يشهد السودان تصاعدًا في الدعوات لحل الأزمات الداخلية بعيدًا عن التدخلات الخارجية، حيث يبرز النقاش حول إمكانية إيجاد حلول محلية لمعضلات البلاد. تسلط تصريحات مسؤولين دوليين، مثل وزير الخارجية الروسي والمصري، الضوء على ضرورة ترك السودانيين ليتفاوضوا فيما بينهم، بينما تتباين الآراء حول قدرة السودانيين على تحقيق ذلك.

يستعرض هذا التقرير، الآراء التي تم جمعها من مختلف الأطراف، لتبين التحديات التي تواجهها البلاد والنظرة إلى المستقبل في ظل الأزمات المتفاقمة.

التغيير: خالد فضل

منذ اندلاع النسخة الراهنة من سلسلة الحروبات السودانية الداخلية، طفقت بعض الأصوات خاصة من دول خارجية تنادي بضرورة (امتلاك السودانيين الحل لمعضلات بلدهم، وعلى رأسها الحرب).

فالسيد سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي وجه نداء إلى الولايات المتحدة الأمريكية (25 أبريل 2023) يحثها بعدم التدخل في الأزمة السودانية وترك الأطراف السودانية المشتبكة للتفاوض فيما بينها.

من جهته، فإن وزير الخارجية المصري السابق سامح شكري، قال بأهمية التعامل مع النزاع في السودان باعتباره شأنا سودانيا خالصا، رافضا تدخل أي أطراف خارجية في الأزمة بشكل يعيق جهود احتوائها. الشرق الأوسط 18/3/2024. القائم بأعمال السفارة الصينية من بورتسودان _العاصمة المؤقتة للسودان_ يقول في حوار مع ذات الصحيفة 30/9/2024 (للسودان الحكمة والقدرة على إيجاد حل توافقي لمشكلاته بعيدا عن التدخلات الخارجية).

في المقابل نجد أنّ السودانية د. أحلام حسب الرسول، أستاذة التاريخ في إحدى الجامعات السودانية، كانت قد أثارت اللغط في العام 2009 عندما أعلنت عن تشكيل تنظيم سياسي يدعو لعودة الاستعمار إلى بلدها، باسم حركة المطالبة بانتداب دولي واختصارها (حمد).

أودعت السلطات حينذاك حسب الرسول في مصحة للأمراض العقلية والنفسية، وفي حوار صحفي من داخل أسوار المصحة، سألها الصحفي إن كانت دعوتها تلك من إنسان عاقل؟ فأجابته: هل ما حدث في هذا البلد منذ الاستقلال حتى الآن هو فعل إنسان عاقل؟ ثم سردت مقارنات محزنة بين عهدي الاستعمار والاستقلال خلاصتها (الاستغلال) في كليهما؛ لكن بفائدة للوطن والشعب في ظل الاستعمار. وبدون فائدة في العهد الوطني، لذلك رجحت كفة الاستعمار.

وعلى خطى دعوة د. أحلام تلك، سارت دعوة البروفسير مهدي أمين التوم؛ وهو من ذوي الإسهامات الوطنية والعلمية والمهنية المميزة _ لاحقا أعلن اعتزاله المشاركة بالرأي في الشأن العام _ كتب: (إنّ الوصاية أو الإدارة الدولية المؤقتة قد تكون فعلا فكرة مجنونة ومربكة للكثيرين، لكن الدافع وراءها قناعة أنّ الوطن محتاج إلى جمّة من أبنائه ومتعطش إلى آلية قوية وفاعلة لفرض وقف فوري للحرب اللعينة القائمة ولإعادة ترتيب البلاد دستوريا وأمنيا وإداريا لينطلق الوطن من جديد على هدى وعي ودراية، ليتنا نفيق قبل فوات الأوان، وكفانا ادعاء بمقدرتنا الذاتية على الخروج مما نحن فيه من وحل أمني عسكري/جنجويدي، ومن تشظّ سياسي حزبي /مهني) الراكوبة 15/5/2024.

