«فلفل أزرق» طازج على عتبات محمد الحارثي في سرنديب
تاريخ النشر: 30th, October 2024 GMT
«لقد وصلت الهند ومنها قفزت إلى الهيمالايا، وقبل ذلك كنت تتقافز بخفة طائر شرقا من مسقط إلى وتايلند وكمبوديا، وفيتنام، ولاوس وماليزيا وسنغافورة دون أن تفكر بزيارة جزيرة سيلان التي تعبر الطائرات فوق سمائها. عتاب للنفس تراكم ككُرْكُم حرّاق في فترات الإفلاسات الدهرية»، لكنك فعلتها وتمكنت من زيارة سرنديب -كما أحببت أن تسميها- مرتين في عام واحد.
بعد عودة الكاتب والشاعر محمد الحارثي من رحلتيه في سريلانكا عام ٢٠١٥، أصدر كتابه الرحليّ الثاني «محيط كتمندو» عام ٢٠١٦ عن رحلاته في الهيمالايا بعد عشر سنوات من الترحال والكتابة والتدقيق والانتظار، ثم أصدر عام ٢٠١٨ ديوانه الشعري الثامن «الناقة العمياء» وذلك قبيل وفاته. ولأن كتابه الرحليّ الثالث بعنوان «فلفل أزرق» عن رحلتيه في سريلانكا أخذ منه وقتا لم يمهله قلبه المريض الذي حاول الاعتناء به جيدا أثناء ترحاله في مدن ومقاطعات سريلانكا من شمالها إلى جنوبها ليفرح به بين يديه. تاركا لنا الاحتفاء بقلب مغامر لم يهب الموت، لكنه وهبنا كتابا بديعا «فلفل أزرق» اشتغل عليه تحت وطأة المرض ونعمنا نحن بحضوره في طبعته الأولى عام ٢٠٢٠.
الرحلة عند محمد الحارثي، تبدأ بعد العودة. «لعبة لا تمل» يبدأها برسو كلماته عن مشاهداته وشخصياته وأماكنه في صفحات يلملمها كتاب يوغل في سرد حكاية مكان تاريخا وثقافة وطبيعة وبشرا، ويرسم في أحشائه مزاجا حرا يغوي قارئه بملاحقة حكايات خارجة من إطار المكان. ولا يكتفي بل يستمرئ اللعبة ويحلق بجناحي طائرته مزجيا على ذلك المكان فسيفساء من قصائد يرسمها في دواوين لاحقة. لعبة محمد لا تمل، فهو لا يتصنع خطى ابن بطوطة وابن جبير وابن فضلان وماركو بولو وغيرهم، لكنه «يضيف مرتقى مضافا لعتباتهم». في الرحلة، يصنع محمد الحكاية لتطول اللعبة. فالواقع وحده عند محمد لا يجعل من الرحلة عملا إبداعيا فلا بد من التخييل لكي تكتمل طبخته. وكان دائما: «بحاجة لفضاء زمكاني أعبر فيه عن روحي ومزاجي».
بدأت الرشقات الإبداعية اللذيذة لمحمد منذ هبوطه مطار كولومبو، مداعبا بلغة ساخرة قلب قارئ يتلهف لدخول غمار اللعبة منذ البداية. وهذا ما حدث لي منذ اللحظة التي وطئت فيها قدماي مطار كولومبو. غمرني حضوره، وترددت حكاياته بنبرة صوته العميقة في أذني، تذكرت الشغف المتلألئ من عينيه الجميلتين ومن صدى ضحكته الرنانة. كان خط رحلتي مغايرا لرحلتَي محمد في سريلانكا ولم يخطر في بالي أن أتقصى أثره هناك. لكن، وفي لحظة ما وأمام الوجبة السيلانية الشهيرة التي تفنن محمد في وصفها، أدركت الأمر: «فرشت ورقتي موز عريضتين أمام كلينا، وجيء بكوز ماء بارد وكأسين معدنيين. لم ننتظر طويلا حتى من سقاة الطعام ليسكبوا من آنيتهم واحدا بعد آخر: الأرز وسط ورقة الموز ثم الكاري النباتي مع البطاطا والجزر والبصل والثوم وسواها من مكونات خفية مبشور جوز الهند المغمس في الفلفل والليمون. الفلفل الأزرق المشوي المقرمش غير الحراق الذي استطبت طعمه وطلبت منه زيادة قرنين لأستمتع بقرطهما في فمي» لا يفوت محمد الحارثي التلذذ بأطايب البلاد طعاما وشرابا، بل يصر على الاكتفاء ويشارك بها الآخرين حوله سواء ممن يرافقونه أو ممن يصادفهم، صانعا من كل وجبة وليمة ثقافية يجتمع حولها السياح والأهالي، فهو يعلم محاسن الالتفاف عند الصحون التي تغيب عندها الذهون ثم تبدأ الأحاديث في الرفرفة وتتحول اللمة إلى احتفال باذخ بالطعام والحكايات. وليس غريبا أن يختار عنوان كتابه من لحظة فاتنة لا يدركها سوى المتلذذ بالحياة وهو يراقب تحول فلفل عادي إلى لون أزرق يتوهج بزرقة لامعة على نار الشواء.
