مقابر الإمام الشافعي.. معالم في مصر مهددة بـقانون الـ100 عام
تاريخ النشر: 28th, October 2024 GMT
من جديد، تكرّر الحديث عن عمليات هدم تطال مباني أثرية في منطقة مقابر الإمام الشافعي وسط القاهرة بحجة بناء مشاريع مرورية لتطوير المنطقة عمرانيًا.
انتقادات واسعة طالت هذه العمليات في بلدٍ يشتهر بالمباني التاريخية والمقابر القديمة، في ظل قرارات هدم عددٍ من الأضرحة والقباب التي تحمل قيمة تاريخية.
كيف تغير مشاريع التطوير معالم مقابر الإمام الشافعي؟ وما أثرها على هذه المعالم التاريخية؟
عمليات "تطوير"منذ عام 1979، سجّلت منظمة اليونسكو منطقة القاهرة التاريخية كموقع تراثٍ عالميّ.
وتضمُّ هذه المنطقة عددًا كبيرًا من مقابر فقهاء ووزراء وأدباء عاشوا في عصورٍ سابقة، خلال مشاريع التطوير الحالية تعرضت بعض هذه المقابر للهدم رغم المكانة الكبيرة لأصحابها في تاريخ مصر، آخرها مقبرة أحد قادة الثورة العرابية محمود سامي البارودي، وقبة "نام شاز قادين" مستولدة محمد علي، إحدى جواري محمد علي اللائي أنجبن منه أولادًا، وأم محمد عبدالحليم باشا ابنه الثاني.
وبنَى هذه القبة الأمير محمد عبدالحليم فوق ضريح أمه خلال إقامته في مصر حيث كان الأحق بوراثة العرش بعد الخديوِ إسماعيل حتى نجح الأخير في تغيير نظام ولاية العهد وأسنده إلى أكبر أبنائه، الأمر الذي دفع محمد عبدالحليم للهرب إلى تركيا وعاش فيها حتى مات ودُفن بها.
وفي 2019، بدأ الحديث عن إزالة أجزاء من مقابر الإمام الشافعي لأول مرة بمبرر تنفيذ أعمال توسعة أحد الطرق في هذه المنطقة. وحتى الآن، لم يتم الإعلان عن التفاصيل الكاملة لهذا المشروع في ظل تغيرها أكثر مرة، وعدم توفر خرائط رسمية تكشف مسارات الطرق والجسور المزمع إنشاؤها في المناطق التي ستُزال المقابر منها.
ويصف رئيس قطاع الآثار المصرية بوزارة الآثار السابق، يوسف خليفة، في حديثه لـ"الحرة"، المنطقة بأنها "متحف مفتوح"، موضحًا أن "كل قبة وكل شاهد تقع في هذه المنطقة تمثّل قيمة كبرى وتملك طُرز معمارية لن نستطيع تعويضها مرة أخرى"، معتبرا أن إزالتها "جريمة".
ومن جانبه، يوضح الباحث في الآثار الإسلامية معاذ لافي لـ"الحرة"، أن بداية المشروع كانت عبر التخطيط لعمل سلسلة من الطرق والجسور لتيسير المرور في المنطقة وربطها بمحاور مرورية أخرى. وبجانب هذه المشاريع، سيجري بناء عددٍ من الميادين لإحداث عملية "تطوير" كبرى في المنطقة بأسرها.
أما الباحث في التراث، ميشيل حنا، فيرى أن تصنيف هذه المنشآت كمقابر "لا يجعلها هدفًا سهلاً يُمكن هدمه دون عوائق"، مضيفا "الأهرامات نفسها وأغلب ما بقي لنا من الفراعنة بُنيت كمقابر".
ويعتبر حنا أن "عشق المصريين لبناء مقابر ذات طرازات معمارية مميزة يرجع إلى اهتمامه القديم جدًا إلى الحياة الأخرى، وأن يكون له ضريح فاخر يُدفن فيه، عادة يتوارثها المصريون حتى اليوم".
