لجريدة عمان:
2025-04-17@10:58:53 GMT

الفصل الأول: مريم دلشاد

تاريخ النشر: 30th, October 2024 GMT

الفصل الأول: مريم دلشاد

«آستا... آستا».

سقطت عباءتي على كتفي فرفعتها، هرولت فاخترقت الغبار المتساقط من الأسقف والمتصاعد من أقدام العابرين، اختلطت دقات قلبي مع رنات سلاسل الحرز الذي كان يدق على صدري عند كل حركة فيوجعني. شوّشتني روائح السوق، الرز والطحين والتوابل وروث الدواب وتخمّر الأجساد، سقطت غشاوة من العرق على عيني فلم أرَ إلا أطياف المارّة الملتصقين بجدران الدكاكين والعتالين الذين ينحُّون بضائعهم مفسحين لي الدرب وهم يطلبون مني الإبطاء «آستا.

. آستا». ناولني حسن صرة الشاش التي لفّ بها القامش الشنجهاغي الأخضر الذي طلبته خيرية زوجة حجي علي حسن لعرس ابنها إبراهيم، كنت أهمُّ بمغادرة الدكان لكن حسن أشار تجُاه عسكري الوالي الواقف عند أول الزقاق ينكش بضاعة خوجة أحمد بطرف عصاه «هذا خميس سنورة صح؟» «هوه.. بس يتشيطن على الناس في السوق». غمزت لحسن وأنا أمسك بكبة كنت أتسلى بصنعها من بقايا الأقمشة ومشيت نحو العسكري وألقيتها عند قدميه، فقفز وصرخ وصار ينط في مكانه وكأن ألف عفريت تلبَّسه. أكملت سيري وكأنه لا دخل لي بهيجان العسكري عندما ظن الكبة سنورة قفزت عليه من مكان ما، لكن خلف غشوتي كبرت ابتسامتي وبدأت أشعر بصعود الضحكة من بطني حتى رئتي. كادت الضحكة تنفجر وتفضحني في السوق، لولا أن طيفًا نحيلاً مرق أمامي في مجرى السوق فشغلني، تلاشت ضحكتي وما عاد صوت زعيق العسكري وسبابه يصلني. كان هو... حثثت خطواتي نحو مجرى السوق، كان للحظة أمامي، أدار وجهه ناحيتي ثم ما لبث أن غاب في سكة من سكك السوق. كان هو، أعرفه من نحوله وانحناءة كتفه جهة اليمين عندما يمشي، أعرفه من جانب وجهه ومن ذاك التقوس الطفيف في ظهره. كان هو، أنا أعرفه.

«آستا... آستا»

«كمو... كمو...»

«شوي... شوي»

صاح عليَّ الباعة والعتالون والمارة كي أبطئ، لكني أسرعت في مجرى السوق غير مكترثة، دخلت سكة الظلام خلفه فلم أرَه، فتَّشت الدكاكين بعيني لكنه لم يكن في أيٍّ منها، أسرعت أكثر متجاهلة همهمات الرجال ولعناتهم. خرجت من سكة فتلقفتني أخرى أضيق، شعرت بثقل الهواء الذي صار كأنه ستارة من جوخ أُسدلت أمامي، مضيت فيه وهو يصدني، صرخت فحجب صوتي، فاندفعت بسرعة أكبر لأخرج إلى سوق التوابل. أعماني الضوء فأغمضت عيني للحظة ثم فتحتها، فعلت ذلك مرة أخرى علّي أراه، لكني لم أرَه. وقفت حائرة أتلفت حولي، فحصت وجوه الرجال وعاينت مَن في الدكاكين وما فيها ولم أرَه. عدت إلى الركض تجاه مجرى السوق، وعندما وصلت ما وجدت له أثرًا، حاولت التقاط أنفاسي وتفحّصت وجوه المارّة فربما توارى خلفها. لم أجده، وكأن وجهه كان من غبار تلاشى في كثرة الوجوه. عدتُ إلى دكاني وأنفاسي تتلاحق من الركض، وضعت كفي على صدري علّ وجيبه يهدأ، أمسكت بالحرز فربما إن كان فيه طلسم هدأني.

