أفريقيا وإستنزاف الأدمغة والعقول
تاريخ النشر: 29th, October 2024 GMT
د. الشفيع خضر سعيد
أشرنا في مقالاتنا السابقة إلى أن موضوع إحياء نهضة أفريقيا شكّل جوهر معظم مداخلات ومناقشات ملتقى الحوار الأفريقي للسلام والأمن الذي نظمته مؤسسة تامو أمبيكي في الأسبوع الأول من أكتوبر/تشرين الأول الجاري في جنوب أفريقيا. وقلنا في مقالنا السابق إن من أكبر أسباب تعثر مشروع النهضة في أفريقيا هو تمكن أنظمة التبعية في القارة عبر الاستبداد والطغيان وما أفرزته من صراعات عرقية دموية، وتجاهل لأولويات التنمية، وتفشي الفقر والجوع والمرض والفساد، والتواطؤ مع سارقي ثروات القارة.
ووفقا لمؤسسة بناء القدرات الإفريقية ومنظمة التنمية الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة، تفقد أفريقيا سنويا، منذ العام 1990، حوالي 20000 من خريجي الجامعات والمعاهد العليا، بل إن عدد المهنيين الذين غادروا إلى الولايات المتحدة وحدها يفوق ما تبقى في القارة السمراء برمتها. ووهناك دراسة صدرت عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بالتعاون مع أكاديمية البحث العلمي في مصر، تشير إلى أن 54000 من العلماء والأكاديميين المصريين يعملون في الخارج، من بينهم 11 ألفا في مجالات عالية التخصص، كالهندسة النووية (94 عالما)، والفيزياء الذرية (36 عالما)، وعلم الأحياء الدقيقة (98 عالما)، وعلوم الحاسوب والإلكترونيات والاتصالات (193 عالما). ولا شك سيطرة الدجل والشعوذة والخرافة، وسفه القول في الخطاب، والانحطاط في فن الغناء، وغير ذلك من مظاهر التخلف، مقرونة بهجرة الأدمغة، تعتبر مقاصد أساسية للاستبداد السياسي، كون الاستبداد يخشى على سطوته من العلماء والمفكرين، ومن الاقتدار المعرفي عموما. وفي هذا السياق، يحضرنا ما ذهب إليه الكاتب والشاعر اللبناني عيسى مخلوف قبل عقدين من الزمان في ندوة الثقافة العربية والتحديات الراهنة في متحف البحرين الوطني عندما قال “فُرض على عالمنا، ذي الفضاء المغلق، ثقافة الخوف والكتمان، حيث يقوم التكفّير السياسي منذ خمسين سنة، وينضم إليه راهنا التكفير الديني، مما يحشر الكتّاب وأصحاب الفكر في زاوية التبرؤ من الكفر، مع انقطاع متزايد ما بين المثقف والجمهور. فكيف يمكن للمفكرين الذين وضعوا في حالة ارتباك مع الذات، ودفعوا إلى الرقابة على فكرهم أن يقودوا معركة التصدي والتحدي وبناء المستقبل؟”.
إن إعادة بعث النهضة، يشترط الاستقرار السياسي، لا بحد السيف والقمع، وإنما في ظل نظام حكم يصون الحريات وحقوق الإنسان ويحفظ كرامته، ويستجيب لتطلعات الشعوب ويعزز آمالها، نظام قادر على إدارة عجلة التحديث والتطور، دون قطع مع التراث ودون ارتهان له، ويعمل على ترسيخ المؤسسات الديمقراطية الحديثة، في إطار التداول السلمي للسلطة وتسييد مفاهيم المجتمع المدني وتحييد المؤسسة العسكرية. وأعتقد أن حراك الشعوب الأفريقية والعربية الذي انطلق في العقد الثاني من الألفية، رغم ما أصابه من إخفاقات، سيفتح أبواب الولوج لمرحلة تاريخية جديدة تفوق في أهميتها مرحلة عصر النهضة العربية في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ومرحلة بناء الدول الوطنية المستقلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لأن هذه المرحلة الجديدة يمكن أن تؤسس لإعادة بعث مشروع النهضة في ظل ظروف جديدة مغايرة كليا تتميز باندفاع رياح التغيير كمجرى موضوعي، ولأن قوى التغير هذه المرة، وهي تتطلع لحياة جديدة معززة مكرمة في بلدانها، تحمل وعي عصرها الذي أسقط تعميمات الاكتفاء بالشعارات وادعاءات الافكار المسبقة، وهي تجيد لغة العصر والتعامل مع منجزات الثورة التكنولوجية بدرجة تمكنها من تطويعها لصالح قضايا شعوبها.
