فاطمة اليمانية
"أصبحت الإنسانية مسرفة في الجَلَبة والضوضاء" دوستويفسكي.
***
تناولت من حقيبتها دفترًا على عجالة؛ حتّى تتمكن من تسجيل رقمٍ كان يتطاير من فم إحدى الموظّفات بطريقة غريبة...
ورغم رغبتها في تكرار الرقم على طريقة الموظفة إلّا أنّها عجزت عن تكرار الأرقام بتلك النبرة التي تجمع بين النعاس والضجر!
واكتشفت أنّها سجلّت الأرقام بطريقة يستحيل معها أنْ يكون الرقم في عمان! رغم تأكيدها للموظفة بأنّها نقلت الأرقام بطريقة صحيحة!
لكنّ الشيء الأكيد الذي التقطته أذنها هو عرض الموظفة المُغري- كما تظن- بأنّ سعر ستّة دفاتر بثلاثة عشر ريالاً فقط! وخمس وعشرين بيسة.
ولا تعرف سرّ الكسور العجيبة التي تتبع بعض المشتريات، حيث تنقص خمس بيسات أو عشر أو خمس وعشرين بيسة! عن إكمال المائة بيسة!
فقرّرت التركيز جيدًا، وعدم الانسياق خلف عاطفتها الجيّاشة في تلبية طلبات أبنائها وشراء بضع دفاتر بهذا المبلغ؛ لأنّ ما يميزها رسومات لوحوش العصر الحديث الذين اقتحموا المنازل من خلال الأفلام الكرتونية، والإعلانات الصاخبة لبضائع مدرسيّة متنوعة تنهمر يوميًا على أبصار الأطفال، ومسامعهم!
ويبدو أنّ نسبة كبيرة من العروض القائمة حاليًا في المحلّات والمكتبات تختم بكلمة "فقط" مهما كان السعرُ مبالغًا فيه... ومهما كانت البضاعة زهيدة! ورخيصة! لكنّ كلمة "فقط" قد تغري المشتري، وتوحي بأنّ اقتناء السِلعة صفقة ونوع من التوفير، وترشيد النفقات... وبأنّ هذا العرض لا يجب التفريط به!
رغم ذلك انتبهت إلى ورقة شاحبة اللون مختبئة بين أوراق الدفتر، وكانت فاتورة قديمة عفى عليها الزمن، لمشتريات لم تستوعب للآن الدافع والمسوّغ لشرائها؟ ولا كيف تمّ التخلّص منها؟!
إنّما تتذكر جيدًا حملة الترويج التي رافقتها، فأوحت لها، ولغيرها بضرورة الشراء؛ حتّى تكون سيّدة متحضّرة متناغمة مع تطورات العصر!
فألقتها في سلّة المهملات... المليئة بعشرات الأوراق والفواتير:
فواتير الأطعمة العضويّة الصحيّة التي يجب التهامها خلال شهر؛ فتنتهي صلاحية مُعظمها قبل استهلاكها! فواتير شراء الملابس الرياضية التي لن ترتديها! فواتير كماليات لا حاجة لها بها.مثل كوب مصنوع من طبقتين من الزجاج الثقيل، له ذراع عريضة بها فتحة لوضع الملعقة، وقاعدة زجاجية أثقل من الكوب نفسه! ولم تشرب منه إلّا مرّة واحدة لثقل حجمه ودَمِه! وعادت للشرب في كوب خفيف من الخزف الأبيض!
ولوحة فنّية تجريدية، اشترتها لتعلّقها في صالة المنزل؛ لكنّها تخيّلت بعد التحليق في خطوطها المتداخلة، وظلالها المُموّهة أشباحًا لمساجين، يمدّون أذرعتهم من فتحات القضبان الحديدية، ويرغبون بالفرار!
فأدخلتها في الخزانة، وحبستها مع أقرانها من اللوحات رفيعة المستوى، والتي أثبتت عدم أهمّيتها، وعدم الجدوى من اقتنائها! وكانت إحدى اللوّحات رسمًا لحمارِ القرية الذي يجرّ عربة محمّلة بالأثقال، لكنّه يبتسم! وكان إبداع الرسّام أنّه أتقن رسم عيون الحمار، بحيث توحي للناظر إليها أنّه يطالعه!
ويبتسم!لذلك خبأتها في الخزانة، ربما لأنّه يذكّرها بحمارٍ ما؟! ربّما! لكنّها لا شك لَنْ تخبر أحدًا عن ذلك؟! ولن تجرؤ على إخراج اللوحة لصديقاتها، أو السماح لهنّ بالتلصّص عليها!
