د. هشام عثمان

في مسار طويل من الصراع على الهوية والتوجهات السياسية، واجه السودان خلال تاريخه العديد من العقبات التي عرقلت تقدمه نحو التحول الديمقراطي. أبرز هذه العقبات تمثلت في الإسلاموية السياسية، التي استغلت الانقسامات الداخلية وفرضت نفسها كقوة مهيمنة، والجيش السوداني الذي لعب دورًا سياسيًا كبيرًا منذ نشأته في الحواضن الاستعمارية.

كان هذان العاملان – الإسلاموية السياسية والجيش – متداخلين في تخريب الديمقراطيات الثلاث في السودان، وتشكيل نظام سياسي مركزي معادي للتعددية والتنوع، ومجرد من القدرة على تحقيق التنمية والاستقرار.

أولاً: نشوء الجيش السوداني في الحواضن الاستعمارية

ترتبط جذور الجيش السوداني ارتباطًا وثيقًا بفترة الاستعمار البريطاني المصري، حيث أنشأ المستعمرون جيشًا محليًا لتأمين مصالحهم وحماية سيطرتهم على السودان. جاء هذا الجيش كأداة قمعية بامتياز، مهمته الأساسية الحفاظ على النظام القائم وتثبيت سيطرة الدولة المركزية التي وضع الاستعمار أطرها. نشأة الجيش بهذه الطريقة رسّخت عقيدته كقوة تحمي مصالح النظام الحاكم، لا كمؤسسة وطنية جامعة تعبر عن مصالح الشعب السوداني ككل.

عقب الاستقلال في 1956، وبدلاً من تحول الجيش إلى مؤسسة مهنية غير متدخلة في السياسة، وجد نفسه لاعبًا رئيسيًا في الصراعات السياسية. ذلك لأن القيادة السياسية التي جاءت بعد الاستقلال فشلت في خلق إجماع وطني حول مشروع الدولة السودانية. أدى هذا الافتقار إلى رؤية وطنية جامعة إلى تمسك الجيش بدوره كحامٍ للنظام، مما سمح له بالتدخل مرارًا في السياسة بانقلابات عسكرية.

العقيدة العسكرية للجيش السوداني منذ نشأته ربطت مصالحه بالدولة المركزية، التي تنظر إلى الأطراف نظرة بازدراء وتخشى من التهديدات التي تشكلها الأقليات الإثنية والسياسية في البلاد. هذه النظرة انعكست في تكوين المليشيات المختلفة التي كانت تهدف إلى الحفاظ على سيطرة النظام المركزي وتحصينه من أي تهديد، سواء من داخل الجيش نفسه أو من المعارضة المسلحة في المناطق النائية.

ثانياً: الإسلاموية السياسية وعرقلة التحول الديمقراطي

تعتبر الإسلاموية السياسية في السودان واحدة من أخطر القوى التي عرقلت التحول الديمقراطي منذ بداية الستينات. تأسست الحركات الإسلامية مثل "جماعة الأخوان المسلمين" والجبهة الإسلامية القومية على أساس فكرة بناء دولة إسلامية تستند إلى الشريعة. كانت هذه الحركات تنظر إلى الديمقراطية بنوع من الريبة، حيث ترى فيها وسيلة مؤقتة لتحقيق أهدافها، لكنها سرعان ما تنقلب عليها عندما تصبح الظروف مهيأة لفرض أجندتها الدينية.

تخريب الديمقراطية الثانية ومشروع "الدستور الإسلامي"

بدأت محاولات الإسلاميين للتلاعب بالنظام السياسي السوداني منذ الديمقراطية الثانية في أوائل الستينات. في تلك الفترة، طرحت القوى الإسلامية مشروع "الدستور الإسلامي"، وهو مشروع سعى إلى فرض أسلمة الدولة عبر استخدام آليات الدستور لتقييد الحريات وإقصاء المكونات الأخرى في المجتمع السوداني، سواء كانت علمانية أو دينية معتدلة.

كان هذا المشروع نقطة تحول رئيسية في السياسة السودانية، حيث أدى إلى زيادة التوترات السياسية والاجتماعية وأثار مخاوف من أن تتحول البلاد إلى دولة دينية غير قادرة على تحقيق العدالة والتعددية.

