محمود بن خلف العدوي

رغم أن التكنولوجيا ساهمت وتساهم في تطوير المجتمعات وتقدمها، وتعمل على تحسين جودة حياة الأفراد والمؤسسات من خلال الأدوات والتطبيقات المصاحبة لها، ولكن في المقابل يمكن أن تكون أيضاً وسيلة من الوسائل والآيديولوجيات الموجهة ضد الشعوب، وذلك خلال التأثير والتلاعب بالعقول لتغيير سلوكيات الأفراد ليتم إعادة تكوين القيم والأخلاق والهوية بما يتوافق ويتماشى مع أهداف تلك الآيديولوجيات وذلك باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي أو المنصات الرقمية.

ويمكن تعريف التكنولوجيا الآيديولوجية على أنها إحدى الوسائل التي تتبعها بعض الدول والمؤسسات لتوجيه التفكير الجماعي لمجتمع معين بما يخدم مصالحها السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، وذلك بنشر أفكار وثقافات معينة تعزز قيم، وأفكار، ومعتقدات منحرفة فتساهم بذلك في تفكيك المجتمعات أخلاقيا واجتماعيا وتفريغه من الهوية التي يتمنى إليها، مما يسهل على تلك الدول والمؤسسات التأثير على سلوكيات الأفراد، وجعلهم أداة من أدوات صناعة الفوضى داخل مجتمعاتهم.

وفي ظل التحولات التي تشهدها منطقة الدول العربية والحرب الغاشمة على قطاع غزة ولبنان، يتضح جلياً كيف أن تكنولوجيا كالآيديولوجية بدأت في التوغل داخل المجتمعات العربية عن طريق قيادة وتعزيز الصراعات في منصات التواصل الاجتماعي، فتعمل على بث الفتن والأخبار الزائفة والشائعات عن طريق هذه المنصات أو عن طريق المنصات الرقمية لتجعل أفراد الشعوب العربية تغرق في صراع الحوارات والمناقشات اللاأخلاقية لتخرج من أدبيات الحوار إلى مرحلة أن تكفر كل طائفة الأخرى.

واتساع مثل هذه الصراعات لن يخدم الوحدة العربية بأي شكل من الأشكال بل سيؤدي إلى تفريغ الروح العربية من قيمها وأخلاقها النبيلة السامية لتصبح أرواحا غير مبالية بما يحدث للشعوب العربية الأخرى من تدمير، وقتل، وتشريد، وتهجير، فيتأكل النسيج العربي شيئا فشيئا وتدب في الأرواح الأحقاد والضغائن والأطماع.  

لذا.. يجب على المجتمعات العربية أن تعي هذا الخطر الكبير، وأن تلقي كل ما من شأنه أن يؤثر على كيانها المتماسك، ونسيجها الاجتماعي في بئر لا قاع له، وأن يكون هناك دور أكبر لمشايخ العلم، والمثقفين من العرب الذين طالما كانت لهم بصمة في المحافظة على الكيان العربي المتلاحم من خلال كتاباتهم، وتغريداتهم الهادفة في منصات التواصل الاجتماعي أو المنصات الرقيمة لتوعية الشعوب العربية بهذا الخطر المُدمِّر.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

التبعية الإعلامية والهوية الإيمانية

 