وخلال حديثه لـ"الحرة"، أكد ميشيل أن القبة بمقابر الإمام الشافعي يتجاوز عمره 160 عامًا، ورغم ذلك لم يجر تصنيفها كأثر بسبب تقاعس المسؤولين في وزارة الآثار"، على حد قوله.
ضجة سابقةضجة مماثلة عرفتها مصر العام الماضي فور تداول صور هدم بعض المقابر عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
هذا السجال دفع الحكومة المصرية للإعلان عن تشكيل لجنة هندسية لمراجعة المشروع، يشرف عليها رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي، ويرأسها وزير التعليم العالي، أيمن عاشور، بصحبة عددٍ من أساتذة العمارة والهندسة والتخطيط العمراني.
وبعدها خفت الحديث عن موضوع هدم المقابر في ظل تزايد الانتقادات الموجّهة للمشروع، حتى عادت "البلدوزرات" للظهور من جديد في منطقة مقابر الإمام الشافعي، تم الشروع في إزالة المقابر بشكلٍ أعاد الاعتراضات حول جدوى كل هذه الإجراءات.
وعقب ذلك، أعلن وزير الثقافة، أحمد فؤاد هنو، وقف عمليات الهدم "بشكلٍ مؤقت".
"أحيانًا عندما يحدث غضب مجتمعي بسبب حدث كبير مثل هدم قبة مستولدة محمد علي، يقف الهدم لفترة محدودة ثم يعود مرة أخرى"، يقول ميشيل حنا.
وبحسب لافي فإن عمليات التوقف عن المشروع كانت تقع لسبيين؛ الأول ورود "اعتراضات كبيرة" تُجبر القائمين على الأمر على وقف أعمال الهدم مؤقتًا، والثاني "وجود ظروف اقتصادية تمرُّ بها الدولة تمنعها من توفير التمويل اللازم لاستكمال هذا المشروع".
"دول كثيرة لا تملك تاريخًا، لا يعقل أن نهدمه بأنفسنا"، هذا موقف عضوة مجلس الشيوخ المصري وأستاذة الدراسات السياحية، كريسيتن عادل فتحي، الذي عبرت عنه حديثها مع "الحرة"، كاشفة أنه جرت مناقشة مقترح برلماني لنقل هذه القباب الأثرية إلى المتحف الإسلامي أو إلى أي مكان آخر بدلاً من هدمها.
وتضيف "جميعنا تضايقنا عندما رأينا هذه المنشآت تُهدم، حتى لو لم تكن لها قيمة أثرية كبرى لكنها تبقى شاهدة على حقبة مهمة من تاريخنا، نحن المصريون اعتدنا الحفاظ على مقتنياتنا القديمة حتى لو كانت تخصُّ أقاربنا، فما بالك بمقابر أفراد صنعوا جزءًا من تاريخنا".
وتقول أستاذة الدراسات السياحية إنه "رغم أهمية هذه المنطقة الأثرية فإنها كانت مهجورة ونادرًا ما يزورها أحد"، مردفة "لم يكن هناك أحد يعرف مَن هي مستولدة محمد علي إلا عندما هُدمت".
وتتابع موضحة أن "جهود الدولة" لإقامة مشاريع التطوير "لا أحد يستطيع إنكارها"، داعيةً إلى "عدم إعطاء الموضوع أكبر من حجمه".
لكنها، في المقابل، شدّدت على أن عدم إجراء حوار مجتمعي بشأن هذا المشروع ساهم في حدوث هذه المشكلة، مؤكدة أنه كان سيُعطيه "لمسة ديمقراطية" وسيكون له صدى جيد في الشارع المصري.
أبنية المئة عام
في 1983، أصدرت مصر القانون رقم 117 لحماية الآثار ونصّت على اعتبار كل عقار "نتاج للحضارة المصرية أو الحضارات المتعاقبة" مرّ على بنائه 100 عام "أثرًا لا يُمكن هدمه".
