- أحرقوا مراكز الإيواء.. لا أكفان للموتى.. والدفاع المدني: الأوضاع خارج السيطرة

- قوات الاحتلال هدمت مربعًا سكنيًا كاملًا فوق رؤوس 10 عائلات تمسكت ببيوتها

- نازحون: يجبروننا على الرحيل للمجهول بتهديد السلاح وانقطاع الاتصالات يفرقنا

- انهيار المنظومة الطبية.. واقتحام مستشفى كمال عدوان تنكّر إسرائيلي للإنسانية

ظلت منطقة، جباليا، شمال غزة، تنبض بالحياة، قبل 7 أكتوبر 2023، كانت تعكس روح الإصرار الفلسطيني في كل تفاصيلها.

الأسواق تعج بأصوات الباعة وضحكات الأطفال، كان الفرح يعانق الألم في لوحة حية من الحياة اليومية. الأشجار التي تزين مداخل البيوت الصغيرة كانت تعكس لمسات الأمل، وعبق الخبز الطازج يعطر الأجواء، وفي الأمسيات، كانت العائلات تتجمع أمام بيوتها، تتبادل الأحاديث، تحت سماء تتلألأ بالنجوم، كأن كل ليلة تعد بفرصة جديدة للتشبث بالحياة. ثم فجأة، اختفى كل شيء.

في منطقة، بيت لاهيا، المجاورة الأوضاع ليست أحسن حالا. قبل ساعات، وفي مشهد مأساوي من قلب مستشفى كمال عدوان، اختفى أثر الطواقم الطبية والمرضى بعد اقتحام الجيش الإسرائيلي للمستشفى، رغم وعود سابقة قدمها وفد من منظمة الصحة العالمية بأن المستشفى لن يتعرض لأي عملية عسكرية، لكن الوعود تحولت إلى مجرد كلمات بدون مضمون، فيما يتردد أن القوات الإسرائيلية دخلت وفق مسار دقيق، يتطابق مع تحركات وفد المنظمة الدولية، قبل يوم من اقتحام الاحتلال للمستشفى.

يقع مستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا، كإحدى أهم المنشآت الصحية في المنطقة. كان محيطه، قبل عام من العدوان الإسرائيلي، يضم معالم ومرافق عدة (مراكز صحية وعيادات تقدم خدمات طبية أولية، وأسواق تقدم جميع أنواع السلع والخدمات، حدائق عامة ومناطق خضراء، مدارس ابتدائية وثانوية، ومرافق رياضية، ومساجد وكنائس) إلى جانب منطقة سكنية كثيفة العدد، بحكم حيوية المنطقة القريبة من المستشفى، معظمها تحوّل إلى أطلال.

الدكتور حسام أبو صفية مدير مستشفى كمال عدوانلم تكتفِ القوات الإسرائيلية بمحاصرة المستشفى بالدبابات، بل قصفته بعنف، واحتجزت الطواقم الطبية والمرضى وأجبرتهم على خلع ملابسهم، ثم اقتادتهم إلى مكان مجهول. هذه التطورات المؤلمة تمثل فصلاً جديداً في سلسلة الانتهاكات الإسرائيلية التي تطال البنى التحتية الصحية والمدنية في القطاع. مدير المستشفى، الدكتور حسام أبو صفية، أفاد (قبل انقطاع الاتصال معه) أن الوضع داخل المستشفى مأساوي قبل أن يجتاحه الجنود، تاركين خلفهم حصاراً خانقاً وأجواء من الذعر.

يأتي هذا فيما تتعرض طواقم الدفاع المدني في شمال غزة إلى استهداف متعمد أفقدها القدرة على أداء مهامها. يقول المتحدث باسم الدفاع المدني، محمود بصل لـ"الأسبوع" (وهو في حالة ذهول، وأسى شديد): الوضع خرج عن السيطرة، قتل بعض أفراد الطواقم أو اعتُقلوا، بينما دُمّرت سيارات الإسعاف ومعدات الإنقاذ. استغاثات السكان تتزايد، لكن لا يمكننا فعل شيء، حتى فرق الإنقاذ أصبحت في مرمى النيران.