تحليل للواقع:

د. أحمد أمل أستاذ العلوم السياسية المساعد في كلية الدراسات الإفريقية العليا بجامعة القاهرة، أشار في ورشة عقدت مؤخرا إلى أنّ الدولة السودانية تعاني تدهورا مستمرا منذ استقلالها، تجلى في مراحل متعددة من التآكل، والتراجع الشديد بما في ذلك انفصال الجنوب 2011 وما تلاه من صراعات طويلة. مع تفشي النزاعات الإثنية والصراعات الداخلية التي تعصف بالبلاد.

ولفت إلى أن النزاعات الجارية، أوضحت عجز الحكومات السودانية المتعاقبة عن إيجاد حلول، حيث توجد العديد من الأطراف التي تسيطر على الوضع في البلاد؛ مما أدى إلى تكليف مهام الدولة لأطراف غير حكومية.

وأشار إلى أن مستقبل الدولة يواجه 3 سيناريوهات تؤدي كلها إلى مشكلات، هي استمرار فشل الدولة، التفكيك، انقسام الدولة.

سؤال لسودانيين/آت وإجابات شبه متطابقة:

في سياق إعداد هذا التقرير تم طرح سؤال لعدد من السودانيين/ات فحواه، إذا رفع كل العالم أياديه عن السودان، هل سينجح السودانيون/آت في حل معضلات بلادهم، وعلى رأسها الحرب؟

الأستاذة الجامعية سارة عابدين _تقيم في كندا_ أجابت (نعم) إذا رفع كل العالم أياديه عن السودان والتدخل في شؤونه، مع وضع خطين تحت كلمة (كل).

إذا رفع كل العالم أياديه عن السودان، فإن لدينا الكثير من المفكرين والسياسيين القادرين على إدارة حوار شامل يحقق شعارات الثورة: حرية، سلام، وعدالة.

الأستاذة الجامعية، سارة عابدين

وأوضحت عابدين بقولها: أولا: معروف للجميع أن لكل طرف من طرفي الصراع داعمين من دول أخرى وفق مصالح تلك الدول، فإذا فقدا هذا الدعم تماما فلا يوجد أمامهما سوى طريق طاولة التفاوض. ثانيا، السودان لديه الكثير من المفكرين والسياسيين والمهتمين بالشأن العام من ذوي الخبرة في كل المجالات قادرين على إدارة حوار شامل يضع الأمور في نصابها، ويأتي بحكومة مدنية تحقق شعارات الثورة _حرية سلام وعدالة. ثالثا، شباب السودان الثائر ضد الأنظمة الديكتاتورية هدفه واضح، وإذا وجد الفرصة سوف يبدع، نحن لدينا ثروة مهدرة، هؤلاء الشباب هم الأمل، لكن لا بد للعالم أن يرفع أياديه عن شؤوننا.

المهندس إبراهيم الزين، أفاد باقتضاب، إجابتي أقرب إلى (لا)، فالحرب في رأيه بين مليشيتين، كلاهما تعتقد أنّ في إمكانها القضاء على الأخرى لتنفرد بالسيطرة على البلد، بينما بقية الشعب السوداني متفرج يبحث عن الأمان، لا كلمة ولا تأثير لهم.

د. عبداللطيف طه _أستاذ جامعي _ يؤكد الإجابة (لا)، يعزو السبب إلى اللغة السائدة بين السودانيين/ات أنفسهم هي لغة الإقصاء، أي أنّ المعادلة صفرية حسب رأيه.