وفي محاولة منهم لدعم هدم المقابر، يعتبر مُدافعون عن المشروع أن هذه الأبنية لم تمر عليها مائة عام، لذا "لا يُمكن تصنيفها أثرًا ولا يجوز إضفاء الحماية عليها بهذا الشكل"، بحسبهم.
هذا ما ردّ عليه رئيس قطاع الآثار المصرية بوزارة الآثار السابق، يوسف خليفة، حين كشف لـ"الحرة" أن القانون "لم يقصر تصنيف الأثر على مسألة الـ100 عام فقط، وإنما أتاح للوزير المختص الحرية لعدم التقيد بهذه المدة الزمنية مع المباني ذات الطُرُز المعمارية المميزة أو لو كان صاحبها له أهمية سياسة وثقافية عندها يُعتبر منزله أو مقبرته أثر يجب ألا يُهدم".
وأضاف خليفة أن "معظم عمارات القاهرة الخديوية وشوارع وسط البلد القديمة لم يمر عليها 100سنة"، متسائلا "هل يجوز هدمها هي الأخرى؟".
وهنا تبرز مطالب كثيرين بالحفاظ على هذه المقابر، إما بالإبقاء عليها أو نقلها.
مقترح نقل المقابر
مقترح عضوة مجلس الشيوخ المصري، كريسيتن عادل فتحي، بنقل المقابر كان قد نصَّ عليه إعلان لوزير الثقافة بتوقيف الهدم لحين دراسة تحسم بين خياري الإبقاء على الأضرحة أو نقلها بعيدًا عن المشروع، وهي الخطوة التي وصفتها عضوة مجلس الشيوخ بأنها "قد تكون حدثت تهدئة للشارع".
وخلال حديثه لـ"الحرة"، يدعم رئيس قطاع الآثار المصرية بوزارة الآثار السابق، يوسف خليفة، مقترح النقل معتبرا أن "أقل ما كان يُمكن عمله في هذه المنطقة هو نقل هذه الأضرحة إلى منطقة أخرى".
لكن هل خيار النقل قابل عمليا للتنفيذ؟، خليفة يعتبر ذلك ممكنا، قائلا "هو أمر يُمكن تنفيذه هندسيًا، وحتى لو فقدت في هذه العمليات 20 في المئة أو 30 في المئة منه لكن سيحافظ عليها من الضياع".
ويضيف المتحدث "بموجب قانون المنفعة العامة، أصبح من الممكن إزالة أي شيء لصالح تنفيذ المشروعات الكبيرة.. نعم يمكننا إزالة عمارة أو مساجد حديثة، لكن هذا تراث لا يُعوض".
وتابع خليفة أن مشاريع النقل "لو كانت قد طُرحت على أيٍّ من البعثات الأجنبية العاملة في مصر من الوارد جدًا أن تتبرع بالتنفيذ على نفقتها دون أن تكلفنا شيئًا حتى تتفاخر في سيرتها الذاتية بمشاركتها في مثل هذه النوعية من المشاريع".
في المقابل، يعارض الباحث في الآثار الإسلامية معاذ لافي خيار النقل باعتبار أن العملية قد "تُنزع الأثر من سياقها"، موضحًا "القرافة (المقبرة) عبارة عن نسيج عمراني، تُشكل الشوارع والبيوت والمباني والناس والحيوانات منظومة متجانسة الأفضل تركه كما هو دون أي تدخل أو تطويره بشكل جماعي يحافظ على باقي العناصر".