شهادات مؤلمة محمود حمدونة

تتعدد الشهادات الحية التي حصلت عليها لـ«الأسبوع» تعكس مأساة مستمرة في قطاع غزة، حيث يُحكم الاحتلال قبضته على الأرض والناس بلا رادع دولي، تكشف عن الفصول المأساوية لحياة المدنيين في ظل صمت عالمي مُخزٍ، تاركين أهالي القطاع يواجهون مصيرهم وحدهم، بين القصف والحصار والتهجير.. يروي، محمود شفيق حمدونة، المقيم في مخيم جباليا، مأساته: «لا طعام ولا شراب، والحصار يُطبق علينا منذ أكثر من عشرين يوماً. حتى الأكفان لم تعد متوافرة لتكفين الشهداء، نضطر إلى لفهم بالأغطية. نزحنا من بيوتنا إلى المدارس والمستشفيات بحثاً عن الأمان، لكننا تعرضنا للقصف في تلك الأماكن أيضاً. لم يعد لنا ملاذ آمن، والعدو يستهدفنا بلا هوادة. رسالتي إلى المجتمع الدولي إلى متى الصمت؟ نحن نتعرض لإبادة وتطهير عرقي، وآن الأوان أن تتحرك الدول العربية لنصرتنا».

صباح المدهون

بالدموع، تتحدث صباح خليل عبد الله المدهون، من سكان بيت لاهيا عن: «حصار مرير فرضته القوات الإسرائيلية بالدبابات والطائرات. لا دواء ولا مأوى، حتى مراكز الإيواء أُحرقت، والشهداء تُركوا في الشوارع دون دفن. واقعنا المر يتجاوز كل شيء. نعاني وجع الفقدان والفراق. قتلوا زوجي، وإخوته الثلاثة، وأخذوا حماي المُقعد إلى مكان مجهول. نحاول بلا جدوى الوصول إليه عبر الصليب الأحمر، علنا نعثر عن المفقودين».

إبادة منظمة الصحفي مؤمن أبو عودة

الصحفي، مؤمن أبو عودة، من شمال القطاع، يصف لنا الوضع المرير، بقوله: «نحن في اليوم الـ23 لعملية الإبادة المنظمة. الجيش الإسرائيلي يحاصر الشمال من جميع الجهات، يدفع الناس إلى النزوح تحت القصف والتهديد.تم إجلاء النازحين من مدرسة خليفة بن زايد ومركز أبو تمام في بيت لاهيا، لكن ما إن تحركوا نحو شارع صلاح الدين حتى وقعت المجازر. القوات الإسرائيلية أحرقت 6 مراكز إيواء، منها مركز الكويت القريب من المستشفى الإندونيسي، بعد حصار دام خمسة أيام».

يضيف أبو عودة: «الاحتلال يستخدم طائرات بدون طيار لإجبار طواقم الإسعاف والدفاع المدني على الخروج، ومن ثم يُقصفون أو يُعتقلون عند نقاط التفتيش. مع استمرار العدوان الإسرائيلي، يعيش السكان في ظل انقطاع كامل للإمدادات الإنسانية. أكثر من عشرين يوماً مضت دون دخول أي مساعدات إلى غزة، محطات تحلية المياه متوقفة عن العمل، فيما يقصف الاحتلال كل مزودي الخدمات، في محاولة لدفع الناس إلى النزوح نحو الجنوب».

وضع كارثي

إسلام أحمد

إسلام أحمد، من معسكر جباليا، يصف الوضع بأنه «بالغ الصعوبة والكارثية. معاناة الناس تتفاقم. نفدت المواد الغذائية والمياه والدواء، وانتقلنا من مرحلة نقص الطعام والشراب إلى سوء التغذية، التي تتفشى بين الأطفال. الملابس وحليب الأطفال غير متوفرين على الإطلاق، والوجبة الوحيدة المتاحة في منطقة الحصار هي فتات الخبز والماء غير صالح للاستهلاك الآدمي، لأن جميع محطات المياه قد قُصفت، وتم استهداف الآبار، باستثناء عدد قليل. الماء الذي يصل للناس مخلوط بمياه الصرف الصحي، بعد تدمير البنية التحتية، مما يجعل السكان مضطرين لاستخدامه».

