الحرب التي اندلعت في السودان في منتصف أبريل من العام الماضي، دخلت الآن طورها الثالث، وتتجه نحو نهايتها، ونهايتُها عند أغلب المحللين ليست بعيدة.. لا نتحدث عن أيام ولا أسابيع ولكن عن أشهر معدودة.

وكيفما كانت النتيجة على أرض الميدان فإن المشهد الختامي سيكون على طاولة توقيع حولها شهود، بغض النظر عن السيناريو الذي سيقود إلى ذلك.

وإذا كان هذا هو السيناريو الأرجح الذي ستنتهي إليه الحرب عسكرياً، فإن نهايتها سياسياً ستكون بشكل قريب من ذلك، إذ لا خيار أمام مختلف القوى السياسية السودانية، إن أرادت أن تتجنب أخطاءها التاريخية وأن تؤسس لمرحلة جديدة ومختلفة يتشكل وفقها مستقبل السودان، سوى أن تقبل بالجلوس على مائدة حوار شامل، لا يستثني أحداً، ليجيبوا على السؤال الأساسي: كيف يُحكم السودان، ثم يعيدوا بناء المجتمع المدني و أحزابهم السياسية وتأهيلها لخوض منافسة التفويض على نيل ثقة الناخبين السودانيين، من بعد انتهاء فترة الانتقال وإعادة الإعمار.

تحتاح أحزابنا إلى غربلة صفوفها، وإعادة بناء هياكلها، وتسليم راية القيادة فيها إلى جيل جديد من القيادات الشابة لا يحمل من أوزار الماضي إلا عبرة المسير إلى المستقبل. فقد ارتكب الجميع أخطاءً في حق أنفسهم وحق بلدهم من حيث أراد بعضهم أن يُحسنوا، وينبغي أن تتطبع الحياة العامة بعد أن تقف الحرب حتى تُتاح فرص للمراجعات الجهورة والاعتراف بتلك الأخطاء واعتزال العمل السياسي لكل قادة المراحل السابقة من تاريخ السودان، وهذا حديث يطول قد نأتي إليه في مقال متفصل.

إحدى الإفرازات التي ستنتج عن هذه الحرب، وقد تكون نتائجها صادمة هي مشكلة “العملاء”، فقد ثبت من وقائع الحرب الحالية أن قوىً سياسية بكامل صفها القيادي قد انخرطت في خدمة الأطراف الخارجية التي كانت سبباً في إشعال الحرب وفي استمرارها، وأنها – هذه القوى السياسية – أصرت على موقفها هذا برغم الفظائع والجرائم والانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع، والحال كذلك، فإن إحدى أبرز العقبات التي ستواجه التحول السياسي في فترة ما بعد الحرب هي كيفية التعامل مع طابور العملاء الطويل!!

في حالة هزيمة إسرائيل في 2006 وخروجها من جنوب لبنان، بعد احتلال دام لما يقارب ربع القرن، إضطر جيش العملاء بقيادة “أنطوان لحد” إلى اللحاق بمُخدميه، فحاز بعضهم الجنسية الاسرائيلية وهاجر بعضهم إلى بلاد شتى، وبعد سنوات من ذلك تمت معالجة أوضاع مَن بقوا على أرض لبنان على نحو يكفل لهم حق المواطنة.

وفي حالة هزيمة أمريكا في أفغانستان، بعد عشرين عاماً من الاحتلال، إضطرت الولايات المتحدة إلى إجلاء عملائها – مؤقتاً – إلى دول في الشرق الأوسط وفي أوروبا ريثما تنظر في ترتيب برنامج الهجرة والإدماج الخاص بهم، كما شاهد العالم عبر الفضائيات كيف أن “العملاء” احتشدوا في مطار كابول وتعلقوا بأجنحة وإطارات طائرات الشحن الأمريكية من طراز (سي 130)، ولا يعرف أحد حتى الآن طبيعة المصير الذي انتهى إليه أمر أولئك العملاء.