ويدعم لافي، في المقابل، خيار الحفاظ على هذه الأبنية، قائلا إن أهمية الإبقاء على الأضرحة "ترجع لأمرين؛ أولهما أن أصحابها اشتروها من الدولة بموجب القانون وأقاموا عليها مقابر عائلاتهم، لذا فإن من حقهم إبقائها كما هي حتى لو كانوا أشخاصًا مغمورين لم يفعلوا شيئًا مهماً في التاريخ، لأنها أملاكهم الخاصة ولا يجوز الاستيلاء عليها عنوة"
أما السبب الثاني، وفق لافي، فهو أن "هذه القباب مهمة تاريخيًا لأنها تعبّر عن طرازات معمارية لم تعد موجودة لأنها تعطينا لمحة عن توجه الدولة المصرية في هذا الوقت التي كانت تحاول خلع العباءة العثمانية وتبحث لنفسها عن هوية بديلة، أحد هذه النماذج (New mamluk style) قائم عليه قسم كامل في معهد ماساتشوستس الأميركي للتكنولجيا لتأريخها في مصر وباقي أنحاء العالم"
وبحسب لافي فإن "القرافة" تعدُّ "مصدرًا للتأريخ مثلها مثل الكتب، بل إنها قد تتفوق عليها في بعض الأحيان حينما تمنحنا معلومات لم يسبق تدوينها في أي دراسات. مثلاً، حُفر على شاهد قبر محمود البارودي أبيات شعر لم تُكتب في دواوينه ولولا وجودها بالقبر لم نكن لنعرف بوجودها".
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: مقابر الإمام الشافعی هذه المنطقة محمد علی حتى لو فی مصر لو کان فی هذه
إقرأ أيضاً:
معالم في طريق استقرار الحكم في السودان
أ / محمد علي طه الملك
خبير قانوني وقاض سابق بالمحاكم السودانية
سلسلة مقالات من (1 إلى 10)
إن تجاوز أزمة الحكم ومعضلاته في السودان مقدور عليه لو صدقت النوايا، فهنالك العديد من النظريات في العلوم السياسية ، وتطبيقات الحوكمة ، ونظم الدولة يمكن بها حل إشكالات الدولة المركزية في السودان ، ولكن لم يعد سرا عند كافة السودانيين أن لا استقرار ولا نجاح ولا استدامة لنظام حكم في السودان ، ديمقراطيا كان أو دكتاتوريا ، فدراليا كان أو مركزيا ، ما لم تحل جذريا مشكلات هوامشه ويعاد النظر في بنيات الدولة ومؤسساتها الموروثة من الاستعمار ، ومثلما هي واضحة مشكلات تلك الهوامش فإنها أيضا متباينة من حيث مسبباتها ودرجات تعقيداتها ، فإن كانت أبعادها في الشرق والي حد كبير في الشمال القصي
تعود لما هو ثقافي وتنموي ، فإنها تعود في الغرب والنيل الازرق لما هو إثني وتنموي وثقافي وبيئي ، ولعل العقدة الكأداء التي تحول دون العبور الآمن للحلول بوجه أكثر خصوصية في هذه الآقاليم ، أن الحلول يجب أن تأتي بتوافقات من مكوناتهم الاجتماعية قبل أي جهة سياسية أو رسمية أخرى ، وهنا تكمن العلة ، لآن ذلك يعني أن الكيانات المتساكنة في أقاليم الصراعات يقع عليها العبء الآكبر، نحو تسكين وترويض قناعات مكوناتهم نفسها في قبول الآخر والتعايش مع حقائق البيئة التي تفرض ذاتها على الآزمة لحين تجاوزها بالتنمية المدروسة ، بمعنى أن الرغبة في التعايش وقبول الآخر المختلف اثنيا أو ثقافيا ، يجب أن تنبع منهم فيما بينهم قبل غيرهم ولن يكون ذلك ممكنا مالم تتولي نخبهم الاجتماعية بنفسها عملية التنوير، ورأب التصدعات فيما بينهم وصولا لتقصير ظل المعضلات ، حتى تصبح محصورة فيما هو تنموي أو تمثيل سلطوي ولكن في ظل التباغض الاجتماعي ، والفرز الإثني والثقافي الحاد ، والتنازع الهويوي الذي يحول التنافس على الموارد المحدودة الي حروب طاحنة، لن تنجح معها الخطط التنموية ولا التعايش السلمي المنشود، حتى لو عولجت معضلة تولى السلطة ، وما يثير الغرابة ويدفع المرء للظن بأن بلادنا محسودة ، أن مناطق النزاعات هي الآكثر ثراء من حيث تنوع مواردها ، والآكثر نفرا من حيث قواه العاملة ، والآكبر رقما من حيث اعداد الاثرياء فيه ، مع ذلك فلمكون الاجتماعي غير قادر على تقبل الآخر والتعامل معه بندية صحيح هنالك أخطاء استراتيجية ارتكبتها السلطات الحاكمة بمختلف سياقاتها وزمانها ولكن ليس صعبا الوصول لعلاجات ناجعة لمسائل الصراع حول السلطة كما نوهت في المقدمة ، غير أن الآهم التعويل على دور المكونات الاجتماعية المحلية ، وما يمكن أن تضطلع به من حيث تسكين ثقافة القبول بالآخر ، والاعتراف بالتنوع كميزة تعضد الثراء الاجتماعي وتصحح اختلالات الجينات الوراثية.