يقول إسلام: «جميع المدارس والمستشفيات ودور العبادة ومراكز الإيواء قد دمرت بالكامل. آخر مستشفى كان يعمل، مستشفى كمال عدوان، أجبر المرضى غير القادرين على الحركة على الخروج إلى ساحة المستشفى، وتم اعتقال الكوادر الطبية. لم يتبق في مستشفى كمال عدوان سوى المدير وبعض الممرضات، ممن أصروا على البقاء، فتركهم الاحتلال دون طعام أو ماء في عزلة تامة. كما تعرضت محطة الأكسجين الوحيدة في مستشفى كمال عدوان للقصف، مما ترك 14 طفلاً، بينهم 7 في غرفة العناية المركزة، في حالة حرجة».

يضيف إسلام: «الممارسات التي يتعرض لها المدنيون شديدة الوحشية. يتم تجميع النساء وإجبارهن على الوقوف في حفرة عميقة - جورة- من مخلفات القصف، لإذلالهن، من خلال إطلاق النار عليهن من الأعلى بهدف التخويف، وعندما يصرخن طلبًا للنجاة، يتم إخراجهن بصعوبة. يُجردون الرجال والشباب من ملابسهم عند عرضهم على الفحص، ثم يتم تقسيمهم إلى فريقين: الأول، من يريد الجيش اعتقالهم يتم تقييدهم من أيديهم وتغطية أعينهم مع اقتيادهم إلى مراكز الاعتقال، والثاني، من يرغبون بإخراجهم يسلكون طريقًا محاطًا بالدبابات والطائرات، بينما يتم إطلاق النار على النازحين لإجبارهم على مغادرة الشمال. يتم إجبار المواطنين في جباليا على مغادرة منازلهم، ومن يرفض يتم هدم بيته».

التهجير الدامي

هناك من رفض ذكر اسمه خوفا من جبروت الاحتلال.. بصوت مثقل بالحزن يقول المسعف «ر.خ» بعدما نجح في الخروج من مخيم جباليا: «النازحون في الشوارع يعيشون أوضاعا مأساوية.. ما تبقى من العائلات يتجمعون سيرًا على الأقدام أو على عربات كارو. العائلات تفرقت، وفقد كثيرون أثر أبنائهم وسط هذه الفوضى، خاصة مع انقطاع الاتصالات عن المناطق المحاصرة. يجبرون، غالبًا، على التحرك تحت تهديد السلاح، وقد يتعرضون للقصف أو إطلاق النار خلال رحلة النزوح».

يضيف «ر.خ»: «العمليات العسكرية الإسرائيلية على جباليا وبيت لاهيا غطت الشوارع بالجثث. يعجز السكان عن إخلاء جثث أحبائهم بسبب القصف المستمر الذي يستهدف أي حركة. القناصة والطائرات المسيرة يترصدون كل من يحاول التحرك، ما أجبر الأهالي في بعض الحالات على دفن موتاهم داخل منازلهم أو تركهم في الشوارع، في انتظار ما قد يأتي».

يقول «ر.خ»: «في حادث مأساوي، هدموا مربعا سكنيا كاملا بمنطقة، الهوجا، بجباليا فوق رؤوس عشر عائلات رفضت مغادرة بيوتها، ما يعني مسحهم من السجلات. لم يسلم أحد، إذ أصبح شمال غزة معزولا تمامًا عن العالم، بعد انقطاع الاتصالات والإنترنت، ما جعل الوصول إلى المناطق المتضررة مستحيلا على فرق الإغاثة. المستشفيات تعاني من شُح الإمدادات، والعجز عن تقديم الرعاية الكافية، حتى بات يمكن القول إن شمال غزة خرج عن الخدمة بالكامل».

