك التفكير في تطويع فكرهم بما يتلاءم مع أفكار الجماعة.
ويؤكد حسام أن جماعة الإخوان تمكنت أكثر من مرة من زرع عناصر تابعة لها داخل طرق صوفية، وذلك بإقرار الطرق نفسها التي اشتكت من رصد مظاهر غير صوفية بين أتباعها.
وفي كتابه «حتى لا تضيع الهوية الصوفية بين الإخوان المسلمين والشيعة وبني أمية الجدد»، أقرَّ المفكّر الصوفي محمود صبيح بواقعةٍ انضم فيها شاب إخواني لطريقة صوفية في محافظة بني سويف، جنوب القاهرة، ونجح في إخراج 30 صوفيًّا من الطريقة وضمهم لجماعة الإخوان.
حتى لا تضيع الهوية الصوفية بين الإخوان المسلمين والشيعة وبني أمية الجدد
حتى لا تضيع الهوية الصوفية بين الإخوان المسلمين والشيعة وبني أمية الجدد
وتابع «صبيح»، أن الجماعة نجحت في طنطا (شمال القاهرة، مدينة تُعرف بتوجهها الصوفي لاحتضانها ضريح القطب الصوفي أحمد البدوي) في الدفع بعضو فيها داخل إحدى الطرق، وتدرج حتى أصبح نائب شيخ الطريقة، بالإضافة لمحاولات قال «صبيح» إن الجماعة تبذلها للسيطرة على نقابة الأشراف (نقابة تضم المنحدرين من نسل البيت النبوي).
وفي فصل عنونه بـ«كيف يدعو الإخوان أحدًا من المتصوفة؟»، تناول «صبيح» التبريرات التي تقدمها جماعة الإخوان عندما تحاول استقطاب أحد أبناء الصوفية.
وتعتمد الجماعة بالأساس في ذلك على تعريف «البنّا» لها بكونها «حقيقة صوفية»، مستدعية تجربة «البنا» الصوفية التي سردها في مذكراته «الدعوة والداعية»، وقال فيها: “إنه نشأ تنشئة صوفية، عندما تعلق في طفولته بالطريقة الحصافية وشيخها حتى كان يأتيه في المنام”.
كما تحاول الجماعة -بحسب «صبيح» الذي كانت له تجربة داخل «الإخوان»- احتواء أية أسباب يطرحها الصوفي، ويرفض من خلالها عروض الانضمام للجماعة، فمثلًا إذا قال إنه لن يلتحق بجماعة متسلفة، يكون الرد «ادخل معنا وأصلحها»، أو “ادخل معنا وابقَ في طريقتك”.
ويضيف حسام قائلا:
تبدّل موقف مؤسس الجماعة وأتباعه من الصوفية، بعد العام 1928، فلم يتوان الإخوان من وقتها عن الأسطوانة المشروخة، التي تفيد بأن شيخهم أخذ من الصوفية ما يتناسب مع الدين، فلم يزر القبور أو يتبرك بالموتى، ولو قرأوا فيما خطَّه البنّا بيده في سيرته الذاتية لتساقطت مزاعمهم كالغبار.
جعلت الجماعة من مرشديها حَمَلَةً لمشاعل التنوير؛ فكتب البنّا مقالات ملأ بها مجلة الإخوان المنبثقة عن الجماعة، يطالب الطرق الصوفية بالإصلاح، وجاء المحتوى مناقضًا لموقفه القديم من الصوفية، فتساءل: “أيرضى النبي بهذه الخزعبلات التي ابتدعها القوم بعده، فجاءت مهزلة وأية مهزلة بهذه الجماعات الكسولة التي لا تجتمع في الميادين لتخيف العدو أو تنصر الدين، بل لتزعج السكان ليلًا بالصياح وقرع الطبول، فليجمع أهل الطرق رأيهم وليخططوا هذه الخطوة الصائبة، ولينظموا صفوفهم ويهذبوا نشيدهم أو يخلقوه خلقًا جديدًا”.
وعن السلفية والتصوف كتب الحداد يقول:
بين الحين والآخر، تتجدد المعارك الكلامية، والفتاوى الدينية، ما بين التحريم والتجريم والتكفير تارة أخري، بين مشايخ الدعوة السلفية وقياداتها، وبين أنصار وأبناء الطرق الصوفية ومشايخها، فى حرب فتاوى ومعارك، الخاسر الوحيد فيها، هو الدين الإسلامي الحنيف، ووسطيته.