حادثة طرد الحزب الشيوعي

من أبرز الوقائع التي تجسد عداء الإسلاميين للتعددية السياسية، كانت حادثة طرد الحزب الشيوعي السوداني من البرلمان عام 1965. برزت هذه الحادثة كمثال واضح على إساءة استخدام السلطة لفرض رؤية إسلامية على النظام السياسي. إذ تم اتهام الحزب الشيوعي بالإلحاد بعد حادثة تتعلق بإحدى المدارس، واستغل الإسلاميون ذلك لتأجيج الرأي العام وإقصاء الحزب الشيوعي. تخلت الحكومة عن الدستور وسُمح لهم بالسيطرة على البرلمان والتخلص من معارضة يسارية قوية.

العبث بالدستور

مع استمرار مساعي الإسلاميين لتخريب النظام السياسي، شهد السودان موجة من العبث بالدستور وخلق حالة من الفوضى السياسية التي مهدت الطريق لتدخلات عسكرية لاحقة. بعد تحالفهم مع الرئيس جعفر النميري، تم تبني الشريعة الإسلامية كأداة سياسية في السبعينات. كانت تلك المرحلة محاولة من الإسلاميين للسيطرة على السلطة من خلال فرض أجندة دينية على المجتمع السوداني. ساهم هذا التحالف في تقويض أي فرصة لتحقيق تحالفات وطنية شاملة تجمع بين القوى المدنية والعسكرية. النتيجة كانت توسيع الفجوة بين المركز والأطراف وتزايد الصراعات الداخلية.

ثالثاً: انقلاب البشير وتحالف الإسلاميين مع العسكر

وصل السودان إلى نقطة تحول كبيرة في عام 1989، حينما قاد عمر البشير انقلابًا عسكريًا بدعم من الإسلاميين. كان هذا الانقلاب نتاج عقود من التحالفات السرية بين الإسلاميين والعسكر، حيث تمكّنت الجبهة الإسلامية القومية من توجيه الجيش والسيطرة عليه لتحقيق أهدافها.

مع وصول البشير إلى السلطة، دخل السودان في حقبة جديدة من الاستبداد، حيث فرضت الدولة الإسلامية قبضتها على مؤسسات الدولة والقوات المسلحة، وأصبح القمع وسيلة النظام الأساسية لتثبيت وجوده. خلال هذه الفترة، شهد السودان تدميرًا منهجيًا لمؤسسات الدولة المدنية، وتوسعًا في نفوذ الأجهزة الأمنية والمليشيات التي تم تشكيلها لفرض السيطرة بالقوة.

استمرت الحركات الإسلامية في دعم سياسات النظام القمعية، بما في ذلك قمع المعارضة المسلحة في دارفور وجنوب السودان. كما شهدت تلك الفترة تزايدًا في تدخل الجيش في الشؤون الاقتصادية والسياسية، وتحولت المؤسسة العسكرية إلى أحد أكبر الأطراف المستفيدة من الثروات الوطنية، مما أدى إلى إضعاف مؤسسات الدولة وإفقار البلاد.

رابعاً: العلاقة بين العسكر والمدنيين

العلاقة بين العسكر والمدنيين في السودان تتسم بالريبة والتوتر منذ عقود. الجيش ظل حاميًا للنظام المركزي ولمصالح النخب الحاكمة، بينما كان المدنيون يحاولون دون جدوى فرض إصلاحات سياسية واقتصادية تضمن مشاركة الجميع في السلطة. لكن مع كل محاولة لتحقيق ديمقراطية مدنية، كان الجيش يتدخل عبر انقلاب جديد يعيد الأمور إلى المربع الأول.

تحييد الجيش عن السياسة يمثل تحديًا معقدًا، إذ يتطلب ذلك تغييرات هيكلية في تكوين الجيش وعقيدته. فمنذ الاستقلال، ظلت النخب العسكرية تنظر إلى المدنيين بنظرة دونية، وترى في تدخل الجيش ضرورة للحفاظ على استقرار البلاد. هذه النظرة ترسخت بفعل التحالفات مع الإسلاميين الذين سعوا دائمًا إلى توظيف الجيش لتحقيق أهدافهم السياسية.