«يصل النازحون إلى شارع صلاح الدين -الرئيسي في القطاع- حفاة، منهكين وجوعى، وهم يحملون القليل مما استطاعوا إنقاذه. أغلبهم من النساء والأطفال ممن أجبرتهم إسرائيل على النزوح بعد إحراق مراكز الإيواء.. ينتظرون أي وسيلة تنقلهم إلى الجنوب، لكن الازدحام ونقص وسائل النقل جعلا الانتقال متاحًا للبعض فقط»، بحسب المسعف «ر.خ».

الحياة المحطمة

أصبحت، جباليا (ككل مناطق شمال القطاع، حاليا) مدينة منهكة، شاخت في لمح البصر. لم يتبقَ سوى صدى ماضٍ حزين. الشوارع أصبحت فارغة ومهشمة، تحكي قصص بيوت هُدمت فوق رؤوس أصحابها. تتوقف عيناك أمام حطام المنازل والمنشآت.. تبدو المدينة كأنها تفجرت من الداخل، الغبار المتصاعد يشهد بحجم المأساة والدمار في الشوارع المهدمة، الكئيبة. لا يقاطعه إلا أزيز الطائرات التي تمر كأنها تحفر الفراغ نفسه. الهواء نفسه تفوح منه رائحة الموت، حتى السماء، باتت مثقلة بالكآبة، كأن النجوم هجرت هذا المكان بعدما أظلمت أحلام أهله.

جباليا، التي كانت تبتسم رغم كل شيء، باتت تتألم في صمت. لم تعد جلسات العائلات، بعدما غادر من تبقى منها إلى مصير مجهول. من تحدثوا لنا بحزن يصل حد الحسرة تجمعهم حالة مشتركة.. مفردات شبه مشتركة: الألم في جباليا لا يحتاج إلى كلمات، هو حاضر في كل التفاتة، في كل عين تنظر في الفراغ. تحول السوق الشعبي إلى أكوام من الحجارة والأخشاب المبعثرة. مسجد الخلفاء الراشدين، صار شاهدًا على كارثة أخرى. مآذنه اختفت تحت أكوام التراب.

حديقة جباليا تحولت من واحة صغيرة يلجأ إليها الأهالي بحثًا عن لحظات فرح مسروقة من عمر الزمن إلى أرض جرداء. لم تعد مقبرة الشهداء، قادرة على استيعاب المزيد من القتلى، اتسعت مساحتها لتصبح بحجم المدينة، نتيجة تساقط الضحايا، يوميا. حتى شارع النصر، أصبح ضحية للعدوان. كان بمثابة الشريان الذي كان يربط جباليا، صار محطما، كحال مستشفى كمال عدوان، ينتظر مصيره، ورغم حصانته الصحية والإنسانية، لم يَنجُ من جرائم الاحتلال.

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: حرب غزة مخيم جباليا بيت لاهيا مستشفى كمال عدوان القوات الإسرائیلیة مستشفى کمال عدوان مراکز الإیواء فی الشوارع بیت لاهیا شمال غزة

إقرأ أيضاً:

روايات الناجين من حصار مستشفى كمال عدوان في لحظاته الأخيرة

غزة- على فراش أرضي في غرفة تكتظ بالجرحى في مستشفى الشفاء، تستلقي طفلة شقراء لم تتجاوز الـ10 أعوام، يلتبس على الناظر إليها مكان إصابتها، فجسدها يبدوا سليما وكاملا، فتحت عينيها الخضراوين، فهرولت أمّها إليها تسألها "هل ترينني يا ديما؟!".

تجيبها ابنتها "أرى شيئا أحمر، هل ترتدين لونا أحمر يا ماما؟!"، وبكل خيبة ترد الأم التي تتشح بالسواد "نعم يا ماما أرتدي اللون الأحمر" ثم تغطي الأم وجهها بكفيها، وتبتعد عن ابنتها وتنهار باكية.

اقتربت الجزيرة نت من والدة الطفلة ديما سرور، التي اخترقت شظية رأسها واستقرت بمركز الإبصار في دماغها، عقب استهداف مدفعية الاحتلال منزلهم في جباليا، خلال حصارها شمال القطاع.