ربما لا يعرف الكثيرون أن محمد الحارثي كان فنانا تشكيليا، يهوى الرسم بالقلم الرصاص بشكل خاص. لكنه نادرا ما تحدث عن تلك المرحلة من حياته واعتبر نفسه هاويا. ومن الطبيعي أن أول ما يلفت نظره في أي مكان يزوره هي لوحاته وتصميمه المعماري، لذلك كان من الواضح سبب اختياره «لنزل غوميز» أول مكان يسكنه في سريلانكا لأنه ذو تصميم هندسي عتيق. ببساطة كان المكان المثالي لبدء مشروع كتابة: «غوميز فنان مبدع. بصماته جلية في كل زاوية من النزل. كل غرفة تختلف بقبلتها، ديكورها وأثاثها عن الأخرى، لدرجة أنك تحتار في الاختيار. النزل في الأصل كان منزلا ذا حديقة واسعة. اشتراه غوميز وحوله نزلا بديعا». كنت متلهفة لزيارة النزل، لم يكن الطريق سهلا، دخلنا في طرقات وأزقة ضيقة. توقفنا وسألنا عدة مرات حتى وجدناه. وما إن وصلنا حتى تسارعت دقات قلبي وكأنني على موعد للقاء محمد، أو لعلني سمعته يناديني «زهرات» كما كان يناديني طوال حياته. لاحظت لاحقا اعتناء ملاك الفنادق السريلانكيين بنوعية اللوحات التي يعلقونها على فنادقهم. وكان إعجابي باللوحات المعلقة في الفندق الذي أقمنا فيه يزداد يوما بعد يوم، جعلني أسعى للتعرف على الفن التشكيلي السريلانكي من خلال كتاب متوفر في مكتبة صغيرة في الفندق بعنوان: «Sri lankan Painting In The 20th Century».
هذا الحس الفنيّ أيضا جعل محمد يقتنص كل فرصة في أسفاره لاغتنام جلسة مع فنان تشكيلي أو نحات أو حتى صديق لفنان، أو زيارة المعارض الفنية والمتاحف. لذلك كانت فرحته لا توصف حين سنحت له الفرصة لقاء الرسام والمصمم البريطاني السريلانكي «جورج بيفن «George Beven الذي أصبح صديقا له وأهداه مجموعة من لوحاته التي لم تنشر». وحين التقى بـ«روحان» مدرس الآداب والفلسفة في إحدى مدارس نيجومبو، اغترف منه أسماء شخصيات سريلانكية وأوروبية شهيرة لكن وللأسف لا يعرف الكثيرون أن منبتها سريلانكي الأصل، ومن أشهر تلك الشخصيات: أناندا كنتيش كومار اسوامي فيلسوف ومؤرخ للفنون التاميلية، ولستر جیمس پیریس مخرج ومنتج سينمائي شهير وكاتب سيناريوهات أفلام، وأونداتجي شاعر وروائي وصانع أفلام معروف اشتهر بروايته المريض الإنجليزي. وهنا تمتد لعبة الرحلة لتضيف قائمة جديدة لمحمد ناهيك عمّا تقدمه لنا.
