في تموز (يوليو) الماضي نشرت مجلة “الإيكونومست” البريطانية العريقة تحقيقا مفصلا عن المناضل الفلسطيني مروان البرغوثي بعنوان: السجين الأهم في العالم. ثم عنوان ثانوي: هناك فلسطيني واحد بإمكانه المساعدة في إنهاء الصراع لكنه في سجن إسرائيلي، اسمه مروان البرغوثي.
شمل التحقيق زيارات إلى بلدة كوبر قرب رام الله في الضفة الغربية، مسقط رأس ومكان نشأة البرغوثي وحيث تعيش عائلته حتى اليوم.
أعتبر التحقيق أفضل عمل صحافي عن البرغوثي على الإطلاق. وأنصح من يستطيع الوصول إليه بقراءته جيدا. شيّق الأسلوب، متعدد المصادر، ثري بالمعلومات (ولو أنه لم يستمع للبرغوثي ذاته)، دقيق الوصف وبارع في الوقوف عند أصغر التفاصيل، حتى تظن كاتبه صحافيا ورساما وخبيرا سياسيا وطبيبا نفسانيا في الوقت نفسه.
تردد اسم البرغوثي طيلة العام الماضي كلما لاحت في الأفق صفقة تبادل سجناء بين إسرائيل وحركة حماس. بعض التكهنات ذهبت إلى أن حماس وضعته الثاني في قائمة الأسرى الذين تطلب مبادلتهم.
“الاستنجاد” بالبرغوثي ليس جديدا.
منذ نحو عشرين سنة، وكلما ضاقت الأرض بالفلسطينيين وتأزمت أحوال الإسرائيليين اشرأبت الأعناق إلى حيث يقبع البرغوثي معزولا عن الدنيا، وبرزت تساؤلات على رأسها: هل هو حقا الرجل المُخلِّص؟
تنقسم آراء الإسرائيليين، وكذلك الفلسطينيين، حول تبعات الإفراج عن البرغوثي. عامي أيالون، الرئيس السابق لجهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (شين بيت)، قال إن “الإفراج عن البرغوثي ودفعه للترشح للانتخابات الرئاسية الفلسطينية سيكون في صالح إسرائيل.
وكلما تحقق ذلك أبكر كان أفضل”. قادة إسرائيليون آخرون لم تذكر المجلة أسماءهم اعترفوا بأنهم يمقتونه وقالوا إنه أسوأ من يحيى السنوار “لم يؤمن يوما بالسلام ولم يغيّره السجن بل زاده تطرفا”.
في ساحة الفلسطينيين، من المؤكد أن كثيرين سيبتهجون للإفراج عن البرغوثي. لكن هناك بينهم من يتمنون له الخلود في السجن لأن الإفراج عنه سيخلط أوراقهم ويحرك المياه الراكدة في غير صالحهم. أقصد بالخصوص المستفيدين من ريوع السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير.
لنتجاوز هذا النقاش ونفترض جدلا أن إسرائيل وافقت على الإفراج عن البرغوثي. وهذا أمر، بقدر ما يبدو خيالا، غير مستبعد في هذا العالم الغامض المتقلب الذي نعيش فيه.
الإفراج عن البرغوثي سيغيّر أشياء وقد يؤثر على مزاج المواجهة بين الإسرائيليين والفلسطينيين
من الوارد أن الإفراج عن البرغوثي سيغيّر أشياء وقد يؤثر على مزاج المواجهة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. لكن إلى حين فقط. ثم سيصبح البرغوثي بسرعة معضلة للكل وحتى لنفسه.
على الصعيد الشخصي والعائلي، على كل من في داخله ذرة إنسانية أن يدعو للإفراج عن البرغوثي والعمل على ذلك إن استطاع. أما على الصعيد العام، فالإفراج سيضع البرغوثي في فخ أسوأ من فخ محمود عباس. وسأشرح لماذا.
ما يجب الوقوف عنده أن الرجل سيجد دنيا أخرى غير التي تركها وراءه يوم اعتقاله سنة 2002. سيُصدم البرغوثي بأن رفاقه في الكفاح هرموا وتغيّروا، غالبا نحو الأسوأ، وأن السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير في حالة شلل تام ينخرهما الفساد والاستسلام.