لذلك عندما اتجه الرأي نحو الاعتراف بالعدالة الانتقالية كآلية ، فلكونها الاقرب للمزاج الشعبي من حيث تمليك سلطة الحل للإرادة الشعبية ، عن طريق تحييد سلطة مؤسسات الدولة الرسمية ، ووضعها في حجر المتضررين واليائسين من عدالتها ، كثيرون ينظرون للعدالة الانتقالية وكأنها آلية هدفها محاكمة من ارتكبوا الجرائم في حق مجتمعاتهم فحسب ، بينما هي في حقيقتها آلية ذات فضاء يتجاوز مجرد محاكمة الجناة وجبر أضرار المتضررين ، إلي تقويم الوعي الاجتماعي ، عن طريق تسمية المشكلات ، اجتماعية كانت أو ثقافية أو سياسية أو بيئية أو تنموية ، وربط ذلك بما تطلبه من اعادة النظر في بنية الدولة نفسها ومؤسساتها ، ومدى تناسقها مع إرادة من تحكمهم ، لقد أوجدت هذه الآلية لكي تعالج مشكلات الدول مؤسساتها وتشريعاتها ومجتمعاتها المأزومة ، بغية إعادة الصياغة والبناء وصولا للاستقرار والسلم الاجتماعي اللذان يشكلان كلمة السر في نجاح مشروعات التنمية والنهوض بالدولة وإنسانها.
تجارب الحكم اللامركزي
كثيرون في ظنهم أن تجربة الحكم الفيدرالي في السودان تجربة حديثة على مكوناته السكانية ، غير أنها في الواقع ممارسة غائرة في تاريخ نظم الحكم في السودان ، ولعل الباحث في نظم الممالك والسلطنات القديمة ، يتلمس بجلاء صيغ الفيدرالية التي سادت ونظمت مرافق الدولة في أزمانهم ، فلو نظرنا لشكل ونظم الحكم التي سادت أوان العصر المروي ، نجد أن شكل الدولة مؤسس على الفيدرالية علي أكمل وأقوم أشراطها ، وكذا الحال في المالك المسيحية التي سادت في القرون الوسطى ، وقد تأست السلطنة الزرقاء بسابقاتها وتبنت بدورها النظام الفيدرالي.
السودانيون إذن كانوا الآسبق في تجارب الحكم الفيدرالي ، و لم يألفوا نظام الدولة المركزية إلا بعد غزو حاكم مصر محمد علي باشا للسودان عام 1821م ، وتأسيس حكمدارية تتبع الباب العالي حسبما تفيد المصادر، من بعدهم مضت الدولة مركزية في ظل كل العهود التالية ، استعمارية كانت أم وطنية ، وعلى الرغم من مركزية الحكم التي سادت ، لم تخلو فترات الحكم من إتباع أنماط من النظم الإدارية اللامركزية ، بغية تقصير الظل الإداري ( نظام المأموريات والمديريات الإدارية) اضطروا إليها لاتساع الرقعة الجغرافية في البلاد فضلاً عن تكوينه الاجتماعي وتعدده البيئي وتنوعه الثقافي.