«شربت اليوم جوزة هند على شاطئ نيغومبو ليخفق في إشراق هذياني بيرق إحدى القصائد التي تخيلت فيها محمود سامي البارودي مهربا صناديق الشاي على سفن القراصنة من سيلان إلى صديقه المنفي في زنجبار أبي مسلم البهلاني رغم يقظة سفن شركة الهند الشرقية آنذاك» في هذه القصيدة بعنوان «رحلات صناديق الشاي والقرنفل بين سيلان وزنجبار»، التي كتبها محمد الحارثي في ديوانه «الناقة العمياء» يتخيل حدثا دراميا بين أبي مسلم البهلاني ومحمود سامي البارودي المنفي في سريلانكا، مؤكدا أن لعبته تستمر في صنع حكاية من حكايات كثيرة على مسرح من غير المنطقي أن يجمعهما، لكن هذيانه بربط التاريخ، وإبداعه في مزج مخزونه المعرفي الذي يتلاقى مع اكتشافاته الجديدة في البلد الذي يرتحل إليه يجعله مكسبا معرفيا للقارئ. ولم يفته أن يشير بوصف حساس بعضا من آثار أحمد عرابي المنفي أيضا إلى سيلان بعد أن زار بيته الذي تحول برعاية السفارة المصرية مركزا ثقافيا ومتحفا للفترة التي عاشها عرابي وأصدقاؤه الثوار. ولإعجاب محمد بدور عرابي في إدخال زراعة بعض أنواع المانجو لمصر أصبح لا يشتري إلا المانجو المصري تحببا في عرابي.
يؤازر محمد بعض «العطايا والهبات» الاستعمارية، في الدول التي زارها مثل التبت والدول المغاربية وأفريقيا وسريلانكا، لما تضيفه تلك العطايا من جماليات على تلك الدول. وعين مثل عين محمد سافرت وشاهدت لا بد أن تحلل وتنبش في أصل تلك العطايا وتأثيرها اللاحق على الدول المستعمرة. وبطبيعة الحال فالكتابة عن الرحلة لا تعني تسجيل ما يحب الراحل وما يلاحظ، وإنما أيضا أن يربط أطراف التاريخ سواء كان مع أو ضد. فكان للقنوات الهولندية في مدينة نيجومبو والقطارات في مختلف سريلانكا والمباني الواقفة بهيبتها الكولونيالية وتصميمها الفيكتوري نصيب من عين محمد المتقدة. جعلني وصف القناة الهولندية أسيرا على إحدى ضفتيها رغم الحر الشديد علني أحظى برحلة تخيلية «على قارب كابتن فرناندو» متلذذة بطعم السمبوسة المقرمش وأنا أتأمل أشجار المانغروف التي تتصارع على البقاء مع مصائد الربيان. والأمر ذاته بالنسبة للقطارات. لذلك حين كان يمر قطار كل ساعتين تقريبا أمام الفندق الذي أقمت فيه، يسبقه صوت هديره ورنين صفارته، استغربت الأمر بداية، ولم أفهم كيف يمر قطار من أمامي بهذه البساطة؟. ولكن محمد كشف لي الأمر في كتاب «فلفل أزرق» دور الاستعمار في تلك الخطوط الملتوية وسط البلاد: «الإنجليز الرومنسيون في العصر الفيكتوري اقترحوا جماليا وضع سكة القطار المنطلقة جنوبا من كولومبو حتى بنتوتة وهيكادوا وغل وغيرها من مدن التحاذي الساحل وتتلوى قضبانها وفق التواءات الطبيعة». ثم أصبحت مراقبة عبور القطارات وانتظارها عادة لدي. وحرصت أن أقف على كل سكة حديد أمر عليها قبل عبور القطار.
