“مُتأخّرا عن العالم، مسافة عشر دقائق” قصص تغريك لإكمال قراءتها
تاريخ النشر: 14th, August 2023 GMT
أثير- مكتب أثير في تونس
قراءة : محمد الهادي الجزيري
الوهلة الأولى، خلال قراءتي للسطور المكوّنة لقصة ” يوم كامل في أقلّ من ساعتين ” تفرض عليّ الاعتراف بأنّ رأفت حكمت كاتب له طرافة وظرف في كتابته، هذا أوّل شيء أزيحه عن لساني أو قلمي ..، وأشهد أنّي توقّفت في محطّات داخل النصّ ..لأضحك أو أتفادى الضحك منّا نحن البشر .
” كان يحمل في يده التي يمدّها أمامه في الهواء، شيئا ما يشبه الدفتر، بينما ينادي بأعلى صوته ( ستّة مليارات ، ستّة مليارات ، بكرا السحب ، ستّة مليارات ) يكرّرها كآلة تسجيل لم يُحفظ عليها سوى هذه العبارة، وكان ذلك في سوق مزدحم بالبشر، بينما لا أحد يلتفت إليه، فالجميع يعرفون حظّهم ( الزفت ) جيّدا …”
قصّة ثانية بعنوان ” بُقعة دم في الذاكرة ” أظنّها مستوحاة من طفولة الكاتب رأفت حكمت، فحميمية النصّ وحنينه الطافح من كلّ جملة ..توحي بذلك ..، السرد يقصّ حكاية ” روكي ” وهو جرو صغير وجده طفلان في صهريج ماء وقرّرا تربيته خلسة عن الأهل ..، القصة تقطر حنينا وإخلاصا وعاطفة جيّاشة تجاه حيوان أليف ..، وجد المأوى والأكل لدى طفلين يدينان بدين الإنسان الأوّل ..ألا وهو الحبّ :
” ..فهذه المرّة هي الثانية، التي أكتب فيها عن روكي ، حيث كان في الأولى ، بطلا في قصة قصيرة،وكنت أنا في الثانية خائفا، مختبئا داخل صهريج ماء، أنبح بصوت منخفض”
قصص كثيرة تتابع أمام القارئ ..، ثمّة قصة ” وجه البحّار القديم ” تحكي عن هيام السوريين ببيروت وأمنية كلّ واحد منهم بأن يراها وإن لم أفهم خاتمة القصة إذ يدخل السارد معصوب العينين ومقيّد اليدين إلى بيروت بعد حنين فظيع ..، قصة أخرى بعنوان
” عميل مجهول الهوية ” بطلها ( أبو حسام ) يجوب شوارع القرية على درّاجته ملبّيا طلبات الناس ..لإصلاح عطب ما أو ..كأن يسرق خطّ الكهرباء التابع للبلدية ..، ونفس الأمر الذي أجبره على الاستقالة هو الذي سيجبر ابنه الذي عوضه في الشغل ..على الاستقالة ..، نمرّ إلى متن سردي آخر، عنوانه ” من ذاكرة الخشب ” والعنوان يوحي بحكاية القصة ..فهي غوص عميق في ذاكرة الغابة ..حيث تبدأ كلّ شجرة في سرد ما مضى من تاريخ الغابة ..، حقيقة فكرة القصة جميلة وممتعة ..ونقتطع منها هذا المقطع:
” كانت تسمّى ( شجرة الحبّ ) ومنهم من كان يطلق عليها اسم الشجرة العاشقة، وكثيرون كانوا يتّهمونها بالتستّر على العلاقات العابرة ..
لها جذع ضخم، لونه البُنيّ الداكن، يوحي كم من السهل أن تنقش في طراوته ما شئت من القصائد والذكريات ..”
المصدر: صحيفة أثير
إقرأ أيضاً:
“في خيمة واحدة”
تلتقي الجدران مع السقف، وتثبت الخشبة بجسدها النحيل تفزع العدو وتحمي قلوب النازحين، لكن ليس بوسعها دفع الغارات القادمة إلى هذا المكان، يتفاهم الجميع مع شظايا الحرب، ويعيشون ضمن المتاح. هناك ترقد جذور المعاناة في الأرض، بينما تتكرر المحاولات للوصول إلى مهد السماء.
ينبعث صوت من كل خيمة، ينادي الجثث الطاهرة بأن تقاتل معهم، ويطالب المركبات حولها بالالتفات نحوها لتحتضن بأذرعها المتربة عشرات الأسر الغزاوية، خيمة واحدة تولد شمسا صغيرة وتفرش طبيعة بلا ألوان. تطهو طعامًا غير مرئي يُنتظر بلا أمل. يتصاعد الدخان، لكنه يحمل دلالات ثقيلة على عبثية البقاء، تتقلص أمعاؤهم في صبر الانتظار، ولا مجال للهزيمة على أية حال.
تتنامى المأساة في عيونهم الغارقة، وأجسادهم البارزة. تتوسع قمصانهم وتتبدل ملامحهم، فيما تبقى أسماؤهم كما هي: أحمد هو أحمد، ياسين هو ياسين، وفاطمة هي فاطمة؛ لكن علامات النزوح استعمرت خلاياهم، فأصبحوا غرباء بين آلاف البشر. تأوي الخيام وحدها جميع النازحين، تشغلهم عن الموت، ولكنها لا تستطيع إطلاق أي رصاصة أو دك مستعمرات المحتل.
تمتلئ بالخدوش والدخان الأسود، وطسوتها المفتوحة تتشابه مع المغلقة، تشتركان في النظرة الفارغة إلى اللا شيء. لكنها لا تزال تستر جزءًا من معاناتهم، وتذكرهم بأنهم لا يزالون بين الأحياء المجاهدين.
حياتهم في تلك المساحة الضيقة لا تعترف بالشعور ولا بالتفكير، ولا حتى بالهروب، فكل الدول خائنة، وكل الوجوه تشارك شيطانًا أخرس يسبح في الصباح، ويشارك في قتلهم بالمساء. السواعد العربية مقطوعة الأصابع تجيد فقط الرقص على مرأى أحزانهم، بينما يبارك إعلامهم المعيب فسادهم السنوي.
تعيش قلوبهم في لحظة ممتدة، ولا علاقة للوقت بما هو قادم. يعرفون أن مصاصي الدماء سيهبون في أي غارة بلا شفقة، وليس هناك من يمنعهم. تلك القلوب مدهونة بالشقاء، تتأمل مصابيح معتمة بلا جدوى، لكنها تُبدع معجزة البقاء في خيمة واحدة. المسافات صغيرة لا تكفي لمرور شخص واحد، لكنها تكفي لتصنع صبرًا مقاومًا يغنيهم عن فقاعات العالم. لا مجال للمبيت أو حتى الاستلقاء بعد كل فاجعة، فالنار وحدها تشتعل، وتحاول العيش لأجلهم، وهم يحاولون ضم كل منهم الآخر دون أي صوت.
العالم كبيرٌ حولهم في غزة، والدول الأخرى تضج بالحياة وتنعم بالرخاء. الأذان يرتفع فوق كل مسجد، ويتعلم الناس حب الفضيلة كأنه الطريق الوحيد إلى الجنة. ولكن ماذا عن النازحين في غزة؟ أصبحت الخيمة مؤتمنة على كل روح، أكثر من أي دولة أخرى.