المخفي والهامشي.. قراءة في رواية «الروغ» لزهران القاسمي
تاريخ النشر: 30th, October 2024 GMT
صباح ينذر بالشر:
تبدأ رواية «الرّوغ» للكاتب زهران القاسمي الصادرة أخيرًا عن دار مسكلياني التونسية، بحدث ميلودرامي تشير سهامه إلى ولادة صباح جديد وبالتالي حدث فارق في حياة «محجان» وقريته: «استيقظت البلاد قبيل شروق شمس أحد الأيام على صراخ محجان وهو يركض في حارات البلاد مجتازا بيوتها إلى ضواحي النخل، خرج الناس على إثر ذلك الصراخ مستنكرين وجلين على من مزق سكون صباحهم»، هذه البداية التي تشير إلى حدث فجائعي مجهول، لم يكن بلا صفات.
«وجد محجان، كما حكى ما حدث له بعد ذلك، جثة بلا رأس وبلا كفين أو قدمين، جثة مصلوبة على روع الحقل استقبلت بصدرها الغرب حيث المدى الفسيح لذلك السيح، امتد الساعدان على ساعدي الروع وأحكم وثاقهما، جثة عارية إلا من خرقة ممزقة تستر وسطها، نزّ الدم من رقبتها وسال على صدرها وتخثر، ربطت رجليها على الجذع دون أن تلامس أصابعها التراب، جثة لا يعرف من صاحبها، من أين جاءت؟ وكيف وصلت إلى المكان؟ ومن أتى بها؟».
وانطلاقا من هذا الاكتشاف الغريب على عين محجان، سارت أحداث الرواية التي بلا انعطافات أو أحداث فاصلة عموما، باستثناء هذا الفزع من المجهول، أو هذا الروع الذي ظهر فجأة على سلام القرية الوادعة.
ميثولوجيا ووصف للطبيعة:
الحدث يبدأ حين يسقط محجان مغشيا عليه بعد أن رأى صورة الرأس المقطوع، ثم استيقاظه بحواس مستنفرة جديدة، وكأنها كانت معطلة قبل ذلك. فبعد هذا الحادث صار محجان ينظر إلى كل شيء بخوف وهلع بل بإصغاء شديد وتحفز. سحابة في الأفق مثل شعر منفوش تمنى أن يلمسها، الصمت صار مخيفا وكذلك صوت الطيور. حتى نعيق الغربان الذي طالما سمعه بحياد، أصبح بعد الحادثة يثير لديه ذكرى التطير: «لقد سمع كثيرا عن الغربان وارتباطها بالشؤم والدمار، حفظ أمثالا وأشعارا دلت عليها، ولم يكن يكترث بما سمع، ردده كثيرا ونسيه، كذب الأقاويل وسخر منها، وكلما شاهد غرابا يحوم أعلى المكان هزّ رأسه مشفقا على الطائر المسكين، كذب ارتباطه بالنحس، بالحكايات المفزعة، فليس كل ما سمعه صحيح، وها هو يقع في التجربة الصعبة، ها هو يقوده النعيق إلى السقوط، سقط في حفرة كان قد هيأها لغرس نخلة، سقط لأن الغراب سيهوي على رأسه هكذا ظن، ويحلف بعينيه اللتين سيأكلهما الدود أنه رآه يهبط من عليائه ويقف على الروع» حتى هذه الساعة لا أحد يعرف من أهل القرية ما الذي رآه محجان، ولكن رغم ذلك فالجميع رماه بالجنون بسبب تغير تصرفاته.
شرع أهل القرية بعد ذلك في تتبعه وهو ينثر هلعه وروعه. ولكن حين رآهم مقتربين منه أدخلهم إلى مزرعته وتقدم بهم إلى أطرافها، ولكن «المفاجأة كانت في انتظاره».
استرجاع يسبق الحدث:
قبل أن يستطرد السارد في التعريف بالمفاجأة يضعنا في حالة استرجاع (فلاش باك)، لخطوات صنع محجان للفزاعة في مزرعته بعد أن أفقرتها الطيور، وقد صنع فزاعة منسقة وجميلة استغرب بنفسه من إتقانه لها «واقفا أمام عمله البديع متأملًا التفاصيل التي ساعدت في اكتماله، شيء لا يصدق، كيف استطاع أخيرا صنعه، وبذلك الكمال لدرجة أن الحياة ستدب في أوصاله» ولكنه قبل أن يصنع فزاعته، جال في مختلف مزارع قريته ليتعرف على نوع الفزاعات في كل مزرعة وذلك حتى يستطيع أن يصنع فزاعة مختلفة ومتميزة عن الآخرين، «جاب البلاد من أقصاها إلى أقصاها، دخل المقاصير المغلقة والحقول المسيجة» ستكون للقارئ هنا سانحة لمعرفة مختلف الفزاعات التي تستخدم في القرى ومسمياتها مثل روع الولجة وروع الخبة وروع المحدوثة، إلى جانب وظائفها فمنها ما يصنع لإخافة الطيور وتكون به معادن خفيفة تحركها الريح لتحدث أصواتا، وأخرى لإخافة الحيوانات وتكون بشعة ضخمة تشبه وحشا مفترسا ولكنها أيضا مرنة الأوصال لكي تكون أكثر شبها بالإنسان وهي تتحرك.