يحتفظ محمد بشخصية أخّاذة متباسطة، ويستفيد من هذه الشخصية في سفره مع الناس الذين يلتقيهم من البسطاء فيعاملهم معاملة إنسانية كريمة ويقدّر وجودهم الإنساني مثل السائقين والندل أو بائعي الفواكه والخضروات على الطريق، أو ممن يبني معهم صداقات تستمر طويلا حتى بعد عودته، وكثيرا ما يجعل من تلك الشخصيات سواء من أهل البلاد أو مسافرين أو مقيمين جزءا مهما من سيرته الرحلية. فالمكان دون إنسان لا يعول عليه، ولذلك يحرص حرصا شديدا على التعارف الإنساني، فيعتني بالاقتراب من مختلف الأطياف البشرية على اختلاف دياناتهم وأجناسهم ومراكزهم. ولذلك قد يتأثر القارئ في «فلفل أزرق» بشخصية «جوزيف» الشاب اليمني الذي التقاه محمد في كاندي وتكاد تكون حكايته رواية بحد ذاتها، لغرابتها. يعرف محمد أن الحديث مع البسطاء الحقيقيين يكسب الرحّال الكثير من خبايا البلاد التي لا تكشفها البرامج السياحية. يدخل عليهم مباشرة دون اختيار أو مواعيد، يترك الطريق يقوده لمقادير اللقاء. وفي رحلة عودته من دلفت إلى جفنة أخذه الطريق الفرعي إلى مزرعة صغيرة وجد فيها مجموعة من «الشياب» يتبادلون الحكايات فشاركهم جلستهم وأحاديثهم وكأنه صديق قديم وليس «عابرا من الجزيرة العربية». ولأنه يتآلف مع المكان وأصحابه بخفة دمه ودماثته وانطلاقه في الحديث، شعرت أنني أستطيع اقتناص الفرص مثله وأتحاور مع أصحاب البلاد دون تخوف. لكن بائعة الفواكه التي صادفناها واشترينا منها بضع حبات من الفواكه، لا تشبه العجوز التي صادفها محمد على الطريق التي ما إن عرفت أنه من عمان، لم تقبل أن تأخذ مقابل الفواكه التي اختارها، لأنها كما قالت له «لبلدك عليّ أفضال كثيرة». بينما العجوز التي اشترينا منها احتالت علينا وأخذت منا ثلاثة أضعاف قيمة الفواكه المحلية، رغم أنها عملت في عمان وقطر والبحرين والكويت. يبدو أنها أخذت بثأرها من العمانيين.
كان حماسي لزيارة مدينة غلّ كبيرا، لكثرة ما وصف محمد كولونياليتها. ورغم أن ابنة أختي زينة والتي زارت سريلانكا عدة مرات نصحتني بالتحقق من الطقس قبل الذهاب لأي مدينة إلا أنني نسيت الأمر. واستيقظنا على مطر قوي تمنيت في داخلي أن يتوقف قبل وصولنا غلّ، ولم أفصح عن نصيحة زينة مداراة للخيبة. رافقتنا الأمطار حتى وصلنا، ورغم أن الجو كان رائعا والمطر غير مزعج، إلا أنني قلقت من عدم تمكني من التجول في قلعة غلّ الشهيرة. فور وصولنا بانت الآثار الاستعمارية للمدينة، حتى ليخيل للزائر أنه في إحدى مدن أوروبا القديمة. جلسنا قليلا في شرفة فندق كبير ذي هندسة معمارية هولندية انتظارا لتوقف المطر الذي أراد أن يذكرني بأن «النصيحة بجمل». لكنني قاومت وانتظرت حتى تمكنت من التجول في القلعة ودخول المحلات الأنيقة التي وصفها محمد والتي أسرتني جماليتها وتصميمها الفني الرائع: «التجوال في أزقة قلعة غالّ بين الشواهد التاريخية الأثرية والدينية والمطاعم والمحلات السياحية الراقية وبيوتات الأنتيكات والفضيات وباعة الأحجار الكريمة والملابس التي تمتاز بتصاميمها الراقية؛ سواء المحلية منها أو الغربية ممتع ويجعلك تستشعر أهمية زيارتها». مشيت بمحاذاة جامع الخيرات ومدرسة تخريج الفقهاء، ثم مررنا بجانب مركز البوليس الاستعماري. شعرت بمحمد بشكل قوي في هذه المنطقة، وجدت أثره في كل زقاق، لا أدري ألانني كنت مصرة على تقصي كل آثاره فيها، أم لأن للمطر كان حكاية أخرى.