عثمان عبدالماجد؛ خبير زراعي، يقول إنّه لا يعتقد أنّ للعالم الخارجي يداً في نشوب حروب السودان، فمنذ أول حرب في 1955مفي الجنوب سابقا كانت بحجة أن الجنوب لم ينل نصيبه في قسمة وظائف الدولة غداة خروج الإنجليز، فالحرب كانت وما تزال تدور بين المركز والهامش جنوبا وغربا وشرقا وأخيرا وسطا، ولم تكن ضد عدو خارجي. ويشير عثمان إلى أنّ أس الداء في استشراء واستمرار الحروب هو قسمة السلطة والثروة؛ منوها إلى توفر الموارد وكفايتها إن أحسن إدارتها وعدالة توزيعها، وهو الأمر الذي فشلت فيه النخب من العسكريين والأحزاب والجماعات والطوائف الدينية؛ بإخفاقها المتواتر في وضع أسس ودستور وعقد اجتماعي تستقر بموجبه الأوضاع في وطن يسع جميع أبنائه وبناته بمختلف تعددياتهم العرقية والثقافية والدينية المعروفة. ولهذا لم تصمد الاتفاقات كلهن بين المركز والهامش منذ الاتفاق الأول مع الأنانيا في الجنوب سابقا، وحتى اتفاق جوبا الأخير 2020م مع بعض الحركات المسلحة. مبديا ملاحظته بأنّ أيادي العالم الخارجي تكون دوما حاضرة في ظل الحكومات الضعيفة والأنظمة العسكرية بشموليتها وطبيعتها الديكتاتورية، ولا يمكن لجمها وكف تدخلاتها، إلا في ظل دولة مؤسسات مدنية ديمقراطية يسودها حكم القانون، وتحرسها الإرادة الشعبية الحرة.

أسامة خليفة، فاعل سياسي في حزب المؤتمر السوداني، إجابته (نعم)، بشروط حددها في الآتي: وحدة القوى المدنية المؤمنة بالتحول المدني الديمقراطي لوقف الحرب بالحوار والطرق السلمية. توفر الإرادة السياسية والقيادة الملتزمة والمؤمنة بالسلام وأهميته. المشاركة المجتمعية والإدارة الأهلية قدر الإمكان بما في ذلك مراكز صنع القرار. نشر الوعي بأهمية السلام والتعايش السلمي بين مختلف مكونات المجتمع وكشف زيف الإعلام المضلل ونوايا صناع الحرب.

ومع ذلك يمضي أسامة للتأكيد بالحاجة إلى مساعدة العالم الخارجي ببعديه الإقليمي والدولي في تعضيد تلك الخطوات والمراقبة والإسهام في عمليات إعادة الإعمار والتنمية بعد توقف الحرب.

أبو الحسن عبد المجيد _ عضو الحزب الشيوعي السوداني _ جاءت إجابته: لا، لأن الشعب ليس طرفا في الحرب، بل هي حرب ضد الشعب السوداني وثورته، تقع عليه كل جرائمها وويلاتها.

د. عماد خليفة وهو أستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، يقول (لا) أعتقد أنّ السودانيين سينجحون في إنتاج حل لإنهاء هذه الحرب دون مساعدة أو تسهيل أو وساطة خارجية، فالتاريخ القريب يؤكد أنّ الاتفاقات كلهن لوقف الحروب السابقة _الناجحة منها أو الفاشلة_ تمت عن طريق وسطاء من الخارج. توجد لدينا مشكلة عدم قبول الآخر، والنرجسية المفرطة متمثلة في (رأيي أو الطوفان) هذه هي المعضلة الرئيسة. كذلك يفتقر معظم الشعب إلى ثقافة المعايشة في حدودها الدنيا؛ وبالتالي عدم القدرة والقبول بمبدأ تقديم التنازلات اللازمة للعيش المشترك، هذه القدرة تشكل المدخل الأساسي لإنجاح أي مفاوضات حتى في حالة السلم.

د. أمير جعفر، سوداني مقيم في أمريكا، يقول إنّ السؤال يحمل إجابات متعددة، لكن واقع العالم اليوم يؤكد ألا بقعة في الكرة الأرضية بمعزل عن بقية العالم، أصبحت دول العالم ضمن شبكة منظومات اقتصادية وجيوسياسية، وتكون الحروب غالبا لأسباب سياسية واقتصادية، وترتبط أطراف حرب السودان بهذه النظم، عليه حل مشكلة الحرب فيه يمر عبر طريق واحد هو التفاوض مع وجود دولي وإقليمي للوصول إلى صيغة تحقق إلى حد ما مصالح كل الأطراف بدرجات متفاوتة.