خامساً: التحديات التي تطرحها الإسلاموية السياسية

الإسلاموية السياسية في السودان كانت على الدوام معوقًا رئيسيًا للتحول الديمقراطي. منذ الستينات، عمل الإسلاميون على عرقلة أي محاولات لبناء دولة وطنية مدنية، إذ أن مشروعهم يقوم على أسلمة الدولة والسيطرة عليها. هذه الرؤية الضيقة أدت إلى تعميق الانقسامات الداخلية وتفاقم الصراعات العرقية والدينية في البلاد.

في فترة حكم البشير، بلغت السياسات الإسلاموية أوجها، حيث تم استخدام الدين كأداة لقمع المعارضة وإسكات الأصوات التي تطالب بالديمقراطية. هذه السياسات لم تكن مجرد أداة للقمع السياسي؛ بل أدت أيضًا إلى تدمير الاقتصاد السوداني وتعميق الفقر والتهميش.

سادساً: آفاق الحلول

للخروج من هذه الحلقة المفرغة من الصراع السياسي والتخريب الداخلي، يجب أن يتبنى السودان حلولًا جذرية وشاملة:

1. إعادة هيكلة الجيش: لابد من إصلاح جذري للمؤسسة العسكرية، بحيث تصبح مؤسسة وطنية غير متدخلة في السياسة. يجب إنهاء النفوذ الذي تمتلكه النخب العسكرية وتحويل الجيش إلى مؤسسة مهنية تحمي الدولة الديمقراطية.

2. تفكيك الحركات الإسلاموية: لا يمكن تحقيق أي تقدم دون مواجهة الحركات الإسلاموية التي تسعى لفرض أجندتها الدينية. يجب فرض نظام ديمقراطي مدني يفصل بين الدين والدولة ويضمن حقوق الجميع.

3. إعادة كتابة الدستور: لا بد من إعادة كتابة دستور يعبر عن تطلعات جميع السودانيين، ويضمن التعددية والعدالة الاجتماعية والحقوق الأساسية.

4. العدالة الانتقالية: لابد من محاسبة كل من تسبب في تخريب الديمقراطية وانتهاك حقوق السودانيين
5.

hishamosman315@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الحزب الشیوعی فی السودان فی السیاسة

إقرأ أيضاً:

عقار للرئيس الكيني “من لا يستمع إلى كباره، يُكسر ساقه” – مثل سواحيلي

صِيغت مبادئ الاتحاد الأفريقي للحفاظ على السلام والاستقرار بين دول الاتحاد ومع ذلك وفي انتهاك صارخ لهذه المبادئ قام الرئيس الكيني ويليام روتو، بدوافع غير معلنة من العداء تجاه السودان، بممارسات تُعتبر خرقاً لتلك المبادئ.ففي الفترة من 10 إلى 14 يونيو 2023، خلال اجتماع قادة دول الإيقاد في جيبوتي، تم اقتراح خطة طريق تسمح بتدخل القوات (وفقاً للمواد 4-8) وبعد انتهاء الجلسة، أعلن الرئيس روتو بشكل ثنائي آلية رباعية تضم جنوب السودان وجيبوتي وأوغندا وكينيا، حيث جعل كينيا رئيسةً لهذه الآلية.هذا الاقتراح لم يتم التصديق عليه من قبل الحكومة السودانية ولا تم الاتفاق عليه من قبل جمعية الإيقاد. وبذلك، تم تجاهل المظالم المشروعة للسودان، مما يُظهر استهانة بسيادتنا.في الاجتماع الاستثنائي للإيقاد الذي عُقد في أوغندا في 18 سبتمبر 2024 لمناقشة قضية الصومال، قام الرئيس روتو بإدخال قضايا السودان في نقاشات لا علاقة لها بالموضوع، مما زاد من حدة التوترات باقتراحه أن يجلس زعيم قوات الدعم السريع -المُدان بالإبادة الجماعية- على كرسي السودان لتمثيله.هذا اقتراح يعد انتهاكاً صارخاً لمبادئ الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي التي تمنع مشاركة جهات غير حكومية في اجتماعات حكومات الدول، مما يقوض الحكومة القائمة. بالإضافة إلى ذلك، ألقى الرئيس روتو عدة تصريحات مهينة ومستفزة حول الصراع في السودان.لقد أكد الاتحاد الأفريقي مراراً وتكراراً التزامه باحترام سيادة السودان. وفي 14 فبراير 2025، أعاد الاتحاد التأكيد على التزامه بالحفاظ على الوحدة الترابية والسيادة السودانية في الفقرة 7 من قراراته. ومع ذلك، وبعد أيام فقط، في 18 فبراير 2025، سمح الرئيس روتو لأعضاء وأنصار قوات الدعم السريع وغيرهم بالاجتماع في العاصمة الكينية نيروبي بهدف إنشاء حكومة موازية في السودان. هذا الفعل لا ينتهك فقط مبادئ الاتحاد الأفريقي، بل يضعف أيضاً مكانة كينيا كوسيط للسلام.من الضروري تذكير الرئيس ويليام روتو بأن بلاده كينيا، التي يتحمل مسؤولية رعايتها، تواجه تحديات داخلية عديدة، بما في ذلك بطالة الشباب والفقر والمطالبات بالشفافية – وهي قضايا تتطلب اهتمامه الكامل. كيف يمكنه الادعاء بالتوسط في شؤون السودان وهو لم يختبر أبداً حجم العنف الذي يشهده السودان حالياً؟ الشعب السوداني الوطني قادر تماماً على مواجهة تحدياته، وإنشاء حكومة موازية كما يدعو المشاركون في الاجتماع الذي استضافه الرئيس روتو ليس أولوية، بل الأولوية هي وقف القتال.سلسلة الإجراءات التي اتخذها الرئيس روتو تمثل اتجاهاً مقلقاً للتدخل الخارجي الذي يهدد بتقسيم السودان. هذا السلوك محظور صراحةً بموجب ميثاق الاتحاد الأفريقي ويتم إدانته من قبل مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الافريقي. ويجب هنا أن نتساءل: لماذا تتدخل كينيا في الشؤون الداخلية للسودان بينما تتوقع ألا تتحمل أي عواقب نتيجة لذلك؟علاوة على ذلك، فإن دعم الحكومة الكينية لقوات الدعم السريع – وهي جماعة مُدانة بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان – يعد أمراً مشكوكاً فيه أخلاقياً وغير قابل للدفاع قانونياً. يجب أن نسأل أنفسنا: أي سابقة يُرسيها هذا الفعل لمبادئ الاتحاد الأفريقي والقانون الدولي وسيادة الدول؟حل مشاكل السودان يقع في أيدي الشعب السوداني الوطني، وليس تحت ظل القوى الأجنبية أو أولئك الذين يسعون لتحقيق مكاسب شخصية. يجب أن تظل مبادئ الاتحاد الأفريقي الخاصة بالمساواة في السيادة وحل المشاكل الأفريقية داخلياً هي الموجه لتحركاتنا المستقبلية.طالما يلتزم السودان بهذه المبادئ، فإنه يحتفظ بحق إثارة هذه القضية أمام الاتحاد الأفريقي ذو القيادة الجديدة، منتظراً تحقيق العدالة والمساءلة العادلة.دعونا نلتزم بمبدأي(المساواة في السيادة، وحل المشاكل الأفريقية داخلياً دون تفاقمها).مع تقديريمالك عقار إيرنائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي19فبراير 2025 إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • الاحتفاء بذكرى تأسيس الدولة السعودية – 22 فبراير
  • عقار للرئيس الكيني “من لا يستمع إلى كباره، يُكسر ساقه” – مثل سواحيلي
  • التعديلات الدستورية في السودان- ما بين مطرقة العسكر وسندان الانتقال الديمقراطي
  • مصطفى بكري: الجيش السوداني يرفض الميليشيات ويعمل على الاستقرار
  • الحزب الاتحادي الديمقراطي الاصل يرفض حكومة المليشيا واجتماع نيروبي مؤامرة ضد وحدة السودان
  • الحركة السياسية لم تفهم الدرس بعد !
  • روسيا تستعيد 64% من الأراضي التي سيطرت عليها أوكرانيا في كورسك
  • ما هي برامج الهجرة التي أوقفها ترامب.. تعرف عليها؟
  • الجيش السوداني يسيطر على الدشول ويشن غارات على الفاشر
  • انهكوه تعذيبا وأهملوه طبيا ...وفاة أسير في سجون المليشيا التي يشرف عليها عبدالقادر المرتضى