بالطبع لم أستطع تقصي كل مكان، ولا يمكنني أن أكتب عن الشخصيات التي تأثرت بها من الكتاب من فنانين وعابري سبيل وأصدقاء التقاهم محمد، ولا يمكنني أن أصف التأثير الذي غمرني إياه محمد أثناء رحلتي التي أضفى عليها فرحا وإعجابا وأسرارا ما بين روحين، ما كنت لأدركها لولاه.
«وكما لم أعرف كيف أبتدئ هذا الكتاب بعنفوان دفّاق بإثارة أدبية جذابة، أجد نفسي خواضا في ذات فشل البدايات، بعد أن وجدتني غير قادر في منقلب النهايات - على إنهائه بأسلوبية ترضيني وترضي حماس رفقة قارئ انتهى من محاسن فلفل أزرق لن يغفر - وإن لم يتذوقه - لذعته الخفيفة تحت اللسان على ورقة موز مخضوضرة بكثافتها العضوية الفريدة في مطعم ترينكومالي قرب معبد آلهة الانتقام أو مقهى مالاي في دلفت، إن أتيحت له فرصة تذوّقه في معبد كلمات قد تصطف تباعا لتعطيه الفرصة لاجتراح معجزته الثامنة».
أزهار أحمد كاتبة ومترجمة عمانية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: محمد الحارثی فی سریلانکا
إقرأ أيضاً:
مشروع رفيق الحريري... الذي انتقم له التاريخ!
في 14 شباط (فبراير) 2005، كان اغتيال رفيق الحريري. كان ذلك قبل 20 عاماً.
كان إيذاناً بحرب جديدة تستهدف إلغاء لبنان عبر قتل مشروع إعادة الحياة إلى البلد على غرار إعادة الحياة إلى بيروت بكلّ ما ترمز إليه. صدّ لبنان الحرب التي استهدفته. لم يربح بعد الحرب التي شنّت عليه باسم «المقاومة»، لكنّه خسر رفيق الحريري الذي يظلّ مشروعه المحاولة الوحيدة لإعادة وضع لبنان على خريطة المنطقة والعالم... وإعادة لبنان بعمقه العربي إلى اللبنانيين، جميع اللبنانيين إلى الشيعي والمسيحي قبل السنّي.قتلوا رفيق الحريري، القتلة معروفون. لكنّ هؤلاء القتلة لم يتمكنوا من مشروعه الذي هزمهم. إنّه المشروع الذي لا خيار آخر أمام العهد الجديد في لبنان غير العودة إلى خطوطه العريضة التي تستند إلى ربط البلد بكلّ ما هو حضاري في هذا العالم... بدل أن يكون لبنان ضاحية فقيرة من ضواحي طهران.
خسر لبنان رفيق الحريري، لكنه لم يخسر نفسه بفضل ما بناه الرجل، بفضل رؤيته المستقبلية، التي عمّرت خمس سنوات تقريباً. بين نهاية 1992 ومنتصف 1998، عندما انتخب إميل لحود رئيسا للجمهورية في سياق حرب إيرانيّة - سوريّة على رفيق الحريري. جُنّد في تلك الحرب بشار الأسد، الذي كان يجري تحضيره لخلافة والده، تمهيداً لعملية وضع اليد الإيرانيّة على سوريا ولبنان في آن.
استطاع رفيق الحريري، إعادة بناء جزء كبير من البنية التحتية بأقل مقدار ممكن من الاستدانة وأكبر مقدار ممكن من الفعاليّة. فعل ذلك على الرغم من كلّ الحملات التي شُنّت عليه من كلّ حدب وصوب. اغتيل سياسياً ومعنوياً قبل اغتياله جسدياً. تبيّن أنّه كان على حق عندما قال لي شخصياً مساء السبت، قبل أقلّ من 48 ساعة من تفجير موكبه: «من سيغتالني مجنون». كان ذلك في منزله في قريطم، حيث سألني عن مدى جدّية التهديدات التي تستهدفه، فأجبته إنّها «أكثر من جدّية». زدت على ذلك ردّاً على سؤال منه: «هل النظام السوري عاقل أم مجنون؟» إن هذا النظام «بقي عاقلاً إلى اليوم الذي قرّر فيه التمديد لإميل لحود، في رئاسة الجمهوريّة على الرغم من صدور القرار 1559».