إن المشروع النهضوي الجديد، في تقديري، لن يخضع لأي تابوهات سياسية أو عقدة العصبية القومية، وفي نفس الوقت سيستثمر إيجابيات العولمة إلى أقصى حد ممكن، بينما ستتصدر مصالح الشعوب قائمة الأولويات في مواجهة الضغوط الأجنبية والأطماع الخارجية، لا سيما وإن شباب التغيير لا يعرف عقدة “الخواجة”. وقطعا سيتخلق نموذج معرفي جديد، قائم على الانخراط في سلسلة من الأنشطة العلمية، عبر المؤهلين المتخصصين في مجالات المعرفة المختلفة، لا لرفع شعارات عامة أو هتافات تحريضية مؤقتة التأثير، وإنما لصياغة برامج علمية المحتوى، تعكس نبض الشارع وتعبر عن مفهوم النهضة الذي ينظر إلى الإنسان باعتباره الجوهر لأي مشروع نهضوي، ويضعه فوق جميع الانتماءات الممكنة. برامج تجتهد في قضايا التراث لمواصلة استنتاجات المفكرين، أمثال الشهيد حسين مروة، حول أصالة العلاقة بين المحتوى التقدمي الديمقراطي لهذا التراث، والمحتوى التقدمي الديمقراطي لحركة التغيير المعاصرة وثقافتنا الحاضرة، دحضا لكل محاولات الإفتراء بأن المحتوى المعاصر دخيل ومستورد. وهكذا الحال بالنسبة لمناهج التعليم وقضايا تربية النشء والثقافة ومحاربة التسطيح والاستلاب الثقافي، وقضايا الشباب والمرأة….الخ. كل ذلك في إطار البديل المرتبط بمشروع التنمية والانفتاح على آخر منجزات الثورة التكنولوجية والثقافة العالمية، والذي يسعى لتقديم المعرفة بذات الجودة للجميع بدون استثناء، وبدون أعباء مالية على المواطن. وهكذا سيتم إحياء سر البناء المتمثل في تحرير العقل وعدم اعتقاله في سجون التجريم والتحريم، مما يفتح الباب واسعا أمام نمو مجتمع مدني قادر على التصدي لدوره في التوعية والتثقيف ومراكمة جزيئات إحياء النهضة عبر تسييد قيم الحرية والديمقراطية والعدل والمساواة والمواطنة وحقوق الإنسان وحب العمل والعلم والمعرفة والثقافة والاستنارة، الإصلاح الديني، وتحقيق التنمية المستدامة، وحل قضايا القوميات. نسوق ذلك دون تهويل أعمى، ودون افتراض أن الانتكاسات قد ولى زمانها. وسنواصل بتناول شروط النهضة وبعث الأمة.
نقلا عن القدس العربي
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
خطوات التغيير والحل للأزمة الليبية
الجميع يعلم أن ليبيا خلال سبعة عقود من عمرها المديد لم تستكمل مقومات دولة، فرغم أنها لها جغرافيا شاسعة بحجم قارة، وشعب عريق له تاريخ مديد إلا أنها لم يكن لها منظومة حكم رشيد، ولا مؤسسات نزيهة وشفافة، وزاد الأمر سؤا بعد إنتفاضة 2011م التي عملت على تفكيك منظومة الحكم المستبدة السابقة ولم تبنى بديلا لها من جديد، كانت الامل الذي تلاشى بعد تولى قيادتها المتسلقين والتافهين. بسبب ذلك انتشرت الفوضى والفساد والغزو الخارجي وثقافة الغنيمة، والاستقواء بالخارج بلا حسيب ولا رقيب، هذه الظروف أوجدت أجسام نفعية متشبثه بمقاعد فقدت الشرعية منذ زمن طويل منها مجلس النواب ومجلس الدولة والحكومتين التابعة لهما. والسؤال الذي يتردد كثيراً بين عامة الليبيين: ما هو الحل؟ا
خلال الثلاثة سنوات الماضية، كان النقاش منصبا حول سبل الحل الممكنة ولكن هناك أمرين عطلا الحسم وهما، ادارة البعثة الاممية للملف الليبي ليبقى مستمرا بلا حل، والامر الثاني أكذوبة الحل الليبي الليبي الذي ترسخ في الاذهان بلا تفكير ناقد. علما بأن الاجسام القائمة لا تريد التوافق للحل لان ذلك سينهي وجودها في المشهد السياسي الليبي وتنتهي معه كل المزايا والمهايا التي لا يجازف على فقدها أحدا منهم ولو فوهة البندقية عند رقبته.