كما تفعل العاملة وهي تتلصص على الفواتير الملقاة في سلّة المهملات؛ وتقرأ الأسعار، وتقول لها:
لديّ أطفال يدرسون. انتظري الراتب!فتغادِر حزينة منكّسة رأسها؛ لتتبعها بمبلغٍ من المال بعد شعورها بتأنيب الضمير، متناسية أنّ هذا السيناريو المعتاد يتكرر مع كلّ عام دراسيّ! وأنّ أبناء العاملة تخرّجو العام الماضي من الجامعة، وسبق وأنْ أعطتها مبلغًا من المال هديّة لنجاحِهم!
ولم تدقق كثيرًا، بل تهلّلت أساريرها بعد سماع كلمة شكرًا!
لكنّ أولادها لم يقولوا لها شكرًا؛ بل تطايروا إلى غرفهم غاضبين؛ لأنّ أحدهم لم يعثر على مقلمة "تيرانودون" الديناصور الطائر المنقرض!
وآخر لم تسمح له بشراء حقيبة عليها صورة "هجي وجي" القبيحة، فلعن المدرسة، والمكتبة، والمركز التجاري! وأغلق باب السيارة بقوّة، وصلافة!
بينما اكتفت ابنتها بالنحيب من شدّة صدمتها في أمّها التي منعتها من شراء مجموعة ألوان وردية للمرّة الثالثة! بحجّة لون العلبة المميز، وبأنّ درجة الوردي هذه المرّة أكثر ملاءمة للحقيبة الوردية! والدفاتر الوردية! وقالت لها:
لو كانت خالتي أمّي! خالتك أختي!وأخبرتها بأنّها تشبه شقيقتها في أشياء كثيرة، كطريقة التربية مثلا!
بل حاولت أنْ تكشف الجانب المظلم لدى شقيقتها! حيث أنّها اشترت نفس الأغراض المدرسية لجميع أبنائها، ولم تفرق بين أغراض الأولاد، وأغراض البنات، وأحضرت مجموعات متشابهة، دفعة واحدة! والأقسى من ذلك أنّها رفضت أخذهم معها لشراء الأغراض المدرسية!
لكنّ ابنتها تشبّثت برأيها، وقالت لها بأنّ خالتها أكثر لطفًا، وحنَانًا، وجمالًا! ومن سابع المستحيلات أنْ تفعل ذلك بأبنائها! وبأنّ جميع ما ذكرته تضليل، وتشويه سمعة! ولا يمتّ للحقيقة بِصِلَة!
فانتابتها رغبة شديدة في ضرب ابنتها؛ لكنّها تذكّرت تعليمات مديرة مركز الاستشارات الأسرية، الذي لجأت إليه اعتقادًا منها بأنّه يمتلك الحلّ الأمثل لعلاج أزمتها الاجتماعية مع العائلة، والأبناء! والتي نصحتها بضبط النفس، مهما كان كلام الأبناء مستفزًّا! ومهما كان كلامهم جارحًا، ومؤلمًا!
وشعرت بوخزٍ في قلبها، بعد تذكّر الفواتير التي قامت بسدادها إكرامًا للجلسات الخمس عبر الانترنت! حيث كانت تطلب منها الحديث عن مشكلتها مع أبنائها؟ وتقول لها تحدثي بجميع ما يدور في ذهنك! وبماذا تشعرين في هذه اللحظة بالضبط! وتتركها وهي تهذي أمام الكاميرا، وقد تذهب مديرة المركز لشرب الشاي، أو لاستقبال حالة جديدة! ثم تعود لها بعد نص ساعة من الهذيان أمام الكاميرا، وتقول لها:
أراكِ في جلسة مقبلة!وبعد انتهاء الجلسة تتصل بصديقتها، وتتحدث معها أكثر من ساعتين، تخبرها عن مشاكلها اليومية مع أبنائها، وعن الاستشارات الأسرية الصامتة، وعن الفواتير!
لتنتهي المكالمة وتدرك الهشاشة النفسية والروحية التي وصلت إليها وهي تحاول تخطّي حاجز إمكانياتها المادية؛ لترضي أبناءها!
لكن الشيء الوحيد الحقيقي البعيد عن الماديات، هو أنّ صديقتها تستمع لها بلا فواتير، ودون مقابل!