تروي أم ديما للجزيرة نت تفاصيل الاستهداف: "سمعتُ صوت انفجار، تبعه صراخ ابنتي المضرج رأسها بالدماء وهي تقول: مش شايفة، حملتُها ونزلت بها درج المنزل وفتحت الباب فوجدت زوجي ينزف وحوله عدد من الشهداء على الأرض".

وبعد مضي أكثر من ساعة على قصف الاحتلال منطقتهم المحاصرة، وصلت عربة يجرها حيوان لنقل الشهداء والمصابين إلى مشفى كمال عدوان، فتبِعتهم أم ديما ركضا مع أطفالها الثلاثة.

عدد المصابين والجرحى وبينهم الأطفال فاقت القدرة الاستيعابية لمستشفى كمال عدوان (الجزيرة) نظام المفاضلة

بسبب اكتظاظ المصابين، استغرقت أم ديما ساعة بعد وصولها وهي تبحث عن ابنتها في أقسام المستشفى وطوابقه، إلى أن وجدتها متكورة على نفسها في زاوية القسم تنزف وترتجف، فطفلتها لم تتلق أي فحص أو علاج خلال فترة وجودها في المشفى، التي استمرت لأيام، وذلك لأن الأطباء يتبعون نظام "المفاضلة".

ويقتضي هذا النظام إعطاء الأولويات في التعامل مع المصابين حسب خطورة الحالات وإمكانية علاجها، بسبب قلة الكوادر الطبية، وبعد إلحاح الأم وتوسلّها من الطاقم الطبي، جاء الاعتذار "تحتاج ديما لصورة أشعة مقطعية، وهي غير متوفرة، وتحتاج لجرّاح أعصاب أو عيون، وهو غير متوفر، لن نستطيع فعل شيء لها!".

نزل هذا الاعتذار كصاعقة على قلب الأم، التي ترى ابنتها البكر تفقد نور عينيها شيئا فشيئا، فديما تحتاج للخروج من غزة لإجراء عمليات جراحية ووقف النزيف الذي سببته الشظية، التي قد يؤدي تحركها إلى دخول الطفلة في تشنجات عصبية، ومع مرور الوقت يتناقص الأمل في تدارك فرصة الإبصار قبل فوات الأوان.

لم يسعف الوقت ديما وعائلتها لإدراك فداحة الأمر، حتى ضُرب الحصار على المستشفى الذي يوجدون فيه، وانهال سيل من القذائف الدخانية والرصاص على مباني المستشفى، تصف أم ديما لحظات الرعب التي عاشتها مع أطفالها "تهشّم الزجاج فوق جسدَي زوجي المصاب وابنتي، الغائبين عن الوعي" قبل مرور الوفد الأجنبي الذي أجلاهم وعددا من المرضى من مشفى كمال عدوان إلى مشفى الشفاء غرب المدينة.

"أسوأ يوم"

استغرق طريق الإجلاء بين المشفيين -الذي لا يستغرق 10 دقائق في العادة- أكثر من 5 ساعات، فقوات الاحتلال أقامت 3 حواجز للتفتيش، وأجبرت سيارات الإسعاف على الانتظار دون أسباب، وعلى تلك الحواجز "لم يتوقف الجنود عن التحدث بعبارات الاستهزاء والإهانة"، حسب ما تقول أم ديما.

وتضيف "طلب مني أحدهم رمي هاتفي على الأرض وتركه، وأجبر فتاة مصابة على خلع حجابها وقام بتصويرها وهي تخلعه، وهو يتبسم ساخرا".

وبينما كانت الجزيرة نت تجري مقابلة مع أم ديما، وصل زوجها سامح الذي نجا من فكي الموت، بعد أن عاش أهوال حصار مستشفى كمال عدوان كاملة، مع 23 مريضا تم إجلاؤهم من المشفى، عقب اعتقال قوات الاحتلال معظم الكوادر الطبية فيه.

تحدث والد ديما للجزيرة نت عما رأى، وقال "عبر مكبرات الصوت، أمهل الضابط المرضى والكوادر الطبية 10 دقائق للنزول إلى الطابق الأرضي، كنا 150 مريضا بيننا أطفال، و80 من الكوادر الطبية"، وتابع "أخبر مدير المستشفى الدكتور حسام أبو صفية الضابط الإسرائيلي أن هناك مرضى على الأسرّة لا يستطيعون النزوح، فردّ عليه بكل تعنت: اللي بنلاقيه فوق حنقتلو".

