بعد مرور أكثر من عام على حرب إسرائيل في غزة يصعب الحديث عن «تصعيد». لأن عزل لحظات بعينها من التصعيد العسكري، من قبيل هجمة إسرائيل إلى إيران يوم السبت، يبدو إشارة إلى أن ما يجري في غزة في غير هذه اللحظات طبيعي أو مقبول. لكن قد يكون بوسعنا بدلا من ذلك أن نتكلم عن مواجهة. قد يكون بوسعنا أن نتكلم في أن حملة إسرائيل في شمال غزة على مدار الأسبوعين الماضيين تواجه العالم بما بات من الصعب إنكاره: وهو أن ما يجري على الناس في غزة تطهير عرقي.

إذ يتعرض المدنيون، ومنهم أطفال، للقتل بطرق لا يمكن أن تشير إلا إلى هجوم عشوائي عديم التمييز يستهدف القضاء على الفلسطينيين، أو تخويفهم حتى ينتقلوا جماعيا من مناطق الموت والتجويع دائمة الاتساع. وقد قال القائم بأعمال رئيس الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة يوم السبت «إن أهل شمال غزة كلهم معرضون لخطر الموت».

فإلى أين يذهبون؟ حسن، لدينا إجابة لهذا السؤال أيضا. في وقت سابق من الشهر الحالي أقيم على مقربة من قطاع غزة مؤتمر بعنوان «الاستعداد لإعادة توطين غزة» وحضره مئات الأشخاص. على مسمع من أصوات المدفعية وإطلاق النيران، اجتمع الإسرائيليون ليقرروا ماذا هم فاعلون بغزة ومن يعيشون فيها فور انتهاء الحرب. فاقترح شاب قائلا «علينا أن نقتلهم، نقتل كل فرد منهم». ولم يكن وزير الأمن الوطني في إسرائيل إيتمار بن جيفير أكثر عقلانية بكثير إذ قال «سوف نشجع كل مواطني غزة على الانتقال الطوعي. سنعرض عليهم فرصة للانتقال إلى بلاد أخرى لأن تلك الأرض تخصنا».

ما شكل هذا «التشجيع»؟ بناء على أحداث العام الماضي، نأمن القول بأن الأمر لا يتعلق بعقل أو إقناع. سوف يتخذ هذا التشجيع شكل الغارات الجوية «المتواصلة» على شمال غزة بحسب وصف الأمم المتحدة للمرحلة الأخيرة من الهجوم. وسوف يتخذ شكل إحراق المرضى أحياء في أسرة المستشفيات مثلما حدث لشعبان الدالو الذي كان لا يزال موصول الذراع بأنبوب التغذية، ويتخذ شكل استهداف الأطفال بالمسيَّرات ثم «النقر المزدوج» أي إرسال هجمة ثانوية لضرب من يتجمعون حولهم لتقديم المساعدة. ويتخذ شكل إيجاد ظروف التجويع من خلال إعاقة وصول الإمدادات، وإصدار الأوامر للفرق الطبية وفرق الدفاع المدني بالرحيل عن مخيم جباليا للاجئين، وإعلان العديد من صحفيي الجزيرة الذين لا يزالون يعملون في المنطقة «إرهابيين».

هذه استراتيجيات متطرفة لكنها بصفة عامة تتماشى مع النهج المعمول به في أرجاء الأراضي المحتلة، أي إرغام الفلسطينيين على الانتقال «الطوعي» من خلال إحراق الأرض التي يعيشون عليها. لقد زرت أخيرا العديد من المدن في الضفة الغربية، وبدا واضحا مدى توسع المستوطنات الإسرائيلية غير المشروعة وأنه تحقق من خلال حرمان الفلسطينيين من أي خيار إلا الانتقال، وذلك بالترويع وخنق النشاط الاقتصادي بإغلاق مواقع الأسواق وملئها بنقاط التفتيش والجنود وبالحيل البيروقراطية التي ترخص هدم البيوت وإغلاق المتاجر، وهكذا تزداد مدينة الخليل الفلسطينية ارتفاعا وكثافة، إذ يبني الناس شققا ينتقلون إليها من المنطقة التاريخية التي يتضاءل قاطنوها «طوعا» من خلال إجراءات تجعل المنطقة غير قابلة للحياة. والذين يبقون من الفلسطينيين يجدون أنفسهم محاصرين في مواجهات مع المستوطنين والجنود، ثم يتم وصمهم بأنهم يمثلون خطرا أمنيا ويلقون حتفهم عند الاعتراض على هذه الخطة.

وثمة صدى كبير لهذا في غزة. لقد قال البروفيسور أوزي رابي رئيس مركز دوشيه ديان في جامعة تل أبيب خلال حوار إذاعي في سبتمبر إنه يرجو أن يُزال «كامل السكان المدنيين من الشمال، ومن يبقون منهم يحكم القانون بأنهم إرهابيون ويخضعون لعملية التجويع أو الإبادة». وهذا يتفق مع ما يسمى بخطة الجنرالات، وهي مقترح تقدَّم به عدد من الجنرالات المتقاعدين إلى الحكومة الإسرائيلية في أول أكتوبر داعين إلى منح الفلسطينيين أياما قليلة للرحيل عن شمال غزة ثم إعلان الشمال منطقة عسكرية وقتل من يبقون فيها أو تجويعهم.

ثمة ما يصيب بالشلل في هذه المرحلة الجديدة من الحرب، المرحلة الصارخة بل والاحتفائية. ثمة شيء مذهل في هذه القسوة الغريبة التي لا بد أن يبتلعها العالم كل صباح. وجميع الانتصارات الخطابية والقانونية التي تحققت في العام الماضي، وجميع المظاهرات والاعتراضات والإدانات من منظمات المجتمع المدني، لا تساوي شيئا ما دام الذي وصلنا إليه هو أن يحمل الأطفال الفلسطينيون إخوتهم الجرحى لساعات. ومع ذلك، لا يمكن إيقاف ذلك، ولن يكون له إيقاف.

إن ما تواجه به إسرائيل العالم الآن هو معرفته بأن النظام لم يختل، وإنما أنه مصمم ليفعل بالضبط ما يفعله الآن. والنظام مصمم لأن تكون حسابات المصلحة الشخصية للقوى الإمبريالية وحلفائها هي المهمة. ويبقى الفلسطينيون في مرمى النيران، لا نيران إسرائيل فقط، وإنما نيران الأنظمة العربية المستقرة بما لها من قرب من الولايات المتحدة التي تطالب بالسكون عندما يتعلق الأمر بأفعال إسرائيل. وهم أيضا في مرمى نيران صناعة الأسلحة المربحة بحيث لا يمكن تقليصها. وفي مرمى نيران نظام خاضع لإدارة أمريكية باع حياة الفلسطينيين من أجل رعاية قوة مهيمنة في المنطقة للحد من قوة إيران. وهم في مرمى نيران نمط الحكم الغربي كله، ذلك النظام الذي أبى أن يحجم أفعال إسرائيل تحجيما ذا بال واستمر في توبيخ المواطنين الذين هددوا بتغيير وجهة أصواتهم الانتخابية.

لقد سئلت كامالا هاريس الأسبوع الماضي عن المواطنين الذين قد يوجهون أصواتهم إلى مرشح حزب ثالث تعبيرا عن غضبهم من السياسة التي تتبعها الإدارة في غزة فأجابت بقولها «إنني أعلم أيضا أن كثيرا من الناس الذين يهتمون بهذه القضية يهتمون أيضا بتخفيض أسعار مواد البقالة، ويهتمون أيضا بأمر ديمقراطيتنا». فهل تريد بطنا أكثر امتلاء أم تريد تقليل الموتى في فلسطين؟ يا له من خيار.

لقد ارتددنا في التاريخ إلى حيث القوة هي الحق، وحيث تصير أصواتنا الانتخابية وأصواتنا البشرية غبارا تذروه الرياح. ولو لم تحرك أجساد الأطفال المشوهة شعرة في رأس كامالا هاريس، فأي فارق قد يحدثه صوت يوجَّه إليها أو إلى غيرها، بل الأصوات جميعا؟ كيف لأحدنا أن يبرر المحو الجاري لشعب في وضح النهار، وكيف يجد سبيلا ليدمجه في منطق سياسي يرى في معاناتهم في ظل إدارة ديمقراطية أهون الشرين؟ كيف يضع أحد مسافة بين نفسه وبين الفلسطينيين في غزة دون تقبل لموت جزء من إنسانيته مع قيامه بذلك؟

إن آخر مراحل الحزن هي التقبل. ولكننا لا يمكن أن نتقبل ما مضى بالفعل. وفي غزة، الموت مستمر، والتخريب لا يتوقف، والنوايا شديدة الوضوح، ولا سبيل إلى التقبل، إنما هو التمزق والانسحاب والارتباك. ولا سبيل إلى التكيف مع ما يجري. ومع وصول إسرائيل إلى ذروة مقيتة أخرى، فإن ما يتضح على نحو لا سبيل إلى إنكاره هو أن القوى التي تسمح لها بالمضي إلى ذلك المدى هي قوى لا يمكن فهمها أو فضحها، وإنما تجب الثورة عليها.

نسرين مالك من كتاب الرأي في جارديان

عن الجارديان البريطانية

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: شمال غزة لا یمکن من خلال فی مرمى فی غزة

إقرأ أيضاً:

ممثلة فلسطين أمام محكمة العدل: “إسرائيل” حولت غزة إلى “جهنم” ودمرت حياة الفلسطينيين

#سواليف

أكدت المحامية الأيرلندية، #بلين_ني_غرالاي، ممثلة #دولة_فلسطين أمام #محكمة_العدل_الدولية، أن ما يحدث في قطاع #غزة “يتحدى القانون والإنسانية”، مشيرة إلى أن “غزة تحولت إلى #جهنم نتيجة #الانتهاكات_الإسرائيلية المتواصلة”.

وافتتحت محكمة العدل الدولية، اليوم الاثنين، أسبوعًا من جلسات الاستماع المخصصة لمراجعة التزامات “إسرائيل” الإنسانية تجاه #الفلسطينيين، بعد أكثر من خمسين يومًا من فرض #حصار_شامل على دخول #المساعدات_الإنسانية إلى قطاع غزة الذي مزقته الحرب.

وقالت ني غرالاي، إن “إسرائيل تواصل تدمير حياة الفلسطينيين في غزة، وتعسكر المساعدات الإنسانية التي كان من المفترض أن تنقذ حياة المدنيين”.

مقالات ذات صلة الضمان الاجتماعي توضح شروط تقاعد الشيخوخة وآلية تقديم الطلب إلكترونيًا 2025/04/28

وأوضحت ني غرالاي، أن ” #إسرائيل مطالبة بتقديم المساعدة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ( #الأونروا ) وفقًا لميثاق الأمم المتحدة، لكن السلطات الإسرائيلية تنتهك واجباتها بحماية عمل الأونروا في الضفة الغربية والقدس الشرقية”.

وأضافت ني غرالاي، أن “إسرائيل هاجمت نحو 300 منشأة تابعة للأمم المتحدة في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023″، لافتة إلى أن هذه الانتهاكات “تتحدى حقوق الشعب الفلسطيني المكفولة بموجب ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي”.

وأشارت ني غرالاي، إلى أن “التفاقم السريع للأوبئة والجوع في قطاع غزة سيكون له تأثيرات كارثية على مستقبل الأجيال القادمة”، محذرةً من أن هذه الظروف تساهم في زيادة معاناة المدنيين.

وأكدت ني غرالاي، في نهاية مداخلتها، أن “إسرائيل دمرت نحو خُمس مساحة قطاع غزة بعد عمليتها العسكرية في رفح”، مشددة على أن هذه العمليات العسكرية تنتهك بشكل واضح التزامات إسرائيل بموجب القانون الدولي.

وكان الاحتلال الإسرائيلي قد استأنف فجر 18 آذار/مارس 2025، عدوانه وحصاره المشدد على قطاع غزة، بعد توقف دام شهرين بموجب اتفاق لوقف إطلاق النار دخل حيز التنفيذ في 19 كانون الثاني/يناير الماضي، إلا أن الاحتلال خرق بنود الاتفاق طوال فترة التهدئة.

وبدعم أميركي وأوروبي، ترتكب “إسرائيل” منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، إبادة جماعية في قطاع غزة، أسفرت عن أكثر من 170 ألف شهيد وجريح من الفلسطينيين، معظمهم من الأطفال والنساء، إضافة إلى أكثر من 14 ألف مفقود.

أكدت المحامية الأيرلندية، بلين ني غرالاي، ممثلة دولة فلسطين أمام محكمة العدل الدولية، أن ما يحدث في قطاع غزة “يتحدى القانون والإنسانية”، مشيرة إلى أن “غزة تحولت إلى جهنم نتيجة الانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة”.

وافتتحت محكمة العدل الدولية، اليوم الاثنين، أسبوعًا من جلسات الاستماع المخصصة لمراجعة التزامات “إسرائيل” الإنسانية تجاه الفلسطينيين، بعد أكثر من خمسين يومًا من فرض حصار شامل على دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة الذي مزقته الحرب.

وقالت ني غرالاي، إن “إسرائيل تواصل تدمير حياة الفلسطينيين في غزة، وتعسكر المساعدات الإنسانية التي كان من المفترض أن تنقذ حياة المدنيين”.

وأوضحت ني غرالاي، أن “إسرائيل مطالبة بتقديم المساعدة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) وفقًا لميثاق الأمم المتحدة، لكن السلطات الإسرائيلية تنتهك واجباتها بحماية عمل الأونروا في الضفة الغربية والقدس الشرقية”.

وأضافت ني غرالاي، أن “إسرائيل هاجمت نحو 300 منشأة تابعة للأمم المتحدة في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023″، لافتة إلى أن هذه الانتهاكات “تتحدى حقوق الشعب الفلسطيني المكفولة بموجب ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي”.

وأشارت ني غرالاي، إلى أن “التفاقم السريع للأوبئة والجوع في قطاع غزة سيكون له تأثيرات كارثية على مستقبل الأجيال القادمة”، محذرةً من أن هذه الظروف تساهم في زيادة معاناة المدنيين.

وأكدت ني غرالاي، في نهاية مداخلتها، أن “إسرائيل دمرت نحو خُمس مساحة قطاع غزة بعد عمليتها العسكرية في رفح”، مشددة على أن هذه العمليات العسكرية تنتهك بشكل واضح التزامات إسرائيل بموجب القانون الدولي.

وكان الاحتلال الإسرائيلي قد استأنف فجر 18 آذار/مارس 2025، عدوانه وحصاره المشدد على قطاع غزة، بعد توقف دام شهرين بموجب اتفاق لوقف إطلاق النار دخل حيز التنفيذ في 19 كانون الثاني/يناير الماضي، إلا أن الاحتلال خرق بنود الاتفاق طوال فترة التهدئة.

وبدعم أميركي وأوروبي، ترتكب “إسرائيل” منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، إبادة جماعية في قطاع غزة، أسفرت عن أكثر من 170 ألف شهيد وجريح من الفلسطينيين، معظمهم من الأطفال والنساء، إضافة إلى أكثر من 14 ألف مفقود.

مقالات مشابهة

  • ممثل السعودية أمام العدل الدولية: إسرائيل وظّفت الذكاء الاصطناعي لقتل المدنيين الفلسطينيين في غزة
  • وهبي: لا يمكن توفير طبيب شرعي لكل إقليم بسبب ضعف أجور التشريح التي لا تتجاوز 100 درهم
  • مندوب مصر أمام العدل الدولية: إسرائيل تمنع الفلسطينيين من حقهم في تقرير المصير
  • الأمم المتحدة: لا يمكن لـ إسرائيل ممارسة السيادة على الأراضي الفلسطينية
  • ممثلة فلسطين أمام محكمة العدل: “إسرائيل” حولت غزة إلى “جهنم” ودمرت حياة الفلسطينيين
  • عاجل - محكمة العدل الدولية تبدأ جلسات استماع بشأن التزامات إسرائيل الإنسانية تجاه الفلسطينيين
  • هل يلبي تعيين حسين الشيخ نائبا للرئيس طموحات الفلسطينيين؟
  • زاهي حواس: قناة السويس كانت ولا تزال مشروعًا فرعونيًا ومصريًا خالصًا
  • وزير الصحة السوداني : الملاريا لا تزال الخطر الأكبر على صحة المواطنين بالبلاد
  • هآرتس: التحريض على إبادة الفلسطينيين سائد في إسرائيل