«من خرج من صلبي سيخرج معي» قال بر طفيلون.
والتفت إلى أبنائه واحدا واحدا، فلم يرفع أحد بصره عن هاتفه، ولم يرفع أحدهم من عزيمة أبيه..
سكت ثم التفت إلى زوجته واستعار نظرة من اللامبالاة، ورمقها بها.
«وأنتِ؟»
«كما ترى، سألازم البيت مع بنتك النفساء».
نهض من جلسته بإزار بين السرة والركبة، وجسد مصبوغ بالنيلة الداكنة، وخرقة كانت ذات لون نيلي في بكارتها، ثم غشاها السواد، وخنجر على الجانب الأيمن للسرة.
اتجه إلى معطن الإبل، نادى على جمله الأسحم. «هط هط هط هط هط». فخرج من القطيع ومد رأسه إلى أحضانه.
قال بر طفيلون في نفسه:
«أعرفهم سيتخلون عني جميعا»
امتطى الجمل (تيغون)، وترنم بالحدا وحث الإبل على السير نحو الوِهاد الخضيرة التي تتنفس عبق التربة الرطب الممسوح بقبلات السحب وستر الضباب.
انتظم القطيع في الطريق المؤدي إلى (شعبون) ينظمه الجمل (تيغون) المُدرب على إعادة الهوامل إلى القطيع، وعلى ظهره بر طفيلون في آخر الركب، يفلي الذكريات التي تعيدها الأمكنة إلى المشهد حين تظهر أمامه شقاوة الشباب وتنافسهم على حذق آيات الرعاة المنزوين في ظلال الفقدان أو المقيدين بسطوة العجز والاستسلام، فمنهم من غادر الدنيا ومنهم من أقعده العُمر عن ممارسة الطقوس الخالدة في حياة الرعاة الإبليين.
ولّى وجهه نحو المغيب حاملا وصية جده، بألا يواجه الشمس عند الرحيل؛ لأن مواجهتها تكابد الإنسان شقاءً وبخسًا في الصحة.
«املُك ما لا يملكك ولا يؤلمك». كانت تلك وصية جده الملقب بعزيمة النمر، الذي انتقل مع نوقه في البوادي والصحاري والجبال دون كلل أو ملل. تزوج مرة واحدة وأنجب والد بر طفيلون، وحينما طلبت زوجته منه الاستقرار، طلّقها وارتحل مع نوقه.
«الاستقرار موت أيتها المرأة»
قالها وترك المرأة مع أهلها ولديها ما يعينها على إيجاد القوت.
واستعاد الوصية المغروسة في ذهنه كالوشم:
«إذا ثبتّ في مكانك ينهشك الموت بتلذذ، أما في الانتقال وتبديل المنامات فلن يعثر عليك بسهولة، وإذا وجدك فإنه سيبلغك وهو خائر القوى ومنهك. أعد نفسك لمواجهة الهرم أقسى الأعداء وأشدهم بأسا، واثبت أمامه وجها لوجه كإنسان اختار نهايته بكل يقين».
هكذا كان عزيمة النمر، في حله وترحاله، يبيت بلا بيت، ينتقل كالهارب من قدره بين الأودية والسهوب وأعالي المرتفعات، لا يترك خلفه إلا الرماد والذكريات.
أما حفيده بر طفيلون فقد كابد ما كابده دون أن يرف له طرف، حتى لوم نفسه الأخير، لام نفسه على إذعانه للناس واستماعه لنصيحتهم وموافقته على دخول أولاده إلى الكتاتيب. ورغم نصيحة (بر منينوت) له، فإنه لم يبال بها. كانت تلك المرة الوحيدة، التي لم يستمع فيها لصديقه وشريكه في الرعي والترحال على تواقيت المواسم.
(بر منينوت) راعي إبل أيضا، ومنذ استقلاله بقطيعه وهو في انتقال دؤوب لم يتزوج ولم يستقر في مكان لأكثر من شهر.
