سلامة المدنيين بين الاستنفار والاستسلام
تاريخ النشر: 30th, October 2024 GMT
بسم الله الرحمن الرحيم
د. محمد المنير أحمد
الحرب مفسدة، ولا يجوز اللجوء الى الحرب الا لدرء مفسدة أعظم منها. ولقد رأينا أن المفاسد التي ترتبت على الحرب في السودان من ازهاق الأرواح البريئة واغتصاب النساء وسبيهن واستعبادهن والاتجار بهن لأغراض جنسية واتلاف مرافق الدولة الحيوية ونهب واتلاف الممتلكات الخاصة وتهجير وتجويع الملايين من المواطنين وانتشار المرض والعوز وتعطيل التعليم قد بلغ مبلغا يشيب له الوالدان وتتقطع له القلوب حسرة.
في هذا المقال أود أن أعقّبَ على الجدل الذي يدور حول الاستنفار لحمل السلاح دفاعا عن النفس والقرى والعشائر التي يجتاحها أو يهدد ويتوعد الدعم السريع باجتياحها والفتك "البل" بأهلها، وبين من يقول إن الاستنفار وحمل السلاح دفاعا عن النفس سيؤدى الى المزيد من سفك الدماء ويبرر تنكيل الدعم السريع بالمدنيين، لذا فان هذه الفئة من الناس تدعوا المواطنين لطلب حماية الدعم السريع بدلا عن مقاومته. وقد ذهب البعض الى أبعد من ذلك وقال ان من يحمل السلاح دفاعا عن نفسه وعرضه وماله يدخل في دائرة من يصفه القانون الدولي بالمقاتلين (combatant) ويُحْرَم من حق الحماية التي يكفلها القانون الدولي للمدنيين في حالات الحرب.
إذا رجعنا الى الوراء قليلا الى الأشهر الأولى لبدايات هذه الحرب بين الدعم السريع والقوات المسلحة، نجد أن الدعم السريع بادر الى اقتحام منازل المدنيين العزل وعمل فيهم قتلا واغتصابا للنساء ونهبا للأموال وطردا مذلا من البيوت والأحياء بيد أنه لم يكن في ذلك الوقت مستنفرين ولا مدنيين مسلحين في مدن العاصمة المثلثة. وعندما اقتحم الدعم السريع مدينة ودمدني وتبعتها مدن وقرى أخرى في الجزيرة، لم يكن أؤلئك المدنيون العزل طرفا في النزاع بين الجيش والدعم السريع. الفيديوهات التي صورها وبثها جنود الدعم السريع أكبر دليل على أن استهدافهم للمدنيين لم يكن رد فعل للاستنفار وحمل السلاح، انما كان يبرر تارة بأنهم جلابة، وتارة بأنهم فلول، أو أنهم يمثلون "دولة 56". وإذا أمعنا النظر فيما قام به الدعم السريع في دارفور قديما وما يقوم به الآن، نرى ومن خلال فيديوهات وتصريحات جنود وقيادات الدعم السريع أنهم يستهدفون المدنيين بشكل ممنهج على أساس اثنى/عرقي وقبلي محض.
إذا نظرنا لتسلسل الأحداث من حيث السابق واللاحق، والفعل ورد الفعل، نرى بكل وضوح ومن خلال توثيقات جنود الدعم السريع ومحرِّضيهم، أن استهداف الدعم السريع للمدنيين بالقتل واغتصاب النساء وسرقة واتلاف المال الخاص والعام بشكل ممنهج هو السابق في كل الأحوال لفكرة الاستنفار والدعوة للدفاع عن النفس. بل إن الاستنفار والدعوة للدفاع عن النفس والعرض والمال جاءت كرد فعل على تصاعد وتيرة وحدة استهداف الدعم السريع للمدنيين العزل مع عدم قدرة القوات المسلحة عن حماية المدنيين بشكل فاعل ووفق واجبها الدستوري.
لذا أدعو من يقول بأن الاستنفار وحمل السلاح دفاعا عن النفس والعرض والمال هو الذي جعل الدعم السريع يستهدف المدنيين لمراجعة تسلسل الأحداث.
ثم لنقل إن بعضا من الشباب قد حملوا السلاح داخل مدنهم وقراهم بغرض الحماية، فهل هذا يبرر للدعم السريع أن يقوم باختطاف واغتصاب النساء بعد أن اسر وقتل المستنفرين؟ ولماذا يقتل ويضرب ويؤسر ويهان الرجال المسنين، ما هي ذنب هؤلاء؟
إن الحرب ومنذ أشهر عديدة قد تجاوزت العداء بين الدعم السريع والقوات المسلحة ومن يسمون فلول وكيزان قد هيمنوا على الجيش. إنها حرب ضد المدنيين بكل أطيافهم ودياناتهم ما داموا لا يروقون لمزاج جنود الدعم السريع ومحرّضيهم من دعاة الفتنة. كل من يشاهد الفيديوهات التي يبثها جنود الدعم السريع ومحرّضيهم ويستمع للألفاظهم البذيئة يدرك طبيعة واجندة هذه الحرب ونفسيات منفذوها.
أما بالنسبة للذين يقولون بأن المدنيين الذين يحملون السلاح للدفاع عن أنفسهم وأعراضهم وأموالهم يصنفون كمقاتلين ويفقدون حقهم في الحماية التي يكفلها القانون الدولي للمدنيين، فدعوني اثير ثلاثة نقاط جوهرية:
أولا: أود أن اُحيل أصحاب هذه الحجة الى الأصل في القانون الدولي، ألا وهو أن استهداف المدنيين في حالة الحرب مخالف للقانون الدولي ويعد جريمة في حد ذاته. لذا فإن الأولى بمن ينظرون للأمر من منظور القانون الدولي أن يتوجهوا بالنصح للدعم السريع ومحرِّضيهم بعدم استهداف المدنيين بأي شكل من الأشكال إذ أن استهداف المدنيين هو أصل وأُس الأزمة التي يواجهها أهل السودان أينما حل الدعم السريع.