في الواقع، ما كنت لأجازف بالقول إنّ النظام السوري لم يعد عاقلاً لولا لقاء لي مع بشّار الأسد، قبل وفاة والده بأسابيع. اكتشفت في اللقاء الذي استمرّ ثلاث ساعات، في حضور شاهد، أنّ بشّار، شخص متهور لا علاقة له لا بما يدور في المنطقة ولا بما يدور في العالم. يقول بشّار، الشيء وعكسه في غضون دقائق قليلة. زادت قناعتي بأنّه سيقدم على عمل مجنون مثل تغطية جريمة اغتيال رفيق الحريري، وجرائم أخرى. معلومات بلغتني لاحقاً من شخص موثوق به فحواها أنّ خليفة حافظ الأسد «معجب بحسن نصرالله وبات تحت تأثيره»!
ما حقّقه رفيق الحريري، للبنان كان أقرب إلى معجزة من أي شيء آخر. مضى عشرون عاماً على غيابه ولا يزال حاضراً أكثر من أي وقت، خصوصاً بعد كلّ ما شهده اللبنانيون في عقدين كان فيهما الهمّ الأوّل لـ«الحرس الثوري» الإيراني، عبر أداته اللبنانيّة، تدمير كلّ مؤسسة لبنانية وكل رموز لبنان. هذا ما فهمه رفيق الحريري، باكراً، أي قبل تسلّمه مهمات رسمية.
لذلك، دعم المجتمع اللبناني عن طريق التعليم. ثلاثون ألف شاب لبناني من كلّ الطوائف والمناطق تعلموا على حسابه. دعم أيضاً كلّ ما له علاقة بصمود لبنان مثل المؤسسة العسكرية التي تكفل في مرحلة معيّنة بجزء من رواتب ضباطها وعناصرها. دعم الجامعة الأميركية وأساتذتها في بيروت على كل المستويات وقبل ذلك الجامعة اللبنانية. دعم أيضاً جريدة «النهار» بكل ما تمثله في وقت مرّت فيه بظروف صعبة. أثار ذلك غضب بشّار الأسد، الذي طلب منه بيع أسهمه في «النهار». ما لبث بشّار، أن حرض على جبران تويني، الذي اغتيل في أواخر العام 2005، مع مجموعة الشرفاء، من سمير قصير، إلى لقمان سليم ومحمد شطح وباسل فليحان، مروراً ببيار أمين الجميل، وكلّ مَنْ ساهم في ترسيخ فكرة «لبنان أوّلاً» مثل وسام الحسن ووسام عيد وجورج حاوي ووليد عيدو وانطوان غانم وفرنسوا الحاج...
بعد 20 عاماً على اغتيال رفيق الحريري، بقي المشروع، مشروع قيامة لبنان... ورحل القتلة. ليس ما يدعو إلى الشماتة، مقدار ما أنّ ليس هناك ما يعوض خسارة رجل أمضى حياته القصيرة وهو يبني. بنى نفسه أولاً ثم انتقل، بدعم سعودي وعربي ودولي، إلى بناء بلد كان مهووساً به اسمه لبنان.
كان رفيق الحريري، مهووساً بسوريا أيضاً. لم يسع إلى إنقاذ لبنان فحسب، بل سعى أيضاً إلى إنقاذ سوريا. سألني بعد عودتي من دمشق إلى بيروت ومقابلتي بشّار الأسد، عن رأيي في الرجل، فاجبته إنّّه «يكرهك إلى أبعد حدود». أخرجني من الغرفة التي كنا فيها إلى حديقة المنزل في قريطم، ليسألني مجدداً: «إلى أي حد يكرهني بشّار؟». أجبته مستخدماً عبارة بالفرنسية معناها «كرهه لك في العظم». لم اتجرأ وقتذاك، في العام 2000، على القول إنّّه يمكن أن يصل الأمر ببشار إلى حد التحريض على اغتيالك.
ليس ما يعوض خسارة لبنان لرفيق الحريري. لكنّ الأكيد أن مشروعه لايزال حيّاً يرزق. انتقم التاريخ له. انتقم له في لبنان وسوريا التي كان رفيق الحريري، أيضاً حريصاً عليها حرصه على لبنان!