هو دلشاد، لا أخطئه، جاء ليبحث عني. دلشاد حي، دلشاد لا يموت ويترك مريم وحدها. لا أعرف إن كان الركض أتعبني أم أن صدري أثقله الوجع، حدّقت إلى أصابع قدمي المغبرة، فتذكرت الدرب من لوغان إلى بيت لوماه، عضضت على شفتي وأنا أراه يغيب في دروب ولجات، حتى غلب الألم دموعي. سمعت صوت حسن وهو يمد يده بالصرة «هين سرتي بيبي مريم؟» تناولتها ولم أُجِبه، متى بدأ حسن يسميني البيبي؟ نظرت إلى وجه حسن طويلاً، هل فعلاً يشبهه؟ كيف لأحد أن يشبهه؟ كَبُر الفراغ في قلبي فأوجعني وأوجعتني خيبتي، خيبة من ظن أنه وجد ثم أدرك أنه ضيَّع ما وجد. هل كنت أحلم؟ أكان كابوسا؟ أركض في السوق من زقاق إلى آخر ولا أصل؟ سقطت عيني على قدميَّ المغبرتين، قدميَّ اللتين تركضان ولا تصلان إليه، شعرت بألم ركضهما الحافي، أين سقط نعلاي؟ أطلت النظر إليهما، تذكَّرتُ لمَّا كان حصى الوادي يحرق باطن قدمي فيُقطِر أبي الزيت في كفه ويدهنهما به، لم يكن الألم يزول مرة واحدة، بل يتلاشى مع الوقت وهو يغنّي لي ثم أتبعه في الغناء، من منا كان يغنّي للآخر؟ خرجت من مجرى السوق لكني لم أستطع الكفَّ عن التلفت، وكأن الأمل الذي برق للحظة سيظل يخادعني وسأظل أطارده.

وصلت إلى بيت حجي علي حسن، تلمست مطرقة الباب التي أحمتها الشمس، لسعت أصابعي فاسترددتها، رأيت باب بيت لوماه يفتح، ومامويزي تبتسم فينكشف فمها الأدرد، ثم وبحركة من رأسها تصرفه، التفتُّ فلم أرَ سوى ظهره، وصوتي يغيب وكأن مامويزي سرقته فلم أستطِع مناداته، ثم جرتني بذراعي فصرت أتبعها أينما ذهبت علَّها تعيده إليَّ. طرقت الباب ثانية، سمعت خطوات الخادمة الصغيرة من وراء الباب «جاية.. جاية.. ما شي صبر؟ جاية»، فتحت الباب وتبسمت بفم واسع تملؤه الأسنان الصغيرة، «قربي مريم، دخلي.. دخلي» لكني لم أدخل، سلمتها صرة الشاش عند الباب، وأمرتها أن تبلغ سلامي إلى سيدتها وغادرت. أردت العودة إلى البيت فأخذت طريق السوق، مشيت فيه من أوله إلى آخره، تفحّصت وجهي المكروب في وجوه أهله، جالت عيناي داخل دكاكين البانيان والعرب مرة أخرى لكني لم أجده. لعله ما كان هو، ربما سهوت للحظة فخُيِّل إليّ أنه هو، ربما تمنّيت عودته فحضر طيفه ليشاكسني، ربما كان قرينه، يقال إن لكل شخص قرينًا، مامويزي حكت لي، لكن ما بال قرينه غاب مع غيابه وما ظهر إلا الآن! لا، كان هو، أنا أعرفه، لن تشكِل عليّ هيأته، ثم إن قلبي هو الذي يعرف، وقلبي هو الذي ركض أمامي فتبعته.

ماذا سيقولون في السوق؟ مريم دلشاد جُنَّت؟ أم خلعت برقع الحيا فصارت تركض في أزقة السوق بين الرجال، تدافعهم ولا تكترث. لكنه هو، أنا أعرفه، لقد عاد، وجاء ليبحث عني، وإلا ما حاجته إلى مطرح وهو الذي لا أذكر أني سمعته ينطق اسمها. لا بد أن أحدا أخبره بأن عبداللطيف مات وأني رحلت إلى مطرح، لكن من سيخبره عن مكاني وأنا هربت من دون أن أترك ورائي أثرا، أتراه لقي ناصر بن صالح في سوق مسقط؟ لكن ناصر لم يعد من قطر، ولو أنه عاد لكان جاء لزيارتي أول وصوله، ثم كيف سيعرف أبي أن ناصر يعرفني؟ وكيف يعرف ناصر أن دلشاد أبي وهو لم يعرفني إلا زوجة لعبداللطيف وأمًّا لفريدة؟ عدت إلى البيت فوجدت حسن متكئًا على جدار البيت، وما إن رآني حتى تقدّم مني خطوة فرفعت غشوتي. بيبي مريم... ما كانت بي طاقة على الكلام، فتحت باب البيت ودخلت، سمعت أصوات فريدة والفتيات وهن يهبطن من السطح مرددات وراءها: قل هو الله أحد.