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
ما هي العقبات التي تمنع تنظيم الإسلام في فرنسا مُنذ ربع قرن؟
تُحاول الدولة الفرنسية منذ ربع قرن دون جدوى إعادة تشكيل تمثيل الإسلام بشكل صحيح في البلاد، لكنّ النكسات وخيبات الأمل كانت دائماً من نصيبها، فما إن تعتقد السلطات أنّها حققت هدفها حتى تبدأ جهودها بالتراجع.
في بداية عام 2000، أطلق جان بيير شيفينمان، وزير الداخلية آنذاك، أولى الحوارات الرسمية التي أدّت في عام 2003 إلى ولادة المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، تحت رعاية الرئيس السابق نيكولا ساركوزي.
Influences étrangères, attentats, argent du halal... Les six failles qui empêchent l’organisation de l’islam en France
L’État français tente en vain, depuis un quart de siècle, de façonner sa représentation dans le pays.https://t.co/d9WAQ66YHE
ومع تزايد سيطرة تنظيم الإخوان الإرهابي على المجلس المذكور على مدى 20 عاماً، رفض الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون الاعتراف به، فاستبدله في فبراير (شباط) عام 2022 بمنتدى الإسلام في فرنسا (Forif) تحت إشراف وزير الداخلية الأسبق جيرالد دارمانين، الذي كان مسؤولاً عن تنظيم عمل الأديان في فرنسا.
وعلى الرغم من أنّ من يُدير المُنتدى ممثلون دينيون أقل انخراطاً في السياسة وأكثر تكنوقراطية من المجلس الإخواني المُنحل، إلا أنّه لم ينتج بعد أيّ شيء ملموس عن الهيكل الديني الحديث خلال 3 سنوات من وجوده. ويرى عالم الاجتماع فرانك فريغوسي، الباحث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، أنّ "الرجال والنساء الذين هم في صدد اختراع إسلام الغد، هم أكثر براغماتية بكثير مما يريد أتباع التطرّف الديني أو السلفيين أو الإخوان".
ويعتبر الكاتب والمحلل السياسي الفرنسي جان ماري غينوا، أنّه، ورغم الفشل المتكرر، هناك حلول موجودة، حتى لو لم يكن أيّ منها حلاً سحرياً. لكنّ هناك العديد من العقبات التي تحول دون تشكيل مُستقر لـِ "إسلام فرنسا"، سواء على الجانب الإسلامي الداخلي أو على الجانب الجمهوري العلماني، كما أنّ بعضها يتعلّق بالسياق الدولي.
La loi confortant le respect des principes de la République que le Gouvernement a fait voter est un texte important qui donne les moyens à l’Etat de se défendre face au séparatisme islamiste et à ceux qui veulent renverser les valeurs de la République. #ZoneInterdite pic.twitter.com/TWpEDlvy25
— Gérald DARMANIN (@GDarmanin) January 23, 2022 تنافس لا ينتهيمن الخارج، لا يبدو الانقسام واضحاً، لكنّه حقيقي جداً. إذ هناك 3 مُجتمعات مُتنافسة تُهيمن على المشهد الإسلامي الفرنسي "الجزائريون، والمغاربة، والأتراك". وبحسب مسؤول كبير في الجالية المسلمة، يعتقد الجزائريون أنّهم الممثلون التاريخيون للإسلام في فرنسا. والمُفارقة أنّ إنشاء مُنتدى "فوريف"، الذي كان له هدف مُعلن هو الحدّ من التأثيرات الأجنبية، لم يتمكن من منع السياسيين من استغلال هذه التنافسات التاريخية.
ومنذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عملت وزارة الداخلية، المسؤولة عن الأديان، على دفع الجاليات الإسلامية المختلفة الموجودة في فرنسا إلى تنظيم أنفسها، لكنّ التنافس الداخلي والخارجي أدّى إلى متاهة أضعفت الهياكل الإسلامية كافة.
وحاول المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، الذي تتجاهله الدولة الآن بسبب تبعيته للإخوان، ويُمثّل نحو نصف مساجد فرنسا، إصلاح نفسه، لكنّ السلطات الرسمية ترفض الحوار معه.