ويروج «السلفيون» إلى أن عددا من كبار المتصوفة، أمثال، الصيرفي، والغزالي، والزجاجي، والنساج، والقصار، والوراق، والخراز، والحلاج، ومن بعدهم المريدين، هم أصحاب بدع وشركيات ومنكرات ترتكب، جهارا نهارا باسم التصوف وباسم الأولياء، وباسم المرجعية وباسم الهوية، وتخالف الدين بل وتحاربه أيضا، بأن جعلت الشرك مكان التوحيد، والبدعة مكان السنة، والمنكر مكان المعروف، وحولت الناس إلى الجهل والخرافة، مما يُخرج المنتمين للطرق الصوفية من الإيمان للكفر، وبالتالي يستحل أعراضهم وأموالهم ودماءهم.
وتقوم «السلفية» بتقسيم «الصوفية» إلى ثلاث طبقات: الأولي، يغلب على أكثرهم الاستقامة فى العقيدة، والإكثار من دعاوى التزام السنة ونهج السلف، ومن أشهر رموز هذا التيار، أبو القاسم الخراز المعروف بـ«الجنيد»، ويلقبه الصوفية بـ«سيد الطائفة»، ومن أهم سماتهم كثرة الوعظ، والقصص مع قلة العلم والفقه والتحذير من تحصيلهما فى الوقت الذى اقتدى أكثرهم بسلوكيات رهبان أهل الكتاب ونساكهم حيث حدث الالتقاء ببعضهم.
مما زاد فى البُعد عن سمات الصحابة وأئمة التابعين، ونتج عن ذلك اتخاذ دورٍ للعبادة غير المساجد، يلتقون فيها للاستماع للقصائد الزهدية أو قصائد ظاهرها الغزل بقصد مدح النبي الكريم، مما سبب العداء الشديد بينهم وبين السلف، كما ظهرت فيهم ادعاءات الكشف والخوارق.
أما الطبقة الثانية، فهي التي خلطت الزهد بعبارات الباطنية، وانتقل فيها الزهد من الممارسة العملية والسلوك التطبيقي إلى مستوى التأمل التجريدي والكلام النظري؛ ولذلك ظهر فى كلامهم مصطلحات: «الوحدة، والفناء، والاتحاد، والحلول، والسكر، والصحو، والكشف، والبقاء، والمريد، والعارف، والأحوال، والمقامات»، وشاع بينهم التفرقة بين الشريعة والحقيقة، وتسمية أنفسهم أرباب الحقائق وأهل الباطن، وسموا غيرهم من الفقهاء أهل الظاهر والرسوم، وغير ذلك مما كان غير معروف عند السلف الصالح من أصحاب القرون المفضلة ولا عند الطبقة الأولى من المنتسبين إلى الصوفية، ومن أهم أعلام هذه الطبقة، أبو اليزيد البسطامي، ذو النون المصري، الحلاج، الترمذي.
والطبقة الثالثة، فيها اختلط التصوف بالفلسفة اليونانية، وظهرت أفكار الحلول والاتحاد ووحدة الوجود موافقة لقول الفلاسفة، كما أثرت فى ظهور نظريات الفيض والإشراق على يد الغزالي والسهروردي، ويعتبر «السلفيون» هذه الطبقة من أخطر الطبقات والمراحل التي مر بها التصوف، والتي تعدت مرحلة البدع العملية، إلى البدع العلمية، التي بها يخرج التصوف عن الإسلام بالكلية، ومن أشهر رموز هذه الطبقة، السهروردي، ابن عربي، ابن الفارض، وابن سبعين.
هذا التقسيم جعل «السلفيين» ينظرون إلى «الصوفية» و«التصوف»، بازدراء بل ويصل الأمر إلى التكفير والقتل، كما حدث في العديد من الوقائع، وآخرها حادث مسجد «الروضة» فى شبه جزيرة سيناء، وهو الذى يدفعنا إلى التساؤل عن أسباب هذا العداء بين فصيلين كلاهما يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
ولفهم هذا العداء يجب أن نتعرف على الاتهامات التي يوجهها السلفيون للصوفية، والتي يأتي فى مقدمتها «التقية»؛ فالسلفيون يعتبرون «الصوفية» تمارس «التقية الشيعية» وأنها مجرد «مخرج» من مخرجات التشيع، وأن فكرهم يعتمد على الكذب على الخصوم وعدم الرغبة فى الحوار والمصارعة بالألفاظ بعيدًا عن الحجة بالدليل والبرهان كالكتاب والسنة.