سيرى بأم العين أن المجتمع الفلسطيني لم يعد ذاك الذي عرفه وتربى في أحضانه، وأنه فريسة لإسرائيل تنكّل به، ولأجهزة السلطة تطارد ثائريه مثل إسرائيل، عدا عن أنه فريسة للعوز والعجز وفقدان متعة الحياة.
وسيجد أن إسرائيل التي عرفها وكسب احترام قادتها الأمنيين بفضل صموده أثناء التحقيقات وإيمانه بعدالة قضية شعبه، تغيّرت كذلك للأسوأ والأخطر ولم تعد سوى عصابة من مجرمي الحرب ومصاصي الدماء.
وسيكتشف أن السلام أصبح وهما، وحل الدولتين من ضروب المستحيل، وأن الخلافات السياسية والعقائدية الفلسطينية مستعصية على الحل واقتتال الفصائل ممكن جدا. سيجد البرغوثي فلسطين أخرى وستكون صدمته كبيرة وخيبته أكبر.
الموضوعية تقتضي القول، في المقابل، إن الخوف من البرغوثي سيكون منطقيا والحذر منه مشروعا. ليس لعيب فيه أو شكوك في إخلاصه، وإنما بسبب تجربة السجن وعوامل الزمن. فإضافة إلى الكلام السابق عن التغييرات الجذرية التي عصفت بالمنطقة والقضية الفلسطينية في غيابه، مَن سيضمن أن البرغوثي لم يتغيّر في الاتجاه الذي تريده إسرائيل؟
ومَن يجزم بأن البرغوثي في 2024 هو نفسه الذي عرفه الفلسطينيون قبل الاعتقال؟ وهل حقا سيكون هو مانديلا الفلسطيني كما يتمنى كثيرون؟
معروف في الأوساط السياسية والأمنية أن السجن أفضل مكان لـ”تأديب” الأسرى وكسر إرادتهم لثنيهم عن قناعاتهم. لكن هناك في السجون أكثر من مجرد “التأديب” والثني عن القناعات.
هناك التجنيد الاستخباراتي الذي يضعه السجّان (في كل مكان) على رأس أولوياته وأهدافه، مستغلا انكسار نفسية السجين وبدئه في مراجعة نفسه والتساؤل عن جدوى وجوده في ذلك المكان على حساب نفسه وحريته وراحة عائلته.
وإذا كانت سجون في العالم تتفوق في وضع نزلائها في هذه الأجواء من المكائد والحرب النفسية، فهي السجون الإسرائيلية.
وهو في زنزانته ما من شك أن البرغوثي يخضع لمراقبة بالكاميرات الدقيقة والمايكروفونات عالية الحساسية على مدار الساعات والدقائق.
وهذا يعني في ما يعنيه أن الاستخبارات والأجهزة الأمنية الإسرائيلية شكلت عنه قاعدة بيانات تحفظ أدق تفاصيل حياته ومزاجه وتركيبته النفسية والذهنية. هذا ناهيك عن الملفات الطبية والنفسية والبطاقية الشخصية التي شكلتها عنه.
هل هذا هو الذي يريده العالم زعيما للفلسطينيين.. كتاب مفتوح في أيدي الأجهزة الإسرائيلية؟
لا يعني هذا الكلام إطلاقا أن مروان البرغوثي أصبح بالضرورة عميلا أو جاسوسا لإسرائيل، وإنما هو تذكير بأن قرابة ربع قرن في السجن كفيلة بكسر أقوى الرجال وأكثرهم إيمانا بقضيتهم. وكفيلة بقلب قناعاتهم في أي اتجاه ممكن.
وحتى لو نجح البرغوثي في تحصين نفسه من مكائد الإسرائيليين في السجن، هناك عامل آخر مهم وخطير لا حول ولا قوة للمرء معه: الزمن، صاحب القدرة العجيبة على تغيير الناس.
سياسيا، لا يتصور عاقل أن إسرائيل ستقبل بالبرغوثي زعيما للفلسطينيين وهي التي لم ترض بمحمود عباس رغم كل التنازلات التي تبرع بها للإسرائيليين. إسرائيل أسوأ اليوم وأخطر كثيرا مما كانت في الماضي. حتى دور مفوض الشرطة المستعد للتنكيل بأبناء جلدته أكثر منها، والبيروقراطي الذي يتفوق عليها في تحويل حياة الفلسطينيين إلى جحيم، لم تعد ترضى به كما كانت تفعل قبل ثلاثة عقود.