بشرى خلفان روائية عمانية

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی السوق کان هو

إقرأ أيضاً:

وفد جامعة دمياط يزور كنيسة العذراء مريم لتهنئة الأخوة الأقباط بعيد القيامة المجيد

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

في إطار حرص جامعة دمياط على تعزيز قيم التآخي والمحبة بين أبناء الوطن، قام  وفد من الجامعة برئاسة الأستاذ الدكتور حمدان ربيع المتولي، رئيس الجامعة، مساء الأربعاء الموافق 16 أبريل 2025، بزيارة كنيسة السيدة العذراء مريم بدمياط، لتقديم التهنئة بمناسبة عيد القيامة المجيد.

أعضاء الوفد 

ضم الوفد كل من الأستاذ الدكتور رمضان عبد الحميد الطنطاوي، رئيس الجامعة الأسبق، الأستاذ الدكتور محمد عبد الحميد شهاب، نائب رئيس الجامعة لشئون الدراسات العليا والبحوث، والسادة عمداء كليات الجامعة.

كان في استقبال وفد الجامعة القمص صرابامون متري، وكيل مطرانية دمياط، والقمص مرقص محروس، سكرتير المطرانية، إلى جانب عدد من الآباء الكهنة.
 

تهنئة من منتسبي الجامعة 

وقدم الأستاذ الدكتور حمدان ربيع المتولي التهنئة نيابة عن جميه منتسبي الجامعة، معربًا عن سعادته بهذه المناسبة التي تُجسد قيم المحبة والسلام، مؤكدًا أن وحدة الشعب المصري بمختلف طوائفه هي الركيزة الأساسية في مواجهة أي تحديات.

ومن جانبه، عبّر القمص مرقص محروس، سكرتير مطرانية دمياط، عن بالغ شكره وامتنانه لوفد الجامعة على هذه اللفتة الكريمة، مشيرًا إلى أن الأعياد الدينية تمثل فرصة حقيقية لتجديد روح المحبة والوحدة بين أبناء الوطن.

وأضاف القمص مرقص محروس:"نحن شعب واحد، نعيش تحت راية واحدة، ونحمل رسالة محبة وسلام للعالم أجمع، ورغم كل التحديات التي تمر بها مصر، فإننا نثبت في كل مناسبة أننا نسيج وطني متماسك لا يتأثر بالعواصف، وأعيادنا هي أعياد لمصر كلها، ووجودكم بيننا اليوم يُجسد أسمى معاني المشاركة والمحبة،  كل عام وأنتم بخير، وشكرًا لهذه المبادرة الطيبة التي تؤكد على وحدة أبناء الوطن في ظل القيادة الحكيمة للرئيس عبد الفتاح السيسي."

مؤتمرات لبث التآخي ونشر المحبه 

وخلال اللقاء أشار رئيس الجامعة إلى أن المؤامرات التي تستهدف تفتيت وحدة الدولة المصرية أصبحت واضحة وجلية، ومن أجل التصدي لها، لا بد أن نتمسك بوحدتنا الوطنية التي كانت ولا تزال سر قوتنا، وإن ما نشهده من استقرار أمني وعسكري لم يكن ليتحقق لولا الرؤية الاستباقية للقيادة السياسية، التي أولت اهتمامًا كبيرًا بتعزيز قدرات القوات المسلحة المصرية خلال العقد الماضي، وبفضل هذه الرؤية، أنعم الله على مصر بوحدة الصف والاستقرار،  وندعو الله أن يديم علينا نعمة الأمن والأمان، ويحفظ وطننا الغالي من كل شر.

وفي ختام الزيارة، أعرب وفد الجامعة عن تمنياته للأخوة الأقباط بعيد مليء بالسلام والفرح، مؤكدين أن مثل هذه اللقاءات تعكس روح التلاحم بين أبناء الوطن، وتعزز قيم المواطنة والانتماء.

مقالات مشابهة

  • مندوبية التخطيط: التضخم يبلغ 2,2 في المائة خلال الفصل الأول من السنة الجارية
  • وفد جامعة دمياط يزور كنيسة العذراء مريم لتهنئة الأخوة الأقباط بعيد القيامة المجيد
  • بث مباشر.. قداس خميس العهد بدير العذراء مريم بدير الجنادلة
  • مريم كريم تتأهل إلى نهائي «حواجز الآسيوية»
  • حارس جوانجو: أتطلع إلى مواجهة الهلال الذي يمتلك نجومًا كبارًا
  • أسواق العالم على صفيح ساخن قرارات ترامب تغيّر معادلات السوق في الربع الأول
  • علي فيديو «رورو البلد».. طلاب مدرسة يرقصون داخل الفصل |فيديوجراف
  • ربيقة يزور المجاهدة البطلة مريم بن محمد المدعوة “ميمي”
  • مريم الصادق المهدي شرعنت حملة كتشنر 1896م – 1898م !
  • قيادي بحماس للجزيرة: المقترح الذي نقلته مصر لنا يشمل إطلاق سراح نصف أسرى الاحتلال بالأسبوع الأول من الاتفاق