لا شك أن بعثة الأمم المتحدة في ليبيا واقعة تحت سيطرة الدول الكبرى التي لها أدرع كفرقاء في السلطة الليبية، ولها سياسات متناقضة تبعا لمصالحها، ولذا رغم أهميتها فهي تدير الازمة أكثر من إيجاد حلول لها، مما يفتح االباب أمام البحث عن وسائل راديكالية للحل بدلاً من إنتظار الولادة العسيرة لحل البعثة، وعدمية الاجسام المتهالكة الفاقدة للشرعية، مثل مجلس النواب ومجلس الدولة ولجنة الدستور، والهياكل المدنية والعسكرية التابعة لهم.
من قراءة التاريخ البعيد والقريب نجد أن الانتفاضات الشعبية هي الوسائل السريعة الناجعة للتغيير، عند تجبر وتعنت الاجسام المتبلدة المتشبثة بالكراسي. وبذلك فان الانتفاضة الثانية للشعب الليبي سلميا هي الحل الملائم للمرحلة والذي يفضي إلى القضاء على الاجسام غير الشرعية وبناء منظومات الدولة من جديد على أسس المواطنة والعدل. وتتمثل خطوات التغيير فيما يأتي:
الدعوة ٌإلى التظاهر السلمي في كل المدن الليبية مطالبة بإسقاط مجلس النواب ومجلس الدولة، وتزداد التظاهرات إن لم يتقدم النواب باستقالاتهم، وتعلن البلديات سحب الاعتراف من نوابها، ثم تتحول المظاهرات إلى عصيان مدني سلمي. يقوم المجلس الرئاسي بإصدار مراسيم تعطيل مجلسي النواب ومجلس الدولة ولجنة الصياغة الدستور وإيقاف مرتباتهم والحجز على تلك المؤسسات بضمها للدولة، على أن يتم محاسبة من يعرقل تظاهر الجماهير مستقبلا. يصدر المجلس الرئاسي مرسوم بأن يتولى المجلس الأعلى للقضاء مهمة إصدار قانون الانتخابات الذي يكون مشابها للقوانين السابقة لانتخابات المؤتمر الوطني ومجلس النواب. يحيل المجلس الأعلى للقضاء قانون الانتخابات إلى الرئاسي، ثم إلى هيئة الانتخابات في فترة لا تتجاوز شهرين من تولي الرئاسي السلطة التشريعية مؤقتاـ يقوم الرئاسي بمخاطبة الهيئة العامة للانتخابات بفتح التسجيل عضوية مجلس النواب الجديد وتحديد موعد الانتخابات البرلمانية، يعقب ذلك الحملة الانتخابية بعد التحري عن المنتخبين من القضاء. بعد إجراء الانتخابات، يجتمع مجلس النواب الجديد في ظرف أسبوعين برئاسة الأكبر سنا لاختيار رئيس المجلس ولجنة الصياغة وديوان مجلس النواب. مجلس النواب الجديد يقوم بالإعلان عن الترشح لرئاسة الوزراء على مستوى ليبيا خلال الشهر الأول من مباشرة عمله، ويقوم بمفاضلة المترشحين بعد عرض برامجهم على المجلس. يقوم رئيس الوزراء الجديد بتشكيل حكومته ونيل الثقة من البرلمان. يقوم البرلمان الجديد بتشكيل لجنة فنية لمراجعة الدستور، وحل مشكلة المواد المختلفة عليها، ويعقب ذلك الاستفتاء على الدستور إلكترونيا بواسطة الرقم الوطني والرسائل النصية. يعتمد الدستور من مجلس النواب، وبذلك يتحدد نوع نظام الحكم في ليبيا. يدعو البرلمان إلى انتخابات رئاسية تبعا للدستور الجديد ويقوم بقبول ترشيحات رئاسة الدولة مع مراجعة الشروط مع القضاء ويخضع المترشحين المقبولين للمناظرة العلنية على وسائل الإعلام. تجرى الانتخابات الرئاسية وبذلك تكون ليبيا قد وصلت إلى الوضع النهائي المستقر الذي يستند إلى دستور دائم.الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.