قال بر منينوت لبر طفيلون:
«إذا أردت تجربة لحظة التخلي فأدخِل أولادك إلى الكتاتيب، سيتعلمون العجز قبل كل شيء وبعدها لن يقدروا على التنقل».
وأضاف:
«المدارس خُلقت لتقييدنا ومنعنا من الانتقال، المستقرون الجدد سيحاولون إحالتنا إلى العجز أو إماتتنا. سيخربون الأبناء الذين يفترض بهم مواصلة حياتنا، وسيحبسونهم في المدارس والاستقرار والوظائف والمكوث في المدن. كل تلك المغريات ستحول الأجيال إلى أسرى الجدران والإذعان».
قال بر طفيلون:
«لن أمنع الزمن أن يفعل فعلته، دعهم يتعلمون».
«ماذا سيتعلمون؟!»
قال بر منينوت، وأضاف:
«لن يتعلموا شيئا من عندنا، لن يأخذوا عنا كما أخذنا ممن سبقنا، سيتعلمون ما لدى الغرباء، أما نحن فسيعرضوننا للسخرية والاستهزاء بما نفعل».
«لنر ما سيحصل» قال بر طفيلون.
رد بر منينوت
«حسنا، لكنك بعد الرؤية ستكون بلا حيلة ولا حول لتصحيح المسار».
حين أناخ بر طفيلون قطيعه عند انحسار العرق الجبلي (آطيق) في شعب (شعبون)، وأطل عليه الضياء من خلف قمة (مِصير)، نكش جمرات من بين ركام الرماد، وقص أظافره ودفنها تحت (المووشب) أحجار عتبة المبيت،
فقد وجد في الوصية أن الأظافر والشعر سر الإنسان لذا يتوجب إخفاء السر عن المتربصين والحساد.
بعد أن حلب بر طفيلون ناقته (ديركان)، وترك ضرعين لابنها، أيقظ الجمل (تيغون) النوق من المبرك وحثهن على الخروج إلى المراعي البكر في العروق المخضرة بأشجار (السغوت) و(الخفوت) و(الشقوف) وما دنا من شجيرات (الشبحيط) و(المخلي).
تلبس الجمل (تيغون) روح الراعي عزيمة النمر، فتيغون لا ينشغل بالأبكار التي يراودنه ويحمن حوله، حتى وإن بلغ الذروة في الغلمة إلا أنه لا يستسلم لنزواته إلا بعد التأكد من وجود كل النوق والحور في القطيع، يتفقدها ثلاث مرات في اليوم، مرة حين خروج القطيع من المبرك، ومرة في وسط النهار، ومرة ثالثة عند الإياب إلى المعطن.
الترحال طقس الرعاة السرمدي مثل الكون لو بقي الكون ثابتا لفسد كل شيء، لا الشمس مرغوبة على الدوام ولا القمر كذلك. في التنقل يجد الراعي طهارته حين يتخفف من سطوة النفس على التملك، أما الاستقرار فهو مفتاح الأنانية والتفكير في الاستحواذ واستغلال الآخرين.
هكذا يفكر بر طفيلون المتحالف مع أهل السر. يوزع عليهم من حليب نوقه وما توفر من الطعام قبل أن يأكل أو يشرب. وذات ليلة زارته الحمى ونسي أن يضع القليل من الحليب، وأن يتمتم بكلماته المعهودة:
«تركت لكم عن رضا وقناعة ما لدي، وتقاسمت معكم ما ظهر وما خفي، يزداد لكم ولا يتناقص».
فلما جن الليل أيقظته امرأة تهدهد طفلها الباكي، وقالت:
«ما بك بر طفيلون، هذه ليست عاداتك، تركت طفلي يبكي منذ الغبش».
فقام من نومه، حمل الوعاء وأيقظ الناقة (سمهور) الباركة حول الموقد وقطع اجترارها، مسد الضرع، رفع ركبته وثناها تحت (القُعلاء) وبدأ الشخب في ترتيل الهطول إلى الوعاء.