د. الفضل يوسف، أستاذ جامعي مقيم في أمريكا، يقول: (لا) يستطيع السودانيون حل مشاكلهم الوطنية حتى في فترات الحكم الديمقراطي القصيرة لجملة أسباب على رأسها؛ تركيبة الشخصية السودانية التي تحمل في جيناتها عصبية زائدة، وليس لديها استعداد فطري لقبول الرأي الآخر. كذلك أدت سيطرة أقلية على الحكم منذ الاستقلال إلى خلق دولة عميقة استشرى فيها الفساد؛ مما يجهض أي محاولة للإصلاح. كما أنّ سيطرة العسكريين لفترات هي الأطول خلال العهد الوطني كرّس لنمط شمولي في الحكم مدعوما باستمرار من محاور إقليمية لديها مصالحها؛ مما يجهض أي مساعي وطنية في مهدها، منذ مؤتمر المائدة المستديرة في الستينات وحتى تقاطع المصالح الآن بين دول الجوار (إثيوبيا/مصر)، والأنظمة الداعمة للتيار الإسلامي (تركيا/قطر) هذه التقاطعات تقف حجر عثرة أمام الحوار الوطني الخالص الذي يعلي من قيمة الوطن ومصالح شعبه. ومن أسباب الفشل كذلك، تمكين الإسلام السياسي الذي أدى إلى غياب الرؤية الوطنية وانسداد الأفق في وجه تأسيس وطن حر ديمقراطي، وقد كان انفصال الجنوب نتيجة حتمية لذلك. ثمّ هناك ضعف الأحزاب السياسية والقوى المدنية الحية وغياب مشروعها الوطني وعجزها عن القيام بواجباتها في الدفاع عن الحقوق الأساسية للمواطن.

الوسومحرب الجيش والدعم السريع حروب السودان مستقبل السودان

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: حرب الجيش والدعم السريع حروب السودان مستقبل السودان إلى أن

إقرأ أيضاً:

الهوية السودانية بين الغابة والصحراء (2/2)

ali.hag.mohamed@gmail.com

بعد دخول الإسلام إلى مصر فى عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، تحالفت و إتحدت مملكة المقرة (السودانية) المسيحية مع البيزنطيين ضد المسلمين فى عداء سافر و شكلت خطرآ داهمآ و مهددأ مباشرآ للولاية الوليدة. و حينها طلب الخليفة من عمرو بن العاص وإلى مصر القضاء على تلك المملكة و وقف خطرها الماثل قبل أن يستفحل .
فى بداية عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه تولى عبد الله بن أبى السرح ولاية مصر و جعل من أولوياته التوجه جنوبا لقلع شوكة الدولة النوبية و حاصر عاصمتها دنقلا حتى إستسلمت. و وقع مع ملكها قليدروس إتفاقية ( البقط ) الشهيرة و التى ضمنت أمنآ و أمانآ للمملكة عام 28 هجرية -652 ميلادية. و أسست لهدنة بين الطرفين، وكوفيت مصر شر هجمات مملكة النوبة و الدولة البيزنطية و سمحت للعرب التوغل جنوبا إلى أعماق السودان حاملين معهم تباشير الدين الجديد و قيمه السمحة في المساواة و العدالة و التكافل و الإخاء. و دخل الناس فيه أفرادا و جماعات و في خلال فترة وجيزة غطى مناطق واسعة من أرض السودان المتعارف عليه الآن.
و تعتبر إتفاقية (البقط ) من أطول المعاهدات فى التاريخ حيث إستمرت حوالى 700 عاما.

بعد ظهور الإسلام في جزيرة العرب فتحت مسالك و طرق هجرة أخرى نحو السودان، من الشرق عبر البحر الأحمر و من الغرب من بلاد شنقيط و المغرب العربي عمومآ و من الغرب الإفريقي أيضا، حيث إعتنقت ممالك إفريقية في مالى و النيجر و نيجيريا الإسلام، و أصبح السودان المعبر الوحيد لتلك الممالك و الواصل إلى الأراضي المقدسة. و كانت الرحلة إلى بيت الله الحرام تستغرق في ذاك الزمان أكثر من عام.
وكان عدد من الحجيج يطيب لهم المقام في أرض السودان الواسعة المعطاءة فيستقرون فيها و يتزوجون من القبائل المحلية، شأنهم في ذلك شأن العرب القادمين من الجزيرة العربية و المغرب العربي.
و هكذا تشكلت خارطة إجتماعية و ثقافية تحمل طياتها موروثات و عادات وتقاليد و قيم محلية و دخيلة، تعانقت و تمازجت و تصاحبت فى مسيرة من الإلفة و التوافق و الإنسجام عبر مئات السنين.
داخل هذا النسيج الإجتماعي البديع ظلت بعض القبائل تحمل جينات الدم العربي الخالص و أخرى الزنجي و لكن الغالب هو هجين بين هذه و تلك. و لا أحد يستطيع ان يجزم بالدليل القاطع النسب الأكيدة عدآ، و كل ما يكتب أو يقال عن ذلك يبقى حتى هذه اللحظة مجرد تخمينات و توقعات يطبعها الغرض و تدفعها العاطفة و يدمغها الخيال أحيانا و لا تستند على أرضية علمية أو دراسات إحصائية من لدن جهة متخصصة.