"Les frères musulmans ont de grosses difficultés à s'implanter dans le monde musulman car souvent listés comme terroristes. En occident ils se développent sans entrave car considérés comme modérés, de gauche, surtout en Belgique et en France." [Florence Bergeaud-Blackler] pic.twitter.com/PKkfy7ujLK
— ⛓️???? #LiberezBoualemSansal ✍️ (@IslamismeFrance) February 3, 2025 جروح الهجمات القاتلةخلال 25 عاماً، تعرّض السياق المُجتمعي لتنظيم الإسلام في فرنسا لاضطرابات عميقة بسبب سلسلة من الهجمات، التي غالباً ما ارتُكبت باسم الإسلام، مما أدّى إلى تصلّب الرأي العام الفرنسي تجاه الدين. وقد وثّقت أجهزة الأمن الفرنسي وقوع حوالي 50 هجوماً إسلامياً قاتلاً، مما ولّد مآسٍ تركت بصمتها على البلاد.
ورغم أنّ كل هذه الأعمال الإرهابية كانت دائماً موضع إدانة واضحة من قبل الهياكل الممثلة للإسلام في فرنسا، إلا أنّها مع ذلك غيرت مناخ التسامح والتعايش تماماً.
كما شهدت الجمهورية الفرنسية تحوّلاً سياسياً وإدارياً بإقرارها في أغسطس (آب) 2021 قانون "تعزيز مبادئ الجمهورية"، المعروف بقانون مكافحة "الانفصالية" الإسلاموية، بهدف تعزيز العلمانية والحياد، وخاصة في الخدمات العامة.
ومن أهم ما تمّ إقراره هو مراقبة الجمعيات الدينية من خلال فرض توقيع "عقد التزام جمهوري"، وهو ما فرض قيوداً إدارية ودقيقة عليها، منها عدم قُدرتها على فتح حسابات مصرفية لمُحاربة التمويل الخارجي، مما أعاق عملها بشكل كبير.
Les enjeux du marché halal sont bien plus préoccupants que les seuls problèmes de compétition économique, le halal est l’instrument d’un djihâd économique.
À lire dans @LeFigaroTV ????https://t.co/VDI7dRtQYZ
استهدف كتاب عالمة الاجتماع الفرنسية البلجيكية فلورنس بيرغود بلاكلر، "الإخوان وشبكاتهم" في عام 2023 فكر التنظيم الإرهابي بشكل مُعمّق.
وهو عمل قدّمه عالم السياسة والمتخصص في الإسلام الراديكالي جيل كيبيل. وقد تجرّأت الباحثة في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي على كسر أحد المحرمات بشأن حقيقة نفوذ جماعة الإخوان المسلمين في فرنسا من خلال اتحاد المنظمات الإسلامية، الذي أعيدت تسميته إلى "مسلمي فرنسا"، حيث كان مُستهدفاً بشكل خاص في هذا السياق، وهو ما عرّض الباحثة لموجة من التهديدات بالقتل.
ولم يتنازل اتحاد المنظمات الإسلامية الفرنسية السابق عن إمكانية ممارسة دوره بشكل كامل في المجتمعات الغربية، مع دعوته لتطبيق مبادئ الشريعة والقانون الإسلامي في الحياة اليومية العادية، وفقاً لعقيدة صارمة. لتظلّ بذلك المشكلة قائمة في تمثيل الإسلام بشكل صحيح، حيث من غير الممكن تطبيق تعاليم الدين بشكل خاطئ لا يقبل المساومة عبر فرض ممارسات دقيقة للإسلام في السياق الغربي دون أن يُؤدّي ذلك إلى الانفصالية عن المُجتمع الفرنسي.
Influences étrangères, attentats, argent du halal... Les six failles qui empêchent l’organisation de l’islam en France
L’État français tente en vain, depuis un quart de siècle, de façonner sa représentation dans le pays.https://t.co/d9WAQ66YHE
اقترح حكيم القروي، أحد أبرز الشخصيات الإسلامية المُعتدلة والإيجابية في فرنسا، مراراً وتكراراً أن تذهب عوائد الطعام الحلال بشكل مباشر لدعم جهود تنظيم الدين الإسلامي في فرنسا.
وذكر أنّ "الأموال المُتداولة لا تذهب إلى حيث ينبغي أن تذهب، أي في مشاريع تدريب الأئمة، وفي دفع رواتب ممثلي الدين، وفي بناء أماكن العبادة (بهدف منع التمويل الخارجي)".
ولكن في الواقع فإنّ الغالبية العظمى من تلك الأموال تذهب إلى مُستثمرين يتحكمون بها وفقاً لأجندات مشبوهة. وأظهر عُمق هذا الخلاف الإضافي مدى الانقسام العميق الذي يسود المُجتمع الإسلامي نفسه في فرنسا بسبب المال الحلال.