أمامنا في السودان فرصة لتقديم نموذج مختلف عن النموذجين اللبناني والأفغاني في كيفية التعامل مع العملاء والطابور الخامس، فعلى الرغم من بشاعة الجُرم الذي اقترفه أولئك الذين باعوا ضمائرهم للأجنبي، وخانوا وطنهم وجيشهم، وجندوا خبراتهم ومعارفهم للإضرار بالبلاد والعباد، إلاّ أن أبرز ما ميّز “الحالة السودانية” هو أن الأمر بقي محصوراً في نخبة سياسية وناشطين وإعلاميين محدودي العدد، ربما لا يتجاوزون بضع مئات، وقد ثبت من خلال متابعة الوقائع اليومية للحرب أن التيار الشعبي العام لفظهم بعد افتضاح أمرهم.

لقد سبق أن شهدت بلادنا حروباً أهلية ومحاولات إنقلابية وغزوات من الخارج قام بها سودانيون تلقى بعضهم تدريباً وعوناً من دول أجنبية، وخلال أكثر من ستين عاماً من عمر الحكم الوطني عاش معارضون سودانيون في الخارج وتعاملوا مع أنظمة ودول شتى بغية مساعدتهم في إسقاط الأنظمة التي كانت تحكم، لكن الثابت أنه على امتداد هذا التاريخ وتعدد التجارب، لم ترهن معارضة سياسية سودانية أو حركة تحمل السلاح، قرارها لداعميها وتتحول إلى مخلب ينهش في خاصرة الوطن خدمة للأجندة الخارجية، إلاّ في الحالة التي عشناها من بعد التغيير الذي حدث في أبريل 2019 والتي انتهت إلى صيغة الإتفاق الإطاري الذي كان السبب الرئيسي وراء الحرب التي نعيش وقائعها اليوم.

الاختلافات السياسية، مهما بلغت حدتها، وحتى لو دفعت البعض لحمل السلاح في مواجهة السلطة الحاكمة، يمكن أن تنهي بالتفاوض إلى التراضي، ما دامت تحدث تحت سقف الوطن، لكن رهن الإرادة الوطنية للأجنبي والسعي إلى تمكينه من بسط هيمنته على مقدرات الدولة، أمر يصعب التغافل عنه. فالعملاء كالسوس لا دواء له إلاّ بالبتر، والبتر المقصود هنا هو أن يرحلوا خارج الأرض التي لفظتهم.

العبيد أحمد مروح

* نقلا عن “المحقق”

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

السودان ومشهد اللا يقين

يشكل مستقبل السودان هاجسا لكل دول وشعوب جواره المباشر؛ نظرا لتأثيره الكبير على أوضاع داخلية هنا أو هناك، وربما هذا ما يفسر بيانات وزارت الخارجية الصادرة مؤخرا من كل من مصر والمملكة العربية السعودية وقطر والكويت بشأن رفض تكوين حكومة ثانية في السودان، وكذلك التواصل الأخير بين تشاد وبور تسودان.

على الصعيد الدولي، السودان محل اهتمام وقلق، كانت آخر تجلياته جلسة مجلس الأمن الأخيرة وانخراط بريطانيا في الدعوة لمؤتمر دولي حول السودان في إبريل القادم بهدف وقف الحرب.

هنا يكون التساؤل المطروح هو، هل انتصارات الجيش الراهنة أو سيطرته المتوقعة على العاصمة الخرطوم، تؤسس لوقف الحرب والوصول إلى منصة تفاوض بدعم دولي، أم تؤسس لانقسام السودان بعد إعلان ميثاق “تأسيس” في نيروبي بين كيانات سياسية، ينتمي معظمها إلى دارفور برعاية الدعم السريع؟

آفاق العمليات العسكرية للجيش وامتدادها لدارفور من عدمه، ستحدد ملامح السودان القادم، والتي قد تكون مرتبطة بطبيعة قدرات الجيش المتبقية بعد معاركه في شرق ووسط وعاصمة البلاد، وموقفه من الاستمرار حتى تحرير دارفور في ضوء أمرين: الأول وساطة تركية مع دولة الإمارات، لم يعلن عن فحواها، ترجح أن يكون هناك اتفاق غير معلن بشأن توقف العمليات العسكرية للجيش بعد تحرير الخرطوم كاملة، أما الأمر الثاني، فهو سرديات حلفاء الجيش من المحسوبين على نظام الرئيس عمر البشير والمستدعاة حاليا بالاكتفاء بمثلث شرق ووسط وشمال السودان، والتخلي عن دارفور كما تم التخلي عن جنوب السودان، باعتبار هؤلاء هم الأغيار على المستوي العرقي.