كانت معظم هذا القبائل القديمة و المتخلقة من التصاهر الجديد تعيش جميعها حياة بدائية في تجمعات سكنية شبه منعزلة عن بعضها البعض لوعورة الطرق و إنعدام سبل الإتصال و المواصلات ،
و كانت غارقة في أمية تكاد تكون عامة إلا من قلة تلقوا تعليم دينى بسيط فى خلاوى القرآن الكريم المنتشرة في بعض المناطق.

كان هذا هو واقع الحال حتى قدوم الإستعمار البريطاني في عام 1899 و الذى لم يقدم إضافة ذات بال، غير تعليم بسيط فى المرحلة الابتدائية و المتوسطة لأبناء المركز للمساعدة في أداء مهام محددة في السلك الوظيفى المدني فى تجاهل متعمد لأبناء الريف و الأطراف.
بعد إستقلال السودان فى عام 1956 لم تستغل الأحزاب الوطنية هذا الثراء و التنوع الثقافي كما يجب لكي تجعل منه قوة محركة لمستقبل البلاد و تقوده إلى آفاق سامية في الخلق و الإبداع و التنمية البشرية وتطوير الذات و إبتكار نمط جديد في العملية الإقتصادية و الإنمائية، كما فعلت كثير من الأمم ذات الظروف المشابهة في الشكل و المضمون و البيئة.
كانت جميعها فاقدة لأى مشروع نهضوي يقدم النموذج و الحل لقضايا البلاد الشائكة و معضلات ما بعد تحقيق الإستقلال و التى بدأت تلوح في الأفق و كان نذيرها تمرد جنود إحدى قواعد جنوب السودان العسكرية في عام 1955.
سارت على نفس نهج المستعمر فى التركيز على التعليم و الخدمات فى الحضر على حساب الريف و أغفلت تنمية الأطراف و خلقت تمايزآ بينآ لا تخطئه العين بين المركز و الأطراف .
و أصبح جنوب السودان على وجه الخصوص يعيش في عصر القرون الوسطى و مواطنيه في الدرجة الثانية من جهة إدارة شؤون البلاد و تقاسم السلطة و الثروة.
و علت صيحات التحذير و الإنذار من هنا وهناك لشر قادم لا محالة و كانت آذان الحكام صماء
لا تسمع و عقولهم مشوشة و غارقة في الصراعات السياسية الضيقة .
الأمر الذي خلق الأرضية الموضوعية و المسببة لمواطني جنوب السودان في المطالبة بأخذ حقوقهم السياسية المشروعة فى المشاركة المتساوية في وطن هم جزء أصيل منه.
و تبعهم في مرحلة لاحقة مواطني دارفور و جنوب كردفان و النيل الأزرق.