وتحت سيف المهلة، بدأ المرضى بجرّ أجسادهم، وبدأت الكوادر الطبية بإنزال العاجزين على "شيّالات الإسعاف"، وكان سامح قد خرج قبل ساعات من عملية جراحية بُترت فيها قدمه، فحمله الممرضون للأسفل، ومع مرور الوقت التهبت جروحه وتعفّنت وتجمّع عليها الذباب.

يقول سامح إن الضابط أمر طاقم التمريض بالاصطفاف وصار يسألهم: أنتم موظفون في حكومة حماس؟!، ثم انهال عليهم الجنود بالضرب والشتائم"، وبينما كان يئن المرضى عطشا وجوعا ويطلبون الماء من الجنود، كان الضابط يجيبهم "لا علاقة لنا بكم، لن نعطيكم شيئا".

"كان أسوأ يوم في الحرب، بل في حياتي كلها" يلخص سامح ذلك اليوم الذي قضاه متكئا على الحائط، مادا ساقيه المبتورة والمصابة، ويذكر طلب الجندي منه رفع يديه وتهديده له بقوله "حنضل وراكو (سنظل وراءكم) حتى تموتوا أو تستسلموا".

"كأن المغول مروا منه" يصف سامح المستشفى بعد انسحاب جيش الاحتلال، حيث أحرقوا الأقسام والمولدات وسيارات الإسعاف، ودمروا محتوياته والأجهزة الطبية فيه، ويقول سامح "عقب الانسحاب قدم العشرات من المتطوعين لتنظيف المستشفى، وجاء من خارجها من يمتلك خبرة في الإسعاف الأولي لعلاج مضاعفات الإصابات، لأن الاحتلال لم يبقِ أيّا من الكوادر الطبية فيه".

الناجيان الوحيدان محمد وعمر عبد العال مع جدتهما بعد إجلائهم إلى مجمع الشفاء الطبي بسبب حصار مستشفى كمال عدوان (الجزيرة) ألم الذكريات

تابعت الجزيرة نت جولتها في مستشفى الشفاء بمدينة غزة بين المصابين الذين نجوا من حصار مشفى كمال عدوان شمال القطاع، يضجّ القسم بصوت صراخ الطفل محمد عبد العال (12 عاما) وهو يتألم، كانت جدته الستينية تسنده، وهو الذي قد شهد مصرع عائلته كلها تحت الأنقاض وسمع احتضارهم، قبل أن ينجو مع شقيقه عمر، الذي حرقت نار الصاروخ وجهه.

كان محمد قادما من غرفة "غيار الجروح"، حيث قام فيها الأطباء -وبدون تخدير- بتغيير جرح بطن محمد المفتوق من شظية صاروخ فتكت بجزء كبير من أمعائه وبترت عددا من أصابعه، توجهّت الجزيرة نت إليه، حاولنا التحدث معه لكن لسانه ظل يردد: "أريد أمي، أريد بيتي أعيدوني للشمال".

 يغطي وجهه لا يريد التحدث متعللا بحاجته للنوم، تفر الدموع من عينيه، يرفض استرجاع أيّ من التفاصيل ويصيح "بديش أتذكر!"، لا أحد حوله سوى جدته المكلومة بفقد عائلة ابنتها، وبالقلق على أبنائها الذين لا يزالون محاصرين في شمال القطاع.

تقول جدته "بقي محمد ينزف لساعات، ومن شدة اكتظاظ القسم لم يتعامل معه أحد، الأمر ضاعف حالة النزيف لديه"، تذكر الجدة تفاصيل الانتظار الطويل على حواجز الاحتلال في طريق إجلائهم لمستشفى الشفاء، تقول "نزلت من الإسعاف رافعة هويتي وطائرة الكواد كابتر فوق رأسي تماما، تقدمت إلى الجندي الذي حدق في وجهي وفي هويتي مرارا قبل أن يأمرني بالانصراف".