في هذا السياق، فإن تحرير الخرطوم يعني البدء في تدشين معادلة السلطة وأطرافها في المرحلة القادمة، وهي مسألة محل صراع رغم زيادة وزن الجيش إلى حد كبير بعد انتصاراته الأخيرة، وهو الأمر الذي دفع قياداته إلى طرح تعديل الوثيقة الدستورية من جانب واحد، دون استبصار أن وجود الشريك السياسي للجيش والممثل الواقعي للقوى السياسية السودانية أمر مفصلي في صناعة استقرار مرحلة ما قبل الانتخابات.

قد تكون تقديرات الجيش في هذه الخطوة قد تأسست على عدد من العوامل الداخلية والخارجية، منها أن الطلب علي الأمن مقابل الحرب بات أولوية عند غالبية السودانيين، كما أن مخاوف المجتمع الدولي من انهيار السودان، قد باتت أولوية على ما عداها، وبالتالي، فالجيش قد يكون قادر في هذه المرحلة وحيدا، ودون شراكات سياسية على تمرير أطروحاته وتقديراته بشأن اليوم التالي للحرب، فضلا عن عدم اهتمام إدارة دونالد ترامب، حتى اللحظة بملف الحرب السودانية، وعدم تعيين مبعوث للإدارة الجديدة في السودان خلفا لتوم بيريليو، بما يعطي هامش حركة لبور تسودان، خصوصا مع التوجهات الجديدة نحو روسيا ومنحها منفذا بحريا على البحر الأحمر.

من هنا نستطيع أن نفهم دعم رمطان العمامرة مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة لخطة الجيش، التي سبق وتم إعلان ملامح منها في كلمات الفريق عبد الفتاح البرهان أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال العامين الماضيين، بينما تم استكمال هذه الملامح بتعديل الوثيقة الدستورية من جانب واحد، على الرغم من طبيعتها البنيوية التعاقدية مع الأطراف المدنية، حيث تم تجريم معظم الفاعلين السياسيين المدنيين، خصوصا المشاركين في حكومة د. عبد لله حمدوك، الأمر الذي يوقع الجيش في مأزق ممتد مستقبلا.

حالة اللا يقين على المستويين العسكري والسياسي في السودان، خصوصا بشأن مستقبل التفاعل مع دارفور، وعملية الإحلال المحتملة لمعسكرات الدعم السريع في الخرطوم بفصائل مسلحة تحالفت مع الجيش، فضلا عن عدم وجود اتجاهات داخل الجيش لمصالحة وطنية شاملة حتى الآن، يجعل التطورات السودانية في معظمها، تتجه نحو استمرار الحرب مع إمكانية توسيع رقعتها الجغرافية، وتجذيرها للانقسام الاجتماعي وذلك في السياقات التالية:-

١- في حالة عجز المجهودات الإقليمية والدولية في تحجيم محاور دعم قوات الدعم السريع العربية والإفريقية ونجاح تأسيس إعلان هياكل الحكومة التنفيذية ووجود أطراف داعمة لها مستفيدة من موارد دارفور، فإن الحرب السودانية ستتوسع لتمتد إقليميا، حيث سوف يتمركز حميدتي وقواته في إقليم دارفور، بما يحمله ذلك من إمكانية إعلان انفصال من جانب واحد، وهو التطور الذي سوف ينتج تحالفات معادية له بالتعاون مع الجيش، بما يعني تحول إقليم دارفور إلى بؤرة صراع مسلح ممتد، كما سيفتح الباب أمام حميدتي على طلب دعم من ليبيا التي تملك حدودا مع السودان بطول ٤٠٠ كيلو مترا، وتتداخل مع قبائل جنوب ليبيا الزوي والمجبرة بعلاقات نسب ومصاهرة، حيث سبق وأن حدث تعاون عسكري بين حميدتي وحفتر في الصراعات الليبية، وهو تطور يعني مزيدا من الضغوط الأمنية على شرق وجنوب ليبيا التي تستضيف حاليا حوالي ربع مليون لاجئ سوداني. وفي السياق ذاته، فإن التداخل القبلي التشادي السوداني يبدو مؤثرا على التفاعلات داخل القصر الرئاسي التشادي، وطبيعة علاقته بالمعارضة التشادية المسلحة.