كل الأنظمة التي مرت على حكم السودان بعد الإستقلال كانت تتعامل مع قضية السلطة و الثروة بسطحية و إستخفاف تهاون مذهل، و بلا وعى عميق لبعض المسالك الخطرة، كمحاولة نظام الفريق عبود فرض العروبة والإسلام فى جنوب السودان بالقوة، وكنقض المشير جعفر نميرى لإتفاقية الحكم الذاتى لجنوب السودان عام 1983.
و لكن الأسوأ على الإطلاق كان نظام الإنقاذ بقيادة الترابى _البشير و الذى جاء بمشروع تدميري لكل السودان قضى على كل الموروث الشعبي و الإجتماعى الخير و هتك النسيج الاجتماعي بأفعال و سلوك غريبين و أقوال و مقولات لا تتسق و المزاج العام السودانى و أنشأ وزارة لهذا الغرض و جعل على رأسها الرجل الثانى فى النظام الظلامي وهو على عثمان محمد طه.
عبر هذا المشروع الخرب و المخرب و المسمى ب ( المشروع الحضاري ) شنت حرب دينية جهادية على جنوب السودان أدت فى النهاية إلى فصله تماما عن الوطن الأم .
و بثت روح الكراهية و الحقد و الفتن بين قبائل السودان المختلفة و خاصة ذات الأصول الزنجية و العربية و طفت على السطح النعرات العنصرية بصورة غير مسبوقة. و أصبحت القبلية والجهوية هى العنوان و مرادفة لإسم السوداني .
و تراجع البعض إلى القبيلة ليحتمي بها و حتى على سبيل رفع الشأن و منهم من نسب أصله إلى العباس بن عبد المطلب و منهم من نسبه إلى جعفر بن أبى طالب و منهم من أدعى الشرف و توجه بنسبه إلى الرسول صل الله عليه وسلم.
و بعضهم أوصل نسبه إلى قبائل لم نسمع بها إلا فى الجاهلية. و فى المقابل أدعت أصوات أخرى أن بلالآ مؤذن الرسول صل الله عليه وسلم كان سودانيآ و أن عنتر بن شداد أيضا كان سودانيآ من خلال وصفه لأمه شعرآ بأنها كانت ذات سيقان نحيفة و أرداف ضامرة و هو وصف يجرى على السودانية و لايشبه الحبشية.
وأن هجرة الصحابة كانت لأرض السودان نتيجة لوصف الصحابة للأرض التى هاجروا إليها لما لها من إنبساط وسعة و أن جعفر بن أبى طالب سبح النهر و شارك النجاشي في الحرب و كل هذا يقرب الوصف إلى أرض السودان الحالية و يبعده عن أثيوبيا الحالية لما لها من هضاب عالية و مجرى نهر يصعب عبوره بالسباحة و يقال أن المنطقة الغالبة هي مملكة سوبا جنوب الخرطوم.
علما بأن السودان و الحبشة كانتا في ذاك الزمان أرضآ واحدة.
وفى هذا الجو المشبع بروح الجهوية و المشحون بروح القبلية نجد من يدعي أن فرعون موسى كان سودانيآ و أن سيدنا موسى إلتقى الرجل الصالح ( الخضر ) عند ملتقى النيلين فى الخرطوم.
و كتبت بعض الصحف السودانية أن بنيامين نتنياهو هو سوداني و مولود في نوري شمال السودان و يتحدث العربية لغة قبيلة الشايقية المميزة.

عرج مشروع جبهة الترابى - البشير إلى مدارات أخرى فى دارفور و خرج من عباءته القيادي داوو بولاد و تمرد فى بداية التسعينات مطالبآ بحقوق دار فور فى الثروة و السلطة و تبعه القيادى الآخر في الجبهة الإسلامية دكتور خليل إبراهيم على نفس النهج و الطريق و الذى نظر له فيما سمى ب ( الكتاب الأسود ) عام 1999 و الذى أثار ضجة لا زالت تتفاعل حتى الآن ،لأنه طرح المسكوت عنه بأسلوب غلب عليه الغطاء العنصرى . و يقال ان الترابى كان يقف خلف ذاك الكتاب. و من رحم نظام الإنقاذ خرجت حركة العدل والمساواة و التى أصبحت جزءآ من المعادلة السياسية الحالية.

الإحساس بالظلم و الغبن و القهر و الإستبداد و التهميش جعل النخبة المتعلمة تطرق باب السياسة و الشأن العام فى محاولة لرد الظلم و المظالم و أخذ حقوقهم عنوة و إقتدارآ.