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه مروان البرغوثي الأسرى السجون الأسرى الاحتلال سجون مروان البرغوثي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة تفاعلي سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الإفراج عن البرغوثی
إقرأ أيضاً:
ترامب يهدد إيران: هناك شيء سيحصل قريباً
قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في مؤتمر صحافي في البيت الأبيض، اليوم الجمعة، إن إيران كانت مفلسة واليوم تمتلك أموالاً طائلة، وقريباً سيحدث شيئاً معها.
وأشار ترامب خلال حديثه مع الصحافيين إلى أنّ "الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن كان غبياً وإيران قررت عدم إبرام اتفاق معه وأصبحت غنية في فترة قصيرة، فقد كان من الممكن إبرام اتفاق مع إيران بعد شهر من الانتخابات السابقة التي تم تزويرها".
وأضاف "وصلنا إلى اللحظات الأخيرة مع إيران ولا يمكن السماح لها بامتلاك سلاح نووي، و نأمل التوصل لاتفاق سلام مع إيران بدل الحديث عن الخيار الآخر".
JUST IN:
???????????????? Trump on Iran:
"Something is going to happen to Iran very soon, you’re going to hear about it" pic.twitter.com/LAJ4HjTE0l
وفي وقت سابق اليوم، أكد وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، أن البرنامج النووي الإيراني لا يمكن تدميره بالوسائل العسكرية، وأي هجوم إسرائيلي سيؤدي إلى "إشعال الشرق الأوسط".
وقال عراقجي لوكالة "فرانس برس": "لا يمكن تدمير البرنامج النووي الإيراني عسكرياً.. إنها تكنولوجيا أتقناها، وهي موجودة في عقول الناس – لا يمكن قصفها".
وأشار الوزير إلى أن طهران لديها القدرة على تقديم رد "قوي جداً" على أي هجوم.
وأضاف أنه لا يعتقد أن إسرائيل ستشن عمليات قتالية ضد إيران، لأن ذلك سيؤدي إلى "حريق كبير" في منطقة الشرق الأوسط.
قال وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، على هامش اجتماع وزراء خارجية الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، إن "البرنامج النووي الإيراني لا يمكن تدميره من خلال العمليات العسكرية". وأضاف لوكالة "فرانس برس": "هذه هي التكنولوجيا التي حققناها، التكنولوجيا موجودة في العقول ولا يمكن… pic.twitter.com/bWWm22W8Du
— إيران إنترناشيونال-عربي (@IranIntl_Ar) March 7, 2025وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد أعلن في وقت سابق من اليوم أنه أرسل رسالة إلى المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، مضيفاً أنه يفضل عقد صفقة مع طهران حول البرنامج النووي الإيراني بدلًا من محاولة حل القضية النووية الإيرانية بالوسائل العسكرية.
ترامب يرسل خطاب "دعوة" و"تهديد" إلى خامنئي - موقع 24قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إنه يريد التفاوض على اتفاق بخصوص برنامج الأسلحة النووية مع إيران، مضيفاً أنه أرسل خطابا لإيران، أمس الخميس، أعرب فيه عن أمله في ذلك.وعلقت بعثة إيران لدى الأمم المتحدة رداً على أسئلة بشأن رسالة ترامب للمرشد الإيراني مؤكدةً عدم "تلقي مثل هذه الرسالة حتى الآن".
وفي مطلع شهر فبراير (شباط) الماضي وقع ترامب على مذكرة حول استعادة سياسة "الضغوط القصوى" تجاه إيران، والتي تشمل محاولات لخفض صادراتها النفطية إلى الصفر بغية منعها من امتلاك سلاح نووي.
ورد وزير خارجية إيران حينذاك قائلاً إن "سياسة الضغوط القصوى التي أقرها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاه إيران، هي تجربة فاشلة".
وإلى ذلك، أوضح المرشد الإيراني علي خامنئي أن التفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية "ليس عقلانياً وبعيداً عن العزة"، مشيراً إلى أن التجربة السابقة أثبتت أن التفاوض لا يؤثر في حل مشاكل البلاد.