٢- في حالة اتجاه الجيش بعد تحرير الخرطوم نحو إعلان حكومة تسيير أعمال مع استبعاد الشركاء السياسيين، وعدم الوقوف على مسافة واحدة من الأطراف، وكذلك تولي الفريق البرهان السلطة في المرحلة الانتقالية، فإن ذلك سوف ينتج تململا سياسيا داخليا، من المرجح أن يتم الاستفادة منه إقليميا لإضعاف الجيش.

عدم تكوين أطر تشريعية مناسبة منتجة لدستور ونظم إاتخابية متوافق عليها، فإنه من المرجح أن يقع الجيش في براثن المتحالفين معه في معاركه ضد الدعم السريع، أي أن يتم إعادة إنتاج الدعم السريع في الخرطوم، ولكن تحت رايات ومسميات أخرى، بما يهدد القوات المسلحة السودانية كمؤسسة.

٣- في حالة وجود إدراك مصري وعربي بضرورة الدفع نحو مصالحة وطنية شاملة في السودان كبديل عن حرب ممتدة، وانقسامات مستقبلية في السودان، فإنه من المطلوب تبني برنامج محدد يتضمن النقاط التالية:-

أن يكون الدعم للجيش مشروطا بتبني خيار المصالحة الوطنية الشاملة في السودان، وكذلك الضغط عليه في إطار الحلول التفاوضية بعد تحرير الخرطوم.

التحرك الدبلوماسي المصري والعربي على المستوى الدولي؛ لتجفيف منابع التسلح والدعم اللوجستي لقوات الدعم السريع، تأسيسا على كونها قوة مسلحة، لم تستطع أن تقدم نموذجا، يمكن مساندته عبر ممارستها لانتهاكات واسعة النطاق ضد المدنيين، بما تضمنته من اغتصاب للنساء .
دعم عملية بلورة لمعادلات سياسية لليوم التالي للحرب بمشاركة الجميع، عبر تبني الحوارات السودانية الداخلية وتوفير المنصات المطلوبة لها، والدعم السياسي لهذه العملية المنتجة لفترة انتقالية متوافق عليها، بما يشمله ذلك من الدفع لاتفاق على نظام سياسي مناسب للمكونات السودانية، وحالة ضعف الأحزاب وانقساماتها.
الدفع نحو عملية انتخابية واضحة الإجراءات، من حيث عدالة البيئة الانتخابية، وموائمة النظام السياسي لعمليات التمثيل السياسي والعرقي والجندري بالسودان.
الدفع نحو تدشين التوافق المدني والعسكري عبر تقديم الخبرات والدعم الفني، فيما يخص العلاقات المدنية العسكرية حول العالم ومساراتها الحديثة، بما يتضمنه ذلك من توافق وطني بشأن آليات تأسيس جيش قومي، وطبيعة صلاحيات الجيش في الفترة الانتقالية، وما بعدها، وعمليات الإدماج والتسريح، وأجندتها الزمنية، وكذلك تغيير نظام التجنيد؛ ليكون إجباريا، فيتم تمثيل الشعب السوداني على نحو واقعي.
وفي الأخير، الانشغال أو التقاعس عن تقديم هذه المجهودات المستمرة؛ للحفاظ على وجود دولة السودان على كامل ترابها الوطني، يعد مجازفة كبرى بالأمن القومي المصري، خصوصا والأمن الإقليمي عموما.

نقلا عن مصر 360  

مقالات مشابهة

  • هل تلاحظون الصمت الذي ضرب على خيمة خالد سلك؟!
  • نازحات في يومهِنّ!!
  • مسؤول سوداني: النساء يمثلن 98% من الأسر التي تعاني أوضاعًا قاسية
  • هل يشعر مهاجمو ريال مدريد بـ الحسد من بعضهم البعض؟ أنشيلوتي يوضح
  • خطة الجحيمفي غزة.. ما الذي تخطط له حكومة نتنياهو ؟
  • الثامن من مارس: والجالسات على أرصفة العدالة في السودان
  • دولة القانون
  • مصطفى بكري ناعيا اللواء أحمد أبو طالب: رحل الإنسان الذي عرفت فيه كل معاني المروءة
  • الثامن من مارس: و الجالسات على أرصفة العدالة في السودان
  • السودان ومشهد اللا يقين