و ثم كان البحث عن تعريف يجد مخرجآ و توصيفآ للحالة السودانية و يبث روحا جديدة للهوية السودانية، فكانت مساهمات بعض الكتاب و المفكرين السودانيين مميزة كأبى القاسم حاج حمد و حيدر إبراهيم ثم الزعيم الراحل جون قرنق و الذين توصلوا إلى تعريف الحالة ب (السودانوية). أى المواطنة السودانية.
و قد ضمنت بطريقة غير مباشرة فى مقررات مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية عام 1995 و الذى ضم كل الأحزاب السياسية آنذاك بما فيها الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق و التى كانت بصماتها واضحة في المقررات.
و أضحى مصطلح المواطنة السودانية أمرآ متفقآ عليه الآن، من مكونات العمل السياسي على مختلف مشاربها.

إن المواقف السلبية و الردة و التراجع و الإنقلاب على الإنتماء القومي العربي المتعارف عليه طوال الحقب السالفة و الذي طفى على السطح فى السنوات الأخيرة لدى بعض السودانيين و خاصة المثقفين منهم و أصبح صوتآ مسموعآ لا يمكن تجاهله ، هو نتاج لعوامل عديدة، بعضها داخلى، كسيطرة النخب المحسوبة على العنصر العربي على مجاميع السلطة و الثروة فى البلاد ويضاف إليها الحروب التي شنتها الدولة المركزية على أساس ديني و عنصري و قبلي و ما خلفته من قتل و تهجير و تشريد و معاناة إنسانية.
و هذه كلها أمور يمكن أن تعالج في ظل سلطة شعبية ديمقراطية ذات مشروع و رؤية يشترك فيها كل مكونات المجتمع المدنية والسياسية و بصفة خاصة مواطني المناطق المتضررة من الحروب و التهميش.
و كما توجد عوامل أخرى تتعلق بالعرب أنفسهم تتلخص في حالة حالة التمزق و الخلافات العربية العربية و الفجور فى الخصومة و تقديم مئات المليارات من الدولارات لأعداء الأمة من أجل كسب الود و دعم عروشهم المهتزة بينما دول عديدة في الأمة فى فقر مدقع و لا تحظى بإلتفاتة منهم . و بعضهم تآمروا على ثورات الربيع العربي و قضوا عليها و حولوا دولها إلى ساحات حرب تصفى فيها و عليها المشاريع الدولية و لا يزال التآمر يسير على قدم و ساق.
مما جعل أمة العرب خارج المعادلة الدولية و يضاف إلى ذلك الهرولة العلنية و الخفية نحو العدو الصهيوني مما خلق حالة من الإحباط و الهوان و الإنكسار للنفس العربية الأبية.
وثم يأتي الدور السلبي و الضعيف للجامعة العربية ، المتمثل في عجزها في التفاعل المطلوب مع قضايا الأمة و لا يرى لها فعلا، غير صوت مبحوح يعبر عن الإدانة و الإستنكار و الشجب و القلق لا أكثر.
توجد مطالبة من بعض الناشطين السودانيين بانسحاب السودان من الجامعة العربية.
و حالة العرب و جامعتهم هى حالة عرضية طارئة و مرتبطة بالواقع المزري و قاصر على هذه المرحلة و التى فيها الشعوب غائبة و مغيبة و طبيعة الأشياء تقول ان الشعوب ستنهض طال الزمن أو قصر و ستعود إلى جوهرها و ملامحها و تملك زمام نفسها، هذا هو الدرس المستفادمن تجربة الشعوب في الأزمان السالفة و المعاصرة.

أما نظرة العرب النمطية للسودان و السودانيين و التفاعل السلبي مع قضاياه السياسية و الإنمائية ليست ذات قيمة، و( ما حك جلدك مثل ظفرك). و السودان قادر على أن يقف على قدميه كما ورد آنفآ، مستغلآ موقعه الجغرافي و ثقله السكاني و موارده الاقتصادية الهائلة و المتنوعة و مصادر المياه الجوفية و الجارية.