ثانيا: وفقا للقانون الدولي، يتمتع المدنيون بحق الدفاع عن النفس في الحالات التي تتعرض فيها مدنهم ومنازلهم للعدوان من قبل مجموعات مسلحة. يرتكز هذا الحق على القانون الدولي العرفي، ويفسر أيضا كجزء من الحق الأوسع في الحياة والبقاء بموجب قانون حقوق الإنسان. نعم، هناك تعقيدات قانونية في هذا الشأن، ولكن إذا نظرنا لنسق الجرائم التي يرتكبها جنود الدعم السريع كلما دخلوا مدينة أو قرية أو منزلا، يغلب على ظن كل مواطن بأنه هدف مباشر للدعم السريع مما يجعل الاستعداد للدفاع عن النفس والمال والعرض أمر بديهي ومسوق قانونا وعرفا.
ثالثا: أين هو القانون الدولي ومؤسساته من حماية المدنيين في السودان؟ لقد قال الأمين العام للأمم المتحدة في جلسة مجلس الأمن المنعقدة يوم 28 أكتوبر2024عن الحرب في السوان وبالحرف: "في الوقت الحالي لا تتوفر الظروف اللازمة للنشر الناجح لقوة تابعة للأمم المتحدة لحماية المدنيين في السودان"، عليه فإن دعوة المدنيين للكف عن حماية أنفسهم ضد استهداف الدعم السريع لهم وفى ظل عدم قدرة الجيش ولا الأمم المتحدة لحمايتهم لا يسنده منطق.
أعود وأقول مجددا أنه يجب أن لا نتوقف عن الدعوة للسلام العادل، يجب ألّا نيأس ولا نتوقف عن السعي لإيجاد صيغة، بعيدا عن البندقية، لحقن الدماء وإنهاء فتنة دمار السودان وطنا ومواطنا آملين في أن يتحقق فينا جميعا قول الله تعالى: " عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " (الممتحنة، 7)، ولكن الى حين أن يكف استهداف الدعم السريع للمدنيين قتلا وانتهاكا للأعراض ونهبا للأموال وتشريدا من الديار، فعلينا أن نستشعر قول الله تعالى: "فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ" (البقرة، 191) وقوله تعالى: "وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا" (النساء، 75).
واسأل الله اللطف بالسودان وأهله الصالحين.
30 أكتوبر 2024
msafieldin@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: استهداف الدعم السریع جنود الدعم السریع السلاح دفاعا عن القانون الدولی أن استهداف هذه الحرب للدفاع عن عن النفس
إقرأ أيضاً:
ناشطون: 42 قتيلا برصاص الدعم السريع في قرية وسط السودان
السودان – أعلن ناشطون سودانيون، امس الأربعاء، عن مقتل 42 شخصا رميا بالرصاص على أيدي قوات الدعم السريع بقرية ود عشيب بولاية الجزيرة وسط البلاد.
جاء ذلك في بيان لـ”مؤتمر الجزيرة” (كيان مدني يضم ناشطين)، وسط اتهامات محلية ودولية للدعم السريع بـ”ارتكاب انتهاكات وجرائم قتل جماعية” بحق المدنيين بالولاية، دون تعليق من تلك القوات حتى الساعة 18:25 تغ.
وتجددت الاشتباكات بين “الدعم السريع” والجيش السوداني بولاية الجزيرة في 20 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، على خلفية انشقاق القيادي بقوات الدعم أبو عاقلة كيكل، وهو من أبناء الولاية، وإعلان انضمامه إلى الجيش.
وفي ديسمبر/ كانون الأول 2023، سيطرت “الدعم السريع” بقيادة كيكل، على عدة مدن بالجزيرة بينها “ود مدني” مركز الولاية.
وتسيطر “الدعم السريع” حاليا على أجزاء واسعة من الولاية عدا مدينة المناقل والمناطق المحيطة بها حتى حدود ولاية سنار جنوبها، وغربا حتى حدود ولاية النيل الأبيض.
وقال “مؤتمر الجزيرة”: “ارتفع عداد الشهداء الذين سقطوا على أيدي الدعم السريع بقرية ود عشيب شرق الجزيرة إلى 69 شهيدا”.
وأضاف: “قتلت الدعم السريع، مساء الثلاثاء وصباح اليوم الأربعاء 42 رميا بالرصاص، بينما توفى 27 آخرون جراء الحصار وانعدام العلاج”.
وأشار إلى أن أفرادا من تلك القوات “هاجموا القرية الخميس الماضي ونهبوا وروعوا السكان وفرضوا عليهم حصارا محكما”.
وأمس الثلاثاء، أعلن ناشطون سودانيون، عن وفاة 25 شخصا جراء انتشار أوبئة ونقص الأدوية والغذاء في “ود عشيب” التي تحاصرها الدعم السريع.
ومنذ منتصف أبريل/ نيسان 2023، يخوض الجيش و”الدعم السريع” حربا خلّفت أكثر من 20 ألف قتيل وما يزيد على 13 مليون نازح ولاجئ، وفق تقديرات الأمم المتحدة والسلطات المحلية.
وتتصاعد دعوات أممية ودولية لإنهاء الحرب بما يجنب السودان كارثة إنسانية بدأت تدفع ملايين إلى المجاعة والموت جراء نقص الغذاء بسبب القتال الذي امتد إلى 13 ولاية من أصل 18.
الأناضول