مع بدايات العهد المايوي 1969م ، نحت الدولة نحو اللامركزية الإدارية ، وشرعت قانون الحكم الشعبي المحلي ، كان من ابرز سماته جعل المديرية وحدة حكم بشخصية اعتبارية ، لها موازنة وهيئة حاكمة هي المجلس الشعبي التنفيذي ، هذا المجلس له سلطة إنشاء مجالس شعبية تحتية ، مثل مجالس المناطق ، المدن والآرياف ، ومجالس ا آحياء والقرى والفرقان ، والمناطق الصناعية ، لهدفين هما تحقيق قدر من اللامركزية ، وتفعيل مبدأ المشاركة الشعبية في تقديم الخدمات العامة ، و في قمة المجلس الشعبي التنفيذي محافظ يعين بواسطة رئيس الجمهورية.
بعد اتفاقية اديس اببا 1972م ، صدر قانون الحكم الذاتي للمديريات الجنوبية ، وحمل نصا في الفصل الثاني منه ، قضى بأن تصبح المديريات الجنوبية للسودان إقليماً يتمتع بالحكم الذاتي الإقليمي ، في نطاق جمهورية السودان الديمقراطية ، يعرف بإقليم جنوب السودان. ُكونت له سلطة تنفيذية للحكم ، جلس على قمته رئيس المجلس التنفيذي العالي ، الحاكم المسؤول عن حسن إدارة الإقليم ، وهيئة تشريعية ُعرفت بمجلس الشعب الإقليمي لجنوب السودان ، كان معنيا بصنع السياسات العامة في الإقليم ، بهذه الصيغة أصبحت البلاد تدار بنمطين من الحكم ، حكم لامركزي في الشمال ، يدار تحت قبضة مركزية من العاصمة بجانب حكم إقليمي في الجنوب ، وبدا الآمر مربكا من حيث التكييف الإداري الدستوري لشكل الدولة ونظام الحكم ، فلا هو نمط فيدرالي كامل الشروط ، ولا هو لامركزية إدارية بحتة ، الآمر الذي حدا بفقهاء الإدارة إلى القول أن مثل هذا الهيكل في دولة موحدة ، يعتبر أمراً لا نظير له في العالم ، ولكي ينم تجاوز هذه الازدواجية المربكة ، فضلاً عن أسباب سياسية أخرى ، أعاد النظام هيكلة إدارة الحكم في الشمال تحت قانون الحكم الإقليمي 1980 بموجبه أصبح للحكم ثلاث مستويات ، تمثلت في الحكومة المركزية ، حكومات الآقاليم ومجالس المناطق، و أعيد توزيع السلطات والموارد بين المركز والآقاليم ، وبين الإقليم والمجالس المناطقية التابعة له ، كان هذا الانتقال لنمط الحكم الإقليمي ، مرانا تطبيقيا ساعد إلى حد كبير ومهد الطريق لتبني النمط الفيدرالي بعد وصول الإنقاذ لسدة الحكم بانقلاب عسكري 1989م ، اصدر في العام 1991م المرسوم الدستور ، الذي تأسس بموجبه أولى بوادر الحكم الفيدرالي ، حيث أخذت الدولة نمط الشكل الفيدرالي ، وأستمر الحال حتى صدور الدستور الانتقالي عقب اتفاق السلام عام 2005م ، وهو الدستور الذي أضفى قدرا من الشرعية الدستورية للدولة ونظام الحكم ، غير أن واقع الممارسة التطبيقية للنظام الفيدرالي حتى يومنا هذا ، بث في روع المواطنين مفهوما مشوها للفيدرالية ، أسهمت فيه الدولة بطبيعة تنظيمها السياسي الشمولي ، وتوجهاته الاقصائية التي رهنت المشاركة في إدارة الدولة ، بضرورة الولاء لتنظيمها السياسي والإذعان لسياسته بالتبعية ، ولو أنها ركنت بجدية وأذعنت في تطبيقاتها لشروط الفدرالية بحيادية وتجرد وطني ، لجنبت نفسها والبلاد الكثير من المشاكل والمزا لق السياسية ، فالنظم الفدرالية وجدت أصلاً لمعالجة إشكاليات الدولة المركبة من عدة قوميات ، حتى تجد منفذاً قانونياً تستطيع تلك القوميات من خلاله التعبير عن ذاتيتها ، وتحافظ على هويتها الثقافية ، وتنمي مواردها وإنسانها بقدراتها وإرادتها، وذاك عين ما استقر عليه التعريف القانوني للفيدرالية من حيث النظرية :
Federalism is a system of government in which the same
territory is controlled by two levels of government. Generally, an overarching national government governs issues that affect the entire country, and smaller subdivisions govern issues of local concern. Both the national government and the smaller political subdivisions have the power to make laws and both have a certain level of autonomy from each other. The United States has a federal system of governance consisting of the national or federal government, and the government of the individual states.