أثبتت الأحداث الجارية أن مقولة الإعلام الحر والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ليست سوى شعارات كاذبة ومخادعة لتسويق السياسات الإجرامية وإلباسها مسوح القبول لدى الشعوب، فما هي سوى كمائن لاصطياد الرأي العام وتخدير الشعوب وهي لا تقل شأنا عن أساليب الحرب الإجرامية بصورها العسكرية والسياسية والاقتصادية، بل إنها قد تتفوق عليها في بعض الأحيان وأكثرها نظرا لقلة الخسائر التي تترتب عليها وكثرة المكاسب منها وقبل ذلك لأنها أفتك الأساليب التي يجيدها الغرب والاستعمار لقتل إرادة الشعوب وتسخيرها لخدمة مصالحة ولتحقيق الضربات الاستباقية وإحداث الهزيمة في نفوس الخصوم قبل بداية المعارك وفق ما يطلق عليها الحرب الناعمة، وإحدى أهم صورها خاصة في تعامل القوى الاستعمارية مع منظومة الدول التي يطلق عليها تسمية “الدول النامية” أو “العالم الثالث” مع أن سياسات الغرب الاستعماري هي التي حطمت تلك الدول وجعلتها عالة في كل شيء حتى يسهل له التصرف في شؤونها والاستيلاء على ثرواتها واستعبادها بواسطة العملاء الذين نصّبهم حكّاما على تلك البلدان بعد قيام حركات التحرر التي طردت الاستعمار بصورته وبذلته العسكرية، لكنها استبدلت زياً واستسلمت له ليدير شؤونها بعقول أهلها.
استعمرت الإمبراطورية الفرنسية أرض الكنانة مصر ودخلت بجيوشها العسكرية والعلمية –(أكثر من مائتين وخمسين عالما في مختلف التخصصات)، الذين أوكل إليهم الإمبراطور نابليون دراسة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وكل الشؤون، حتى يتم تكريس الاحتلال والسيطرة لمئات السنين، وفعلا تمت صياغة توجهات ترسخ التخلف والتبعية للغرب وتكريس الانحطاط والهزيمة الداخلية لدى المجتمعات العربية، بدءاً من أرض الكنانة لأنها رائدة المجتمعات العربية والأمة الإسلامية.
رحل الاستعمار وتم اسبدال وصياغة كل شؤون المجتمع (سياسة وتعليماً واقتصاداً)، وفي كل شؤونه وفق المنهج التغريبي لا الغربي، وفرق كبير بين الاثنين، التغريبي يعمل على إلغاء خصوصيات المجتمعات ويلحقها بالغرب تتلقف ما يأتيها منه أما المنهج الغربي فهو الاستفادة من منتجات الحضارة مع المحافظة على الهوية والخصوصية، فالشعوب التي استفادت من التطور حافظت على خصوصيتها، أما الشعوب التي انسلخت من هويتها مازالت ترزح تحت وطأة التخلف والتبعية.
استفاد الاستعمار من الذين جندهم للعمل معه بعد رحيله ومغادرته في إثارة النعرات الوطنية والجهوية والشعبوية وغيرها، وواصل إكمال المهمة الاستعمار الإنجليزي الذي خلفه ولم يكن الاستقلال في جوهره سوى الرحيل العسكري باهظ التكاليف الذي استُبدل بالسيطرة على القرار الوطني بواسطة الجنود الأوفياء الذين مكنهم من الحكم والسلطة نيابة عنه بموجب خطط الاستثمار للتبعية، حتى لو لم يكن له جنود يحرسون مصالحه على الأرض بخلاف السيطرة الأمريكية التي تعتمد على القواعد العسكرية وأكبرها القاعدة الإسرائيلية التي يتحكم فيها الاحتلال الصهيوني وتخدم وترعى كل مصالح الدول الاستعمارية شرقا وغربا.
تمددت عدوى التغريب من أرض الكنانة إلى بقية الدول العربية والإسلامية، وتكاتفت جهود الاستعمار الذي سيطر على الدول العربية من المحيط إلى الخليج وأثمرت الحرب الناعمة في تحطيم إرادة النهوض والتطور والتعويل على الغرب والشرق والشمال والجنوب من أجل مواجهة الأخطار التي يتعرضون لها دون الاعتماد على النفس للنهوض بالواقع المتردي رغم الإمكانيات الرهيبة التي تمتلكها الأمة العربية والإسلامية فرادى ومجموعات.
لقد تحولت السياسات القُطرية لتحقيق ما عجز عنه الاستعمار، من الذي رسم خرائط التجزئة وترك التنفيذ للخونة والعملاء؟ فأصبح التوجه نحو التجزئة والفرقة هو الأساس الذي تدار به السياسات والأنظمة القائمة على شؤون الحكم وأصبحت المشاريع القُطرية هي الأساس بدلا عن المشروع الرسالي العظيم الذي اختاره الله منهجا لخير أمم الأرض وخير رسول وخاتمة الرسالات السماوية .
فقد سعت الأنظمة جاهدة للعودة إلى العصور الجاهلية بأبشع صورها وأمقتها في جاهلية تدعي العلم وتنشر الجهل وتحارب التوحد والتآلف وتكرس الفرقة وفق المناهج التي وضعها الغرب وألزم الخونة بالسير في تنفيذها بالقوة والغلبة والإكراه لمن لا ينصاعون لتوجيهاته، أما من يخدمونه فلا يحتاجون سوى التوجيه فقط.