الحالة السودانية لا تختلف كثيرآ عما يجري فى فى معظم الدول العربية الأخرى، كمصر و العراق و الجزائر والمغرب و تونس و لبنان وسوريا و موريتانيا، فشعوب هذه الدول خليط و هجين من قبائل عربية و غير عربية من روم و فراعنة و أقباط و يونان و فينيقيين و أتراك و زنوج و شركس و أمازيغ.
و بمثل ما فعل الإستعمار البريطاني في السودان، قام رديفه الفرنسي بنفس الدور فى طمس الهوية الإسلامية و العربية فى المشرق والمغرب العربيين، و التخلص من اللغة العربية و الدعوة لتفتيت الأمة و إخراجها عن دورها في الدفع الإيجابي الكوني والتى وجدت صدى لها في بعض النفوس الطامحة في علاقة وهمية مع الغرب كمحاولة الشاعر سعيدعقل في كتابة اللبنانية بالحروف اللاتينية.
و بذل المستشرقون جهودا جبارة في ( فرسنة )
الجزائر والمغرب و تونس و تطورت و برزت بوضوح فيما بات يعرف ب ( مسألتي البربر و الأكراد ).

السؤال الملح :
هل الجنوح إلى مخارج وطنية و قطرية ضيقة
يمكن أن يقود إلى الإنفصال عن الإنتماء القومي العربي ؟
الإجابة كلا ثم كلا.
فالإنتماء القومي ليس بالعرق ولا باللون، و إنما هو إنتماء ثقافي في المقامين الأول و الأخير.
وهو حركة تملك الروح و الجسد تتنفس برئة و تحس بأعصاب و تنبض بالنشاط و الحيوية حينآ و تخبو أحيانآ، نتيجة لعوامل داخلها و أخرى محيطة بها، و فى كل الحالات حاملة لعناصرها و مكوناتها المادية و المعنوية و العلمية و الثقافية و الأدبية و الدينية و الإنسانية و الإجتماعية، تلقى بها بذور خير و نماء أينما حطت رحالها ظهر على البسيطة .
و كم من العلماء والدعاة و الأدباء و الشعراء و المفكرين من أصول غير عربية كانوا نتاج هذا الزرع المبارك، و أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر سيبويه، إبن سينا، إبن جنى، إبن الرشد، الفارابي، الزمخشري، أبا بكر الرازي ، الحسن إبن الهيثم، الإمام البخاري، الإمام مسلم، الغزالي، الخوارزمي، إبن بطولة، الجاحظ، الكندي، أبا العلا المعرى، جابر بن حيان، إبن المقفع، إبن الرومي ، صلاح الدين الأيوبي، طارق بن زياد و أمير الشعراء أحمد شوقي.

و أختم بأن الهوية السودانية و بخصوصيتها التى لا جدال حولها ولا خلاف عليها، هى ذات جذور ثقافية وفكرية عربية تقودها بالضرورة إلى الإنتماء القومي العربي و لا يمكن أن تنفصل عنه، و هذا هو قدرها المشرف و المشرق لأمة صاحبة رسالة عالمية واعدة.
وكل أسباب الفرقة و التوجس سطحية و فوقية لكن في العمق يوجد ما يجمع بيننا كأمة واحدةو هو الثابت و الدائم.

و سيذهب الزبد جفاءا و يبقى ما ينفع الناس.

د.على إبراهيم

   

مقالات مشابهة

  • اقتصاد ما بعد الحرب.. كيف يحاول السودانيون التعافي من الانهيار؟
  • قبل 24 ساعة من النظر في القضية بواسطة العدل الدولية.. الخارجية السودانية تلوح بأخطر مستندات في مواجهة الإمارات
  • الشرطة السودانية تصدر موجهات بشأن البحث عن السيارات المنهوبة في الحرب وتحركات تبعث الأمل
  • بين ضغط أمريكي واعتداء إسرائيلي.. هل يستطيع لبنان نزع سلاح حزب الله؟
  • تعقيبا على مقال الأستاذ ياسر عرمان .. ورداً على سؤاله لماذا لا يفاوض الجيش ويقاتل في آن واحد ؟ (1-2)
  • الهوية السودانية بين الغابة والصحراء (2/2)
  • قنصل السودان بأسوان: الأعداد الكبيرة وراء تأخر حافلات عودة السودانيين
  • عودة عشرات آلاف السودانيين من مصر
  • قنصل السودان بأسوان يؤكد أن تأخر حافلات عودة السودانيين بسبب الأعداد الكثيرة
  • من يقتل الحقيقة لا يستطيع أن يكتب التاريخ