وبعد أن تمثل «محجان» في ذهنه الهيئة التي ستكون عليها فزاعته أو روعه، شق طريقه نحو المرحلة العملية، فجاب السيوح والخلاء باحثا عن شجر خاص يصلح لتركيب فكرته وترجمتها واقعا. وبعد أن بذل جهدا جهيدا في صناعة فزاعته، غطاها برداء ثم ذهب إلى بيته وارتدى أفضل ما لديه من لبس وتحزم خنجره وحمل عصاه وقصد مزرعته لكي يحتفل - مع نفسه - بمناسبته الخاصة، شرع في مخاطبتها وتأنسنت الفزاعة في دواخله وصار بينهما حوار وأوامر، وكأن روحا بثت في ذلك الجسد الخشبي الذي صنعه بيديه.
خطية السرد ونبرة الحكاية الشعبية:
تتسم رواية الروغ بهيمنة البطل الواحد رغم وجود شخصيات مساندة ولكن لا تمنح حظها كاملا من التعريف إنما توظف لصالح تعزيز جنون محجان، وكان أبرز شخصيتين في الرواية الزوجة التي تحضر عينانا في النص، وكذلك الأم التي تستحضر عبر الذكرى، دون إغفال لشبه البطل الخفي وهو الذي يحمل اسم الرواية «الروع».
ولكن ماذا لو كان اسم الرواية «صاحب الروع»؟ نظرا للعلاقة الجدلية بنيهما، والصراع الذي يبدأ من أحدهما لينتهي إلى الآخر. الدفق السردي في النص أيضا يأخذ مسارا واحدا مستفيدا من الطبيعة الحكائية للفكرة المركزة التي تقود الحدث. لذلك فإن الحدث يبدو متدافعا من أجل إيصال الفكرة التي تقوم على المفارقة بأسرع الطرق. يمكن ملاحظة أيضا أن السارد يستعين بالمرويات الشعبية من أجل تأثيث روايته بما يمكن أن يضع قارئه في دائرة التشويق، ويختار من الذكريات ما يعزز فكرة غرابة بطل القصة وجنونه وعدم سويته، وإتيانه بالقفشات الذاهلة التي تستثير الضحك: «في طفولته كان يخاف من ظله، حكت له أمه أنه في إحدى ليالي الشتاء القارسة وكان حينها في الثالثة من عمره رأى ظله يمتد على ضوء القنديل فصرخ من الخوف، وركض عائدا ليندس في حضنها، لكن الأدهى أنه بعد ذلك وفي وضح النهار كما تقول أمه، عندما اكتشف ظله هرب راكضا، وهو ينظر خلفه، هرب باكيا مستنجدا بها، وكلما هرب إلى جهة تبعه الظل فازداد خوفه، روت له أمه أنها أدمعت من شدة ضحكها عليه، كان يركض هاربا من مكان إلى آخر تحت الشمس بينما لم تستطع هي الوقوف أو التوقف عن الضحك».
ضغط نفسي أدى إلى حرائق:
في سرده الخطي المتلاحق والمتسارع استطاع الكاتب أن يحشد جميع العناصر والأساطير والمحكيات لتشكل ضغطا نفسيا حتى على السرد نفسه، وبالتالي تؤدي إلى الانفجار الذي حدث في نهاية الرواية، فأهل القرية حين أنهى محجان من صنع روعه وفزاعته رموه بالسحر والدجل وأن كل شيء سيئ يحدث في تلك القرية مصدره مزرعة محجان وذلك الكائن الغريب الذي صنعه بيديه وبث فيه سحرا أسود. فاسودت الدنيا في عيني محجان وقام في ليل بلا قمر بفعل الأفاعيل ببيوت قريته وفزاعاتها. فانتشرت الحرائق ولاذ محجان بقفار الأرض هاربا.