كما يتهم أصحاب الفكر السلفي دائما، أهل التصوف بـ«الخنوع» و«الجبن» تحت دعوى التكيف والعيش في مجتمع مدني، وأنهم لا يبغون التسيد على المشهد السياسي والاجتماعي على خلاف التيار السلفي، الذى يسعى بشكل دائم إلى تكريس خطابهم وإعلاء كلمة «السلفية» التي يجب أن تنازع الملك في السيطرة على قلوب وعقول المواطنين.
كما يعتبر السلفيون أن حياة التصوف لا تليق بالمسلم الحق الذى يجب أن يكون عالي الهمة وليس ذليلا وضعيفا وزاهدا في الحياة، ويعيش داخل المجتمع يعانى الانطواء والاستبعاد الاجتماعي، وكراهية الحياة، وحب الخمول والكسل حتى يصل إلى التسول.
ويعتبر السلفيون «الصوفية» وأنصارهم قوة كبيرة معطَّلة، ويريدون استغلالها أو القضاء عليها حتى يحتلوا المشهد الديني وحدهم، ليتفرغوا لمواجهة الدولة وتحقيق أهدافهم السياسية، وهو ما حدث فى عهد المعزول محمد مرسى.
وحول الصراع بين السلفية والصوفية كتب الحداد يقول لا يقف عند القضايا الفقهية العقائدية، بل كلا الطرفين يسعى كل منهما لاستقطاب أكبر عدد من الأتباع، ويرى كل طرف منهما أن لديه القوة لابتلاع الآخر وإلغائه وإنهاء وجوده إلى الأبد من خلال تكثيف الدعوة ومحاولة اجتذاب أتباع جدد.
فالسلفية والصوفية لديهما إحساس بالاصطفاء، فالسلفيون يعتبرون أفكارهم ومنهجهم الدعويّ، قائم على صحيح الدعوة الإسلامية ويركزون على إطلاق اللحى وتقصير الثوب للرجال ولبس النقاب للسيدات، وهو الأمر الذى يرى الصوفيون أنه تركيز على الشكل والمظهر دون الجوهر، وأن السلفية هي شكل بلا روح، وأنهم جماعات متشددة ومتجهمة تحتفل وتحتفى بالطقوس على حساب الحقيقة الدينية، وتتعامل مع الإسلام بشكل لا يقوم على الحب بقدر ما يقوم على المنفعة، كما يتهم الصوفية السلفيين بأنهم مصابون بمرض التعالي على المجتمع الذى يعيشون فيه ولديهم شعور زائف.
وهناك خلاف محتدم بين السلفية والصوفية لم يتوقف حول «ابن تيمية» الذى انتقد الصوفية، وما سماها بـ«البدع»، وشن عليهم حملة شعواء لا هوادة فيها، واتهمهم بالتآمر مع التتار، فى إسقاط الخلافة العباسية، وهو ما رد عليه الصوفية بتأليب الناس ضده واتهام أتباعه بالتطرف، واتهامه بالنصب والنفاق.
وفيما يتعلق بإثبات صفة الله، اعتمدت الصوفية على العقل فى تأويل الآيات القرآنية التى تفيد التشبيه والتجسيم وغيرها من الصفات التي لم يروها تليق بذات الله، وهو ما يرفضه السلفيون رفضا قاطعا، ونتيجة لموقف هؤلاء القاطع من عملية التأويل التي مارسها المتصوفة، يناصبونهم العداء، ويهاجمون ممارساتهم وطقوسهم وحتى عقائدهم، بل ويعتبرها بعضهم من تلابيس إبليس، وهو ما يعنى عدم وجود أية مساحة مشتركة للتلاقي مع المتصوفة.
دائما ما يتهم «السلفية» أتباع الطرق الصوفية، بممارسة الشرك الخفي، وأنهم يتبركون بالأضرحة ويلجأون للأولياء الصالحين لقضاء حاجاتهم، ويصل بهم الأمر إلى تقديم الولي على النبي، والإيمان بالحقيقة على حساب الشريعة، وعدم الالتزام بالفرائض المعلومة من الدين بالضرورة، كما يوجه السلفيون نقدًا حادًا للسلوكيات التي تحدث في موالد الأولياء الصالحين التي يرتادونها، ويحتفى بها الصوفيون، ويؤكد السلفيون أن الموالد يحدث بها اختلاط بين النساء والرجال، مما يترتب على ذلك شيوع أعمال الفسق والفجور في زحام الموالد، وأن حلقات الذكر تقوم على حساب الصلاة المفروضة