فرق الحليب يمنة ويسرة، وغسل يديه وعاد للنوم وفي الصباح قام كأنه لم يكن محموما بالأمس.
تصالح بر طفيلون مع أهل الخفاء منذ أن بلغ الحلم، كان يبحث عن ناقة داهمها المخاض، وحل عليه الليل، وحين نزل بوادي (طيشيشون)، رأى الغنم تعود إلى حظائرها وسمع أصواتا من الكهف، ونزل عندهم، وجد امرأة وطفلها. شعر بالقشعريرة حينما آوته المرأة تحت (الفيدات) مهد طفلها، وقالت:
«عليك الأمان، وعليك الحذر من الكلمات المنهي عنها»
ففهم أنه حل بسكن أهل الخفاء.
رجع الزوج ومعه رجال آخرون مستنكرين.
«من أين تنبعث رائحة الإنس النتنة؟!»
فقالت لهم المرأة: «من تتأففون منه في حمايتي»
قدموا له الحليب، رآه في البدء بلون الدم ثم تحول إلى لونه المعتاد فشرب منه، وقضى ليلته عندهم.
أخبرته المرأة بأنهم يختفون في الصباح، وأنه عند قيامه من النوم سيجد حليبا في الإناء، يشرب منه ما يكفيه ثم يدعه في مكانه.
في الصباح اختفى الناس والأغنام وكأن لم يكن بالأمس قوم وحيوانات وآثار في المكان، وجد بر طفيلون عند الأثافي الباركة على الرماد المطمور، وعاءً من الحليب. شرب منه على دفعات وحينما، مسح الرغوة من شفتيه، رأى ثعلبين أمامه ينتظران فراغه من الشرب لاسترجاع الإناء، ترك لهما (القعلاء) ومضى يبحث عن ناقته.
محمد الشحري قاص وروائي عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
منال بنت محمد: الإمارات ملتزمة ببناء مستقبل رقمي مُمَكّن للمرأة
دبي (الاتحاد)
أخبار ذات صلةشاركت الإمارات، ممثلة بمجلس الإمارات للتوازن بين الجنسين، في الاجتماع الوزاري لشؤون المرأة بمجموعة «بريكس»، الذي عقد بمدينة برازيليا بجمهورية البرازيل الاتحادية، أمس الأول، وناقش عدداً من الموضوعات المتعلقة بالتمكين الاقتصادي للمرأة، ودورها في ريادة الأعمال والعمل المناخي والتنمية المستدامة والحوكمة الرقمية ومكافحة العنف القائم على النوع الاجتماعي في الفضاء الرقمي، وفرص تعزيز التعاون بين دول المجموعة للتغلب على ما تواجهه من تحديات.
وهنّأت حرم سموّ الشيخ منصور بن زايد آل نهيان، نائب رئيس الدولة، نائب رئيس مجلس الوزراء، رئيس ديوان الرئاسة، سموّ الشيخة منال بنت محمد بن راشد آل مكتوم، رئيسة مجلس الإمارات للتوازن بين الجنسين، جمهورية البرازيل الاتحادية، برئاسة الدورة الحالية لمجموعة دول «بريكس»، مؤكدة قدرتها على قيادة اجتماعات مجموعات العمل المختلفة على مدار العام، والتي تركز على موضوعي التعاون العالمي بين بلدان الجنوب وشراكات دول «البريكس» من أجل التنمية الاجتماعية والاقتصادية والبيئية. وقالت سموها إن هذا التجمع الدولي قادر على استثمار الفرص المختلفة لتعزيز الشراكات وعلاقات التعاون لتحقيق مستقبل مزدهر ومستدام لشعوبه، وتحقيق التأثير الإيجابي الفعال على المستوى العالمي، مشيدةً سموها في الوقت ذاته بالعلاقات المتميزة بين دولة الإمارات وجمهورية البرازيل الاتحادية وبقية دول المجموعة، وما يجمعهم من تعاون بنّاء في مختلف المجالات.