في هذه الرواية يكمل زهران القاسمي سلسلة استثمار البيئة العمانية من محكيات وطبيعة كما هو الأمر مع رواياته السابقة التي تدور حول مواضيع متشابهة من ناحية استحضار العناصر الطبيعية والحضور الطاغي للبيئة والعادات وهيمنتها حتى إن الشخصيات تذوب وتتلاشى أمامها، نجد ذلك في رواياته السابقة كتغريبة القافر التي حازت على جائزة البوكر في نسختها العربية، ورواية جوع العسل والقناص.
محمود الرحبي كاتب وروائي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: بعد أن
إقرأ أيضاً:
قراءة إسرائيلية في مواقف ماليزيا تجاه حرب غزة وعلاقتها مع حماس
اهتمت وسائل إعلام عبرية بتصريحات رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم، والتي تحدث فيها عن حق "إسرائيل" في الوجود، وحقها في الدفاع عن نفسها، رغم عدم إدانته لهجوم حركة حماس في السابع من أكتوبر لعام 2023، ودعمه الثابت للشعب الفلسطيني، وإدانته للإبادة الجماعية في غزة.
وقال الباحث في معهد ترومان بالجامعة العبرية غيورا أليراز إنّ "إجابات إبراهيم جاءت مفاجئة، لأنه أعلن معارضته لكل أشكال العنف، ملمحا إلى أن خطابه يمحو عقودا قبل السابع من أكتوبر، ويتجاهل محنة الفلسطينيين منذ نكبة 1948، ويغمض عينيه عن تاريخ الاستعمار ويغفر له حتى الإبادة الجماعية".
وتابع ترومان في ورقية بحثية نشرها معهد دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب وترجمته "عربي21": "ينبغي أن نعرف إذا ما كانت تصريحات إبراهيم مجرد تمرين للعلاقات العامة على الساحة العالمية، أو طموحا للتدخل في الشرق الأوسط، أو ربما علامة أولية على تغيير في الاتجاه نحو إسرائيل (..)".
وذكر أنه "من المفارقات أنه عندما انتُخب إبراهيم رئيسا للوزراء أواخر 2022، بعد مسار سياسي طويل، كان من المتوقع أن يخفف من سياسة ماليزيا الصارمة تقليديا تجاه إسرائيل، بزعم أنه لم يشارك في حدة الخطاب المعادي لها على مدة عقود من الزمن، بعكس سلفه الراحل مهاتير محمد".
ولفت إلى أنه "في مواقف سابقة لإبراهيم نستحضر كلمات قالها في مقابلة عام 2012 مع صحيفة وول ستريت جورنال، عندما كان زعيماً بارزاً للمعارضة بأنه يؤيد كل الجهود لحماية أمن دولة إسرائيل، وأكد في الوقت نفسه التزام بلاده العميق بالقضية الفلسطينية، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على أساس حل الدولتين، وأن إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل مشروط باحترامها لتطلعات الفلسطينيين، وحينها لم تتأخر الانتقادات اللاذعة من خصومه السياسيين بسبب تصريحاته غير العادية بشأن قضية أمن تل أبيب، وظلّت ترافقه".
ونوه إلى أنه "هذه المرة أيضا سمعنا انتقادات بعد تصريحاته الأخيرة، لأنها انتشرت على نطاق واسع في شكل مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن يبدو أنها كانت هذه المرة محدودة نسبيا من حيث النطاق والشدة، حيث ردّ على المنتقدين، متهماً إياهم بخداع الرأي العام، استناداً لمقطع فيديو تم تحريره، وإخراج بعض كلماته من سياقها، مؤكدا أنه لم يتغير شيء؛ وستظل ماليزيا ملتزمة بدعم فلسطين، وحديثه هنا باللغة الماليزية، مجددا تصريحاته القاسية ضد تل أبيب".
وبحسب رئيس الوزراء الماليزي، "من يسأل هل أن إسرائيل موجودة، سيكون الجواب نعم، هي موجودة، لكن ماليزيا لم تعترف بها قانونيا قط، بل فقط بوجودها كحقيقة واقعة، بدليل عدم وجود علاقات دبلوماسية معها، ومن وجهة نظره فالموضوع مغلق".
لكن الباحث الإسرائيلي قال إن "تصريحات إبراهيم تزامنت مع نشر مقال صحفي لكاتب عمود محلي من أصل هندي في ماليزيا، تحت عنوان "لماذا أؤيد موقف أنور إبراهيم بشأن حق إسرائيل في الوجود"، ما يكشف عن حقيقة المواقف السائدة بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بين الأقليات التي تشكل 40% من سكانها، أكبرها الصينيون، يليهم الهنود".