وعلى سرير مقابل الجدة، تستلقي إيمان الفرام مع طفلها عبد الحكيم (4 أعوام) وكلاهما مصاب، دون مرافق لهما سوى ابنها الذي لا يتجاوز عامه العاشر، فزوجها أسير منذ أكثر من عام، وعائلتها لا تزال محاصرة في شمال القطاع.

خلال حصارهم في الشمال، ارتقى ولدها مؤيد الذي كان مصابا برأسه في استهداف منزلهم في مشروع بيت لاهيا، تقول إيمان "لا شعور أصعب من أن تفقد الأم ولدها بين يديها، لأنه محاصر ولا أحد يسعفه"، معتبرة خروجها من مستشفى كمال عدوان كأنه ولادة جديدة، بعد موت محقق نجت منه "نسبيا" وبقية أولادها.

الطفل عبد الحكيم الفرام ووالدته إيمان نجوا من حصار كمال عدوان (الجزيرة) مشفى منكوب

لم يتبق في مشفى كمال عدوان سوى طبيبي أطفال اثنين فقط، أحدهما الدكتور حسام أبو صفية مدير المشفى، الذي يؤكد قائلا "ليس في المشفى الآن أي طبيب جراح، وكل ما نستطيع تقديمه للمئات من الجرحى المتوافدين على المشفى بإصابات بالغة الصعوبة هو الإسعافات الأولية فقط"، ويضيف "أمس قدمت مؤسسة صحية مساعدات، لكنها لم تكفِنا ليوم واحد".

وعن القدرة الاستيعابية للمشفى، يجيب أبو صفية بابتسامة يائسة "المشفى منكوب، نحاول إفراغ الأسرّة من مصابين بحالات خطرة وبعضهم أطفال، لإفساح المجال أمام إصابات أحدث لكن بلا جدوى".

ويؤكد مدير المستشفى أن "حتى نظام المفاضلة بين المرضى لم يعد يجدي نفعا، فكل الإصابات سواء في خطورتها وحاجتها العاجلة للعلاج، وكلها تحتاج إمكانيات وأطباء متخصصين غير متوفرين"، مستطردا في ذكر ما تفتقر إليه مستشفيات غزة من مقومات كالوقود وغيره.

وفي حين يكافح من تبقى من الفرق الطبية في شمال القطاع لإنقاذ ما لا يُمكن إنقاذه، يناشد مدير مستشفى كمال عدوان الدكتور حسام أبو صفية ضرورة السماح بإدخال وفود طبية وجراحية إلى المستشفى، والحاجة لإدخال سيارات الإسعاف والمستلزمات الطبية قبل فوات الأوان.

ويضيف "طالبنا كل المؤسسات الدولية ولكن لم يتجاوب أحد معنا"، مناشدا من تبقى من صحفيين ووسائل إعلام في شمال قطاع غزة بالضغط من خلال وسائل الإعلام الأجنبية "ليعلم كل العالم فداحة ما يحدث من إبادة جماعية بحق الأطفال والنساء في شمال قطاع غزة"، حسب قوله.

مقالات مشابهة

  • مدير الصحة العالمية يدين هجوم الاحتلال على مستشفى كمال عدوان.. الوضع مأساوي
  • إسرائيل تقصف مستشفى "كمال عدوان" شمال غزة
  • الصحة الفلسطينية تدين الاعتداء المتكرر للاحتلال على مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة
  • احتراق مخزن أدوية ومستلزمات طبية في مستشفى كمال عدوان إثر قصف إسرائيلي
  • مستشفى كمال عدوان.. هذا ما حدث في آخر حُصون شمال غزة الصحية
  • السلطان لـ"صفا": الاحتلال لا زال يحاصر مستشفى كمال عدوان
  • روايات الناجين من حصار مستشفى كمال عدوان في لحظاته الأخيرة
  • وحشية هائلة| غارة إسرائيلية على محيط مستشفى كمال عدوان.. 62 شهيدًا ببيت لاهيا
  • جيش الاحتلال يعلن انسحاب قواته من مستشفى كمال عدوان في شمال غزة