وأثنت سمو الشيخة منال بنت محمد بن راشد آل مكتوم على الموضوعات التي يتناولها الاجتماع الوزاري لشؤون المرأة في مجموعة «بريكس»، والتي تعكس حرص أعضاء المجموعة على أن يظل التوازن بين الجنسين ركيزة أساسية في أجندة عملها.
وأعربت سموها عن اعتزازها بما حققته دولة الإمارات من إنجازات متميزة في التمكين الاقتصادي للمرأة، بدعم وتوجيهات صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، ومتابعة وتشجيع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، مؤكدةً أن الدولة لا تنظر إلى هذا التمكين باعتباره حقاً أساسياً للمرأة فحسب، بل عاملاً استراتيجياً لتحقيق الرخاء والازدهار الوطني والنمو المستدام.
وأضافت سموها: «التمكين الاقتصادي للمرأة يُسهم في بناء مجتمعات مرنة، ويحفز الابتكار ويبني اقتصادات أكثر شمولاً ومرونة واستعداداً للمستقبل، وهو ما عملت عليه دولة الإمارات كأولوية وطنية، وجعلته نهجاً راسخاً في جميع مسارات أجندتنا الوطنية، وجسدته في أطر تشريعية شاملة لدعم المشاركة الكاملة للمرأة في الحياة الاقتصادية»، مشيرةً سموها إلى أن الإمارات كانت من الدول الرائدة إقليمياً في إصدار تشريعات، تقر مبدأ المساواة في الأجر مقابل العمل المتساوي، ومنح إجازة أبوّة مدفوعة الأجر للموظفين في القطاع الخاص، وغيرها من القوانين الداعمة للمساواة الاقتصادية.
وأكدت سمو رئيسة مجلس الإمارات للتوازن بين الجنسين، التزام دولة الإمارات بتمكين المرأة في مجال العمل المناخي على المستويات كافة.
كما أكدت سمو الشيخة منال بنت محمد بن راشد آل مكتوم التزام دولة الإمارات ببناء مستقبل رقمي عادل وآمن ومُمَكِّن للمرأة وحمايتها من العنف القائم على النوع الاجتماعي ضمن الفضاءات الرقمية، وذلك من خلال أطر تشريعية وقانونية صارمة.
وشهدت مشاركة دولة الإمارات العربية المتحدة في الاجتماع الوزاري لشؤون المرأة بمجموعة «بريكس» أنشطة مكثفة، حيث شاركت منى غانم المري، نائبة رئيس مجلس الإمارات للتوازن بين الجنسين، في الجلسات النقاشية التي عقدت على مدار اليوم، كما عقد لقاءات مهمة مع وفود الدول الأعضاء، تناولت فرص تعزيز التعاون المشترك لتحقيق مزيد من التقدم في التوازن بين الجنسين في دول المجموعة وعلى المستوى العالمي.
وخلال مشاركتها في الجلسة النقاشية التي تناولت موضوع «المرأة والتنمية وريادة الأعمال»، أكدت منى المرّي أن التمكين الاقتصادي للمرأة هو نهج راسخ في دولة الإمارات منذ تأسيسها، ويستند إلى قوانين وسياسات ومبادرات رائدة، ساهمت جميعها في بناء سوق عمل أكثر توازناً، ما ساهم في تصدر الإمارات دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال السنوات الماضية في تقرير «المرأة وأنشطة الأعمال والقانون»، الصادر عن البنك الدولي، كما جاءت في المركز الأول إقليمياً والسابع عالمياً بمؤشر المساواة بين الجنسين 2024، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
وأشارت إلى نماذج من المبادرات الوطنية المتعددة الداعمة لرائدات الأعمال، ومنها برنامج «سوان» الذي أطلقه «صندوق خليفة لتطوير المشاريع»، والدعم الذي تقدمه مجالس سيدات الأعمال على مستوى الدولة، بالإضافة إلى برامج مؤسسة دبي للمرأة.