وزعم الكاتب الهندي، وفق القراءة الإسرائيلية، أنه "يتحدث باسم جميع غير المسلمين في ماليزيا، لأنهم، بشكل عام، وعلى عكس المسلمين فيها، ليس لديهم رأي سلبي تجاه دولة إسرائيل، أو رأي إيجابي للغاية تجاه فلسطين، وينظرون للطرفين كدولتين في حالة حرب، مثل أوكرانيا وروسيا، ونرى "نحن غير المسلمين" أن الحرب في الشرق الأوسط حرب خارجية، لا نريد المشاركة فيها، وعندما نرى اعتقاد المسلمين الصادق بأن الحق مع فلسطين، وأن إسرائيل هي الشريرة، فهم يتخذون هذا الموقف من منطلق التعاطف مع الفلسطينيين".
وأشار أننا "نحن غير المسلمين في ماليزيا" نفهم رغبة المسلمين بأن تلعب بلادنا دوراً أكثر نشاطاً لدعم الفلسطينيين في الصراع، مع أنها فعلت الكثير فيما يتصل بالحرب في الشرق الأوسط، ولكن لأن وضع المسلمين أكثر إثارة للقلق، فإن ماليزيا ليست مضطرة للمشاركة في الحرب باختيار الجانب الأضعف ضد الجانب الأقوى بكثير، وهي إسرائيل، لأننا لسنا متأكدين من الصحيح ومن المخطئ، ولا يمكننا أن ندعم رغبات الفلسطينيين إلا إذا اعتزموا أن يروا ماليزيا وسيطًا للسلام في الصراع".
الكاتب الاسرائيلي يعود ليعتبر أن "كلمات رئيس الوزراء إبراهيم، التي يتفق فيها على أن لدولة إسرائيل الحق بالوجود، والدفاع عن النفس، نقطة انطلاق صحيحة لماليزيا، ما يستدعي التوضيح أن التماهي السياسي والعاطفي مع القضية الفلسطينية، الذي يتسم بقوة في الخطاب السياسي والعام في ماليزيا، يبدو متشابكاً مع البناء القديم للهوية الوطنية لدى أغلبيتها المسلمة التي تزيد عن 50% من السكان، بما من شأنه حشد الشعور بالتضامن الإسلامي الشامل، ومثل هذا البناء تضمن أيضًا نغمات معادية لإسرائيل والغرب والاستعمار، لكنه قد يعتبر مشكلة كبيرة من وجهة نظر الأقليات فيها".
وزعم أن "هذه الأقليات الماليزية قد لا تكون الوحيدة التي تشعر حالياً بعدم الرضا عن وضع بلادهم في ضوء حرب غزة الأخيرة، ناقلا عن أحد باحثي الشؤون الماليزية الذي ينقل عن جماعات المجتمع المدني وشخصيات المعارضة استياءهم من موقف الحكومة تجاه حماس، ومخاوفهم من أن يضرّ بمصالح الدولة، بزعم أن تمويل حماس من قِبَل المنظمات الماليزية المؤيدة للفلسطينيين قد يعرضها للعقوبات من قِبَل الغرب".
واستدرك بالقول إن "تصريحات إبراهيم غير العادية بشأن دولة إسرائيل يمكن أن تكون موجهة للخارج والساحة الدولية، لإصلاح صورته في الغرب، وتخفيف التوتر في علاقاته بالولايات المتحدة بسبب اتصالات بقيادة حماس، ويسعى لتجنب الضغوط نظرا لعلاقاته معها، والإشارة أن بلاده شريكة بجهود السلام في الشرق الأوسط، وتتخذ موقفا داعما لجهود السلام من خلال الاتصال بالجسم السياسي للحركة، دون تدخل بأنشطتها العسكرية، زاعما أن علاقاته بها يمنحه ميزة بمحاولة تحقيق السلام في الشرق الأوسط".
وزعم أنه "في الممارسة العملية، فإن خطاب إبراهيم يصرخ بالتناقضات؛ خاصة صمته المطبق إزاء هجوم حماس الدموي في السابع من أكتوبر، مقابل الصراحة الكبيرة بإدانة العدوان الإسرائيلي على غزة، ودعوته على منصة القمة العربية الإسلامية في الرياض لبناء إجماع يحمل المجتمع الدولي لاتخاذ إجراءات سريعة وفعّالة ضد دولة الاحتلال، وصولا لطردها من الأمم المتحدة".
وختم بالقول إننا "سنضطر للانتظار حتى نفهم ما إذا كانت التصريحات غير العادية لإبراهيم التي مجرد حادثة عابرة، أو تمرين في العلاقات العامة على الساحة العالمية، أو طموح للانخراط في الشرق الأوسط، أو ربما إشارة أولية لتغيير في الاتجاه".