إذاً وكما قيل ـ فإن مقصد ( الوحدة في التنوع ) ، يتحقق في نظام الحكم الفيدرالي الذي يبسط السلطة أفقياً بخلق وحدات جغرافية ، ذات صلاحيات دستورية واسعة في اتخاذ القرارات ، في ذات الوقت يضمن تماسك الدولة واستقامة أمرها داخل منظومتها الاتحادية فالنمط الفيدرالي أسلوب حكم ومنهج إدارة ، يتم بموجبه نقل كامل لسلطات الحكومة ، من حاضرة البلاد إلى وحدات جغرافية ، تأوي داخل حدودها مجموعة من السكان ، بينهم تجانس عرقي أو ثقافي ومصالح مشتركة ، لها ارتباط وجداني بذلك الحيز الجغرافي ماضياً وحاضراً ومصيراً ، تبعاً لهذا فالفيدرالية نوع من اللامركزية السياسية أو التخويلية ، لكونها وضع دستوري يقوم على توزيع الوظائف الحكومية المختلفة ، التشريعية والتنفيذية والقضائية ، بين الحكومة المستقرة في العاصمة وحكومات أخرى في الوحدات الجغرافية المكونة للدولة .
أخلص للقول ـ أن قصور التجربة في الاستحواذ على رضا السودانيين بالعموم ، يعود لعيب تطبيقاتها المشوهة ، في ظل شمولية التنظيم السياسي المهيمن على الدولة ، عمل خلال ثلاثة عقود بعناد وجرأة في الاستحواذ على السلطة في المركز والولايات ، محتالا علي الإرادة الحرة لخيارات الجماهير، لكي تبقى السلطة والثروة رهينتين بأيديهم ، يمنحوها و يمنعوها كيف شاؤا، الآمر الذي أطاح بثقة المحكومين في الحاكمين ، ودفعت بعض بؤر الهامش لاتخاذ المقاومة المسلحة منهجا لاقتضاء الحقوق ، وفي ظل اليأس وتوهان الآمل في صلاح الحال ، وانهيار الثقة وكدر الآنفس وضياع الآرواح ، ذهبت بعض أصوات الهامش إلى حد الكفر بوحدة الدولة ، والمطالبة بإقرار مبدأ الوحدة الطوعية ، تماثلا بما أقرته نيفاشا من تقرير مصير وهو المطلب الذي شرع النظام الفدرالي في الآساس لتفاديه عن طريق ردم الهوة وتجسير المثالب الداعية إليه بين المركز وهوامشه .
من النقاط الهامة التي تجدر الإشارة إليها ، أن تطبيق الفيدرالية على وجهها السليم ، يمنح المجالس التشريعية في الوحدات الجغرافية إقليمية كانت أم ولائية ، كامل الحق في تشريع القوانين التي تعبر عن إرادة جماهيرها وخصوصيتهم الثقافية ، الآمر الذي يحول دون فرض الدولة الاتحادية لإيديولوجية ما بصورة شاملة .
على ضوء ما استعرضته عليكم بعالية انتقل بكم لرؤيتي حول معالم الطريق نحو الدولة الفيدرالية وهياكلها .
يتبع >>>>>>>> (2)
medali51@hotmail.com