عربي21:
2025-04-24@13:18:29 GMT

مبارك.. كلمة أخيرة!

تاريخ النشر: 28th, October 2024 GMT

منذ وقوع الانقلاب العسكري في مصر، وأنا أعتبر أن الرئيس مبارك ليس معركتنا، وتوقفت حتى عن وصفه بـ"المخلوع"!

فدولته لا تحكم الآن، ومن يقول إن الحكم الحالي هو حكم الدولة المصرية العميقة، يبالغ في تقدير الأمور، فقد أنشأ الحكم العسكري الحالي دولة أخرى، غير تلك الدولة التي تعرفها مصر منذ القدم، ولم يكن ما فعله عبد الناصر إلا إجراء تحسينات عليها، فانتقم من الإقطاعيين وأبقى على جسم هذه الدولة، وخاصم الوفد وعددا من قيادات الأحزاب الأخرى، لكنه استعان بالجسم السياسي العام في استمرار دولته، بل إن دولته ضمت إخوانا سابقين، مثل الشيخ الباقوري، وعبد العزيز كامل؛ فلم يخترع دولة من الهواء كما الحاصل الآن!

وإزاء حالة الحنق على السياسات الحالية والتضرر منها، فإنني أعتبر أن دولة مبارك تمثل الآن رافدا كبيرا من روافد التغيير، هذا التغيير الذي لم يعد موضوعا خاصا بثوار يناير، أو حتى بالسياسيين، وإنما صار حلما يراود العامة الذين يشكلون القطاع العريض من دولة مبارك، والذين عملوا على استمرارها لثلاثين عاما، ولم تكن لديهم مشكلة مع توريث الحكم، ما دامت السياسات توفر الاستقرار، والحد الأدنى اللازم من المعيشة، أما الاستبداد والقمع فهذا ليس موضوع هذه الطبقة، التي اعتادت على أن النظر فيما في أيدي الحكام ليس من اختصاصها العام، فهذا يقع في دائرة اهتمام النخبة السياسية!

أعتبر أن دولة مبارك تمثل الآن رافدا كبيرا من روافد التغيير، هذا التغيير الذي لم يعد موضوعا خاصا بثوار يناير، أو حتى بالسياسيين، وإنما صار حلما يراود العامة الذين يشكلون القطاع العريض من دولة مبارك، والذين عملوا على استمرارها لثلاثين عاما، ولم تكن لديهم مشكلة مع توريث الحكم، ما دامت السياسات توفر الاستقرار، والحد الأدنى اللازم من المعيشة، أما الاستبداد والقمع فهذا ليس موضوع هذه الطبقة، التي اعتادت على أن النظر فيما في أيدي الحكام ليس من اختصاصها العام، فهذا يقع في دائرة اهتمام النخبة السياسية
"ولا يوم من أيامك يا مبارك":

ولا يزعجني هتاف "ولا يوم من أيامك يا مبارك"، بل أعتبره قيمة مضافة لقضية التغيير، فمع هذا الهتاف لن ينتقل الحكم من السيسي إلى الرئيس الراحل، فقد أفضى الرجل إلى ما قدم، وصار موضوعا للمؤرخين، وربما يكون موضوعنا إذا حدث التغيير وعادت إلينا مصر المختطفة، ليس من جانب نظام، ولكن من قبل شخص، يتصرف فيها وفي مقدراتها تصرف المالك فيما يملك!

الإزعاج الحقيقي من هذه الدعوة التي تتنامى بأن السبب فيما نحن فيه هو بسبب ثورة يناير، التي عزلت مبارك، وجاءت بالسيسي الذي أدخل البلد في دوامة الفقر والعوز، وفرط في مقدراتها، حتى أوصلنا إلى ما وصفه هو بنفسه بأنه أجواء نكسة 1967، هكذا بدون حرب، ودون تحمل للمسؤولية ولو بشكل تمثيلي فيعلن التنحي، كما فعل عبد الناصر، لعلنا نخرج للشوارع ونهتف: لا تتنحى.

لكن ما يعرف منه بالضرورة أنه ليس مغامرا ليفعل، كما أنه لن يفعل ما فعله عبد الناصر بإبعاد المسؤولين عن الهزيمة والإطاحة بهم، لأنه وحده من يحكم، إلا إذا كان مطلوبا منه أن يقطع نفسه إربا إربا، فيتخلص إربا منه من أجزائه الأخرى!

فهل أخطأنا حقا في حق مبارك، وأن ما يجري الآن هو بسبب تنكرنا للنعمة التي كنا نرفل فيها، فكانت النقمة عقوبة لنا على ذلك؟!

البعض يقارن بين مبارك والسيسي، وبين الأوضاع في عهد الرئيس الأسبق والحاكم الحالي، وبطبيعة الحال فإن المقارنة ليست لصالح الجنرال، ولو مع أي حاكم أو بديل آخر، ولو كان هذا الحاكم هو جمال عبد الناصر، ولو كان البديل هو جمال مبارك.. هذا أمر مفروغ منه!

قبل أن أهم بكتابة هذه السطور، طالعت خبرا يبشر بأن الجيش على وشك الانتهاء من إقامة مصنع لتجفيف البصل، هو بحكم ما جرت به العادة، الأول من نوعه، والأكبر على مستوى العالم، والأعظم في تاريخ المنطقة، فتذكرت على الفور مأساة مصنع تجفيف البصل بمحافظة سوهاج، وهي المأساة التي تعد جزءا من سياسات مبارك، الذي بدأ مرحلة الخصخصة، وباع أملاك الدولة بتراب الفلوس، ومصانع لم تكن تخسر، وكان سعر الأراضي المقامة عليها وحده أكبر من السعر الذي بيعت به، وهو ملف فساد ضخم، وتفريط كان يكفي لعزله ثم يعاد ثم يعزل، عقوبة على هذا التدمير الممنهج!

إن مصنع تجفيف إنتاج البصل في سوهاج كان مقاما على 17 فدانا، ويعمل فيه ثلاثة آلاف و580 عاملا، وأقامه عبد الناصر في سنة 1960، وكان أكبر مصنع في أفريقيا والشرق الأوسط، وكان كل نإتاجه يتم تصديره، بما في ذلك قشرة البصل التي كانت تصدر لعواصم أوروبية لصناعة العطور والمستحضرات الطبية، كما كانت تُستخدم قشور البصل علفا حيوانيا.

وهذا المصنع كان يصنع ويجفف 52 ألف طن بصل سنويا، ويسهم بنصيبه في توفير العملة الصعبة، لكن تم خصخصة الشركة المالكة له في سنة 1996، ثم بيع هو نفسه لمستثمر، بمخزون من البصل يزيد عن السعر الذي بيع به المصنع بثلاثة ملايين جنيه، وكان طبيعيا أن يتم الإعلان عن توقفه تماما عن الإنتاج في 2008