وهنا تساؤل يفرض نفسه: لماذا يحاول الاستعمار تكريس هويته وسلخ المجتمعات عن هويتها ؟، الجواب واضح وهو أن احتفاظ المجتمعات بهويتها يحميها من الاستعباد والسيطرة عليها وهو ما يجاهد الغرب لتحقيقه في محاربته للهوية العربية والإسلامية، فحينما بسط الاستعمار سيطرته على أقطار الأمة، حارب الهوية الإسلامية واستبدلها بالهويات الجاهلية، في أحط وأردأ صورها، وكنتيجة لذلك وجدت الحدود والجيوش والأنظمة والاثنيات العرقية والجهوية التي هي أهم الأسلحة التي يستخدمها الاستعمار بكل أشكاله وصوره لمحاربة المشروع الإلهي الذي وجدت به الأمة ذاتها وقيمتها وقادت به الحضارة الإنسانية وتحقق للعالم به النهوض الفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي وفي كل المجالات وما يزال عطاؤه مستمرا حتى وإن انحدرت الأمة التي أوكل اليها القيام به أو أصابها الضعف والوهن.
إن التبعية الاستعمارية تعد أكبر الاشكاليات التي تواجه الأمة في سبيل تحقيق نهضتها واستعادة أمجادها وقيادة مسيرة العطاء الحضاري من جديد، ولذلك تعمل القوى الاستعمارية مجتمعة على توجيه حملاتها الإجرامية لتحطيم الهوية الإسلامية في كل المجالات، ابتداءً من تدمير الأخلاق بنشر الإباحية والرذيلة وفرض النماذج الشاذة على الحكومات والدول كأمر واقع لا مفر منه، إما بواسطة الأمم المتحدة أو بواسطة الإلزام للحكومات المطيعة لها أو بالإكراه للدول التي لا تتبع توجيهاتها، وفعلا وجدنا الأنظمة المطبعة والعميلة تفرض قوانين المثلية وتحريم الحلال لصالح تحليل المحرمات، من فسق وفجور وإباحة الربا والقمار والخمور، وفي مقابل ذلك محاربة الفضيلة والعفاف والطهارة، وأبرز مثال على ذلك ما اعتمدته الأنظمة في السعودية والإمارات والبحرين وتونس والمغرب ومصر وغيرها من الأنظمة العربية التي تسارع دائما لتلبية توجيهات الغرب، فتم تحليل الربا والمتاجرة بالخمور ولعب القمار وهو ما ستكون له تأثيرات خطيرة على تلك المجتمعات وسيشكل عقبة أمام أي محاولة للنهوض في المستقبل.
لقد كشف العدوان الصهيوني على غزة ولبنان واليمن وقبل ذلك العراق وأفغانستان وغيرها، عمق الترابط بين القوى الاستعمارية والأنظمة التي صنعها وأوجدها لخدمته، حتى أنها تفوقت عليه في كثير من الطروحات الإجرامية التي يروج لها ويبرر من خلالها عدوانه وإجرامه، وهو ما يعني انه قد كسب ما راهن عليه وحقق من خلال الخونة والعملاء ما عجزت عن تحقيقه آلته العسكرية في تدمير المجتمعات العربية والإسلامية، لكن صمود المقاومة (محور المقاومة) وتمسكها بهويتها الإسلامية هو الأساس الذي سيحطم الإجرام والاستكبار والاستعباد، حتى لو اجتمعت كل جيوش الإجرام واستعملت كل إمكانياتها المادية وأسلحتها الفتاكة، فهي لن تغير شيئا في مقابل الإيمان بالله والاعتماد عليه، ويكفي إعصار واحد لتدمير رأس الحلف الصليبي الصهيوني الذي تمرغت قواته في وحل الهزيمة في فيتنام، وتكفي بعوضة على انف نمرود ليهلك، وهو ما يفعله المجاهدون الأبطال في أرض غزة وفلسطين حتى وإن تكالب عليهم كل مجرمي الشرق والغرب، وصدق الله العظيم القائل((يريدون ان يطفئوا نورالله بأفواههم ويابي الله الا ان يتم نوره ولوكره الكافرون))التوبه-32-.

مقالات مشابهة

  • جامعة الدول العربية ومصر تدينان “الانتهاكات الجسيمة” التي قامت بها قوات الدعم السريع في ولاية الجزيرة السودانية
  • WP: العائلات التي فرقتها الحرب على غزة تخشى ألا تجتمع مرة أخرى أبدا
  • المجتمعات العمرانية: شراكات قوية بين الهيئة والقطاع الخاص لدعم مشاريع الإسكان الاجتماعي
  • المجتمعات العمرانية: شراكات قوية مع القطاع الخاص لدعم مشاريع الإسكان الاجتماعي والشبابي
  • التبعية الإعلامية والهوية الإيمانية
  • خبير اقتصادي: مصر تمتلك إمكانيات لقيادة الاقتصاد العربي والأفريقي
  • القرغيزيون بأفغانستان.. عندما تصبح خطوات الحصان مقياسا للمسافات
  • العراق خامساً بقائمة الدول العربية المصدرة لـ"النافثا" خلال 9 أشهر
  • العراق في المرتبة الخامسة بقائمة الدول العربية المصدرة لـالنافثا خلال 9 أشهر