المقاطعة والامتيازات الطبقية
تاريخ النشر: 29th, October 2024 GMT
شغلني في الأيام الماضية التفكير في مسألة المقاطعة. يبدو أننا ناجحون وناجحات في تحويل كل شيء إلى وسيلة للإلغاء، في ثقافة عُرفت بالإلغاء أكثر من أي شيء آخر خلال العقد الماضي. فعلى الرغم من كون ما نفعله جيدا، إلا أنه ومن غير المقبول أن تكون لدينا أخطاء أو عيوب، أو مثالب. لكن ماذا لو تم استخدام ممارسة الإلغاء من قبل من يمتلكون الامتيازات حصرا، تحديدا فيما يتعلق بسياق مقاطعة المنتجات الداعمة للاحتلال الصهيوني؟ هذه ليست دعوة للتفكير بضرورة الإيمان بجذرية بجدوى المقاطعة، ولكن للتفكير بجذرية حول الخيارات الأخرى البديلة.
بينما أتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، لفتني حساب إحدى المؤثرات على الإنستجرام، والتي عُرفت بمساندتها القضية الفلسطينية حتى قبل أكتوبر 2023 في حالة قد تكون استثنائية، إذ لا يتشبك المشاهير مع المجال العام، ولا يعبرون عن آرائهم حولها لأسباب عديدة منها الخوف على سلامتهم من التجاوزات الأمنية الداخلية في بلدانهم، أو التأثير على فرصهم في التعاقد مع الشركات الكبرى، التي يعتمد الكثير منهم عليها اعتمادا مطلقا. لا أحب تبني الموقف الاستعلائي بالقول إن واحدة من هذه الأسباب هو "التفاهة" أو دعوني أقول "Mediocracy" التي تحكم عالمنا اليوم، لأنني على قناعة أنها ليست نتيجة فردانية، بل هي عمل ممنهج يتناغم مع قيم العصر النيوليبرالي الذي نعيش فيه. أعلنت هذه المشهورة عن افتتاح محل جديد في مسقط، مما تسبب في شن هجوم واسع عليها بسبب "فرضية" أن هذه العلامة تدعم إسرائيل، عند متابعة معظم من يتبنين هذا الهجوم نجد أنهن ينتمين لعائلات ميسورة.
لقد عُرفت في السنوات الأخيرة مطاعم "الفاست فوود" كملاذات للطبقة العاملة الدنيا في الكثير من دول العالم، في ظل التضخم وارتفاع سعر المواد الغذائية، وقلة الوقت الذي يسمح للعمال بطبخ طعامهم بأنفسهم، أو عدم وجود المساحات السكنية الموائمة لذلك. كما عُرفت العلامات التجارية المشهورة بـ"الفاست فاشن" على أنها قادرة على أن تتيح لغالبية الناس فرصة ارتداء ملابس جيدة وعصرية بأسعار جيدة، وكنتُ قد كتبت عن هذه الشركات التي تستغل الأطفال والنساء في دول كبنجلاديش وغيرها لإنتاج عدد كبير من الملابس بتكلفة قليلة وغير عادلة للعمال. في مقابل هذه العلامات، هنالك العلامات المسجلة الفاخرة، التي سمعنا عن تقليعات لها، تفاجئنا كل مرة، مثل أن تمتلك "ملفا" مقنعا لوضعك في طابور الطلبات على حقيبة Hermes والتي يبدأ سعرها من 5000 ريال عماني. أي أن امتلاك هذا المبلغ وحده لا يؤهلك للحصول على هذه الحقيبة. ناهيك عن فضائح هذه الشركات المرتبطة باستعباد العمال، أو القضاء على الحيوانات من أجل جلودها، وغيرها من المساوئ. ما الخيارات الأخرى المتاحة إذن؟
انتشر في عُمان خلال السنوات العشر الأخيرة نشاط "البوتيك" وهي علامة خاصة بمصمم أو مصممة عادة ما تكون محلية، تعرض من خلالها تصميماتها الخاصة، غالبا ما يتم تنفيذ القطع المعروضة في المكان نفسه الذي تُعرض فيه، وتستخدم موارد بشرية ومادية متاحة على الأرض، تعتمد على مصممين ومصممات عمانيين مثلا، لكن ماذا عن الأسعار داخل هذه المحلات؟ فلننظر مثلا لمحلات "أشمغة" الرجال المحلية، التي أطلقت هوية ملفتة للزبائن واكترت مساحة بيع في مجمع راق، هل طالعنا المبالغ الطائلة التي يتطلب دفعها من أجل سداد الكلفة التشغيلية لهذه المحلات ومن ثم تحقيق الربح؟ عدا عن غلاء الأدوات وتضخم الأسعار في البلاد. ثم ما الذي يصبح مطلوبا من الطبقات الدنيا؟ أن لا تتعامل مع من يوفر لها حاجتها، أو أن نحدثهم باستعلاء عن إمكانية تخليهم عن هذه "الرفاهية" لصالح التزامهم الأخلاقي بقضية ما. ثم ما الفرص التي يُستبعد منها هؤلاء وينبذون لأجلها إذا ما قرروا إيثار القضية على أنفسهم؟
أكرر أن هذه ليست دعوى للتطبيع مع عدم المقاطعة، لكن التفكير في أن هذا الأمر مسؤوليتنا جميعا، وأن شروط تغيير هذا الواقع الذي أنتج لنا كيانا غاصبا، متغلغلة وعميقة في بنية حياتنا، وتتطلب مراجعة لكل فكرة الاستهلاك والتملك، والتفاوت الطبقي، والفرص المتكافئة فهي إذن دعوة جذرية لا تقتصر على التلويح بمهاجمة من لم يقاطع منتجا ما مثلا. بل التفكير في الأساسات التي يقوم عليها هذا العالم واقتصاده، وحكم الأقلية فيه، الذي يجعلنا ندور في حلقة مفرغة من الخسارة اللانهائية، والتي لا تغير الكثير كما نعتقد. على السلطات ايضا أن تعيد التفكير في إعادة السيطرة على القطاعات الحيوية كقطاع التغذية والصحة مثلا، بدلا من تركها لشراسة وتوحش التجار وتقديراتهم.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التفکیر فی
إقرأ أيضاً:
مناطق ج قلب الضفة الغربية الذي تخنقه إسرائيل
مناطق "ج" هي أكبر مناطق الضفة الغربية في فلسطين، وظلت لسنوات مطمع أقصى اليمين الإسرائيلي. تشكلت مناطق "ج" وفق التقسيم الذي أفرزته اتفاقية أوسلو الثانية عام 1995، وتمثل 61% من مجموع أراضي الضفة.
تسيطر السلطات الإسرائيلية على الإدارة المدنية والأمنية في مناطق "ج"، الأمر الذي مكنها من استغلال المنطقة من أجل التوسع في مشاريعها الاستيطانية، والتضييق على التجمعات السكانية الفلسطينية.
تعمل إسرائيل على تقويض الظروف المعيشية للفلسطينيين داخل مناطق "ج" عبر منعهم من استغلال الأرض ومواردها، وحرمانهم من تراخيص البناء وعدم تمكينهم من إصلاح وترميم مساكنهم.
كما تخضع تنقلاتهم لنظام معقد من التصاريح والإجراءات الإدارية التي تقيد حركتهم، بفعل امتداد الجدار الفاصل والحواجز العسكرية والمتاريس المنتشرة على الطرق في كل مكان.
في ظل هذه الإجراءات المشددة، يعيش الفلسطينيون في مناطق "ج" حياة قاسية، إذ يحرمون من أبسط الحقوق، ويتعرضون لملاحقات متواصلة من قبل الاحتلال، الذي يفسح المجال بلا قيود للتوسع الاستيطاني.
الموقع
تقع مناطق "ج" في قلب الضفة الغربية وسط فلسطين، بالقرب من المسطح المائي الذي يشمل كلا من البحر الميت ونهر الأردن وبحيرة طبريا، وتمثل هذه المناطق حوالي 61% من المساحة الإجمالية للضفة الغربية، وتشمل أراضي متفرقة، يقع الجزء الأكبر منها في حدود المجالس المحلية والإقليمية للمستوطنات، وتمثل 70% من مجموع أراضي المنطقة.
إعلانيحدها الأردن من الناحية الشرقية، بينما يحيط بها جدار إسمنتي يبلغ طوله 713 كيلومترا من باقي الجهات، وهو الجدار الذي تسميه إسرائيل "جدار منع العمليات الإرهابية"، وتطلق عليه الحكومة الفلسطينية "جدار الضم والتوسع"، وقد شرعت حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون ببنائه في 23 يونيو/حزيران 2002، على امتداد خط الهدنة لسنة 1949.
السكانيبلغ عدد الفلسطينيين في مناطق "ج" نحو 354 ألفا، وفق تقديرات فلسطينية عام 2023، وهو ما يمثل 10% من الفلسطينيين في الضفة الغربية كلها، ويعيش ما يقارب 90% الآخرون في المناطق أ والمناطق ب.
إلى جانب الفلسطينيين، تضم مناطق "ج" -باستثناء القدس الشرقية– حوالي 386 ألفا من المستوطنين الإسرائيليين إلى حدود عام 2019.
تتولى ما تعرف في إسرائيل بـ"إدارة منطقة يهودا والسامرة" إدارة شؤون المستوطنين اليهود في مناطق "ج"، بينما يتم تدبير شؤون السكان الفلسطينيين من قبل المنسق الإسرائيلي للأنشطة الحكومية في تلك المناطق.
وفق تقرير صادر عن المجلس النرويجي للاجئين في مايو/أيار 2020، تمنع أنظمة التخطيط والتقسيم الإسرائيلية الفلسطينيين من البناء في حوالي 70% من مساحة مناطق "ج" (المناطق التي تدخل في حدود المجالس الإقليمية للمستوطنات)، في الوقت الذي تجعل فيه الحصول على تصاريح البناء في 30% المتبقية شبه مستحيل.
المجمعات السكنية الفلسطينية الواقعة في مناطق "ج" لا تتصل بشبكة المياه، مما يدفع السكان إلى اقتناء المياه المنقولة بالصهاريج، كما أن عمليات الهدم والطرد وحرمان الفلسطينيين من حقهم في السكن، تزيد من وطأة الفقر وقساوة الظروف المعيشية، وهو ما يجعلهم عرضة للتهجير.
التاريخ
ظهرت مناطق "ج" نتيجة لما يعرف بـ"اتفاقية طابا"، وهي اتفاقية مرحلية أبرمتها منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل بشأن إدارة الحكم في الضفة الغربية وقطاع غزة، جرت مباحثاتها في طابا بمصر ووقعت رسميا في واشنطن يوم 28 سبتمبر/أيلول 1995، واشتهرت بـ"اتفاقية أوسلو 2″ لكونها أحد ملحقاتها التفصيلية المهمة.
إعلانقضى هذا الاتفاق بتقسيم الأراضي الفلسطينية إلى ثلاث مناطق مميزة في الضفة الغربية وهي المناطق (أ) و(ب) و(ج)، وهي مناطق تفصل بينها حواجز ومستوطنات ومعسكرات لجيش الاحتلال، ولكل منطقة ترتيبات وسلطات أمنية وإدارية مختلفة عن الأخرى.
تخضع المناطق "أ" للسيطرة الفلسطينية بالكامل، وتمثل حوالي 21% من مساحة الضفة الغربية، وتتشكل من مناطق حضرية بشكل أساسي (مدن وبلدات؛ كالخليل، ورام الله، ونابلس، وطولكرم، وقلقيلية)، تكون فيها صلاحية حفظ الأمن الداخلي للفلسطينيين عبر انتشار دوريات تابعة لشرطة السلطة الفلسطينية في الشوارع.
في حين تخضع المناطق "ب"، التي تشكل ما يقارب من 18% من أراضي الضفة، لتدبير مدني فلسطيني وسيطرة أمنية إسرائيلية، وتتكون من ضواحي المدن والقرى المتاخمة للمراكز الحضرية الواقعة في المناطق "أ".
أما المناطق "ج" فتمثل 61% من مساحة الضفة الغربية، وتقع تحت السيطرة الكاملة للجيش الإسرائيلي، وتشمل المستوطنات والطرق والمناطق الإستراتيجية.
وكان من المفترض -وفق ما نصت عليه اتفاقية أوسلو 2- أن يستمر هذا التقسيم خمس سنوات فقط، تمهيدا لإنشاء الدولة الفلسطينية بضم أراضي المنطقتين "ب" و"ج" لأراضي المناطق "أ"، غير أنه لا شيء من ذلك تحقق على أرض الواقع، بل بسط الاحتلال الإسرائيلي سيطرته الأمنية على المناطق "أ" مع اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000.
موارد طبيعية في خدمة الاحتلال
تتميز مناطق "ج" بكونها من أغنى المناطق الفلسطينية بالموارد الطبيعية، بما في ذلك مصادر المياه والمحميات الطبيعية، إذ تحتوي على معظم المراعي والأراضي الزراعية، إضافة إلى بعض الأماكن الأثرية.
تزخر مناطق "ج" بإمكانات كبيرة للتنمية الحضرية والنهضة الزراعية في الضفة الغربية، واستغلالها يمكن أن يساهم في تطوير الاقتصاد الفلسطيني وإنعاشه، إلا أن سياسات الاحتلال تمعن في حرمان الفلسطينيين من الاستفادة من هذه الموارد.
إعلانتسيطر السلطات الإسرائيلية على مقومات الحياة الأساسية، وتستحوذ على حوالي 80٪ من مصادر المياه في الضفة الغربية، مما يحرم معظم الفلسطينيين في مناطق "ج" من الاتصال بشبكات المياه، كما أنها تعمل باستمرار على تقليص مساحات الأراضي الزراعية وتطويق المزارعين الفلسطينيين بـ"دواع أمنية".
في المقابل تشهد مناطق الأغوار والجزء الشمالي من البحر الميت تركيزا استيطانيا كثيفا، وتعمل السلطات الإسرائيلية على تيسير كل سبل استفادة المستوطنين من هذه الأراضي، التي تعد أخصب أراضي الضفة الغربية وأغناها بالمصادر المائية.
سياسة الهدم والتهجيرتمعن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في بسط سيطرتها على المناطق "ج" من خلال سن تشريعات واعتماد سياسات تهدف إلى ضمها والسيطرة عليها. فقد شهدت تلك المناطق في الفترة الممتدة ما بين 2010 و2025 سياسة مكثفة لهدم المنشآت وتهجير السكان.
وتركزت عمليات الهدم الإسرائيلية على مدى 15 عاما أساسا في مناطق "ج"، وإن اتسعت في عامي 2023 و2024 لتشمل مناطق "أ" و"ب".
ووفقا لتقرير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، للفترة بين 1 يناير/كانون الثاني 2010 و1 يناير/كانون الثاني 2025، فإن الاحتلال الإسرائيلي هدم نحو 8 آلاف و765 منشأة فلسطينية في مناطق "ج"، أغلبها بذريعة البناء دون ترخيص، منها 3107 منشآت زراعية و2025 مسكنا مأهولا ونحو 700 مسكن غير مأهول.
وتسببت عمليات الهدم في مناطق "ج" في تهجير قرابة 10 آلاف فلسطيني، وتضرر نحو 192 ألفا و548 آخرين، وفق الأمم المتحدة.
ووفق المعطيات ذاتها فقد طالت عمليات الهدم 400 منشأة في خربة طانا شرق نابلس، و211 منشأة في خربة حَمصة، و200 منشأة في تجمع أبو العجاج في الجِفتلك، و154 في خربة الرأس الأحمر، و148 في تجمع فصايل الوسطى، وجميعها في الأغوار.
كما شملت عمليات الهدم 146 منشأة في محافظة الخليل جنوبي الضفة، و142 في بلدة عناتا شمال شرق القدس، وتوزعت باقي المنشآت على باقي محافظات الضفة.
إعلانوإجمالا طال الهدم 2197 منشأة في جميع مناطق الضفة (أ، ب، ج) منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى 1 يناير/كانون الثاني 2025، تسببت عمليات الهدم في تهجير 5 آلاف و371 فلسطينيا، وتضرر نحو 535 ألفا آخرون.
وتركزت عمليات الهدم خارج مناطق "ج" في مخيم طولكرم وطالت 203 منشآت، ثم مخيم نور شمس وطالت 174 منشأة، يليه مخيم جنين وطالت 144 منشأة، وتوزعت باقي العمليات على باقي محافظات الضفة.
وفق تقارير الأمم المتحدة، فإن "معظم المباني التي يتم هدمها في الضفة الغربية يتم استهدافها بسبب عدم حصولها على تصاريح بناء صادرة عن الاحتلال، والتي يكاد يكون من المستحيل على الفلسطينيين الحصول عليها بموجب قوانين وسياسات التخطيط والتصاريح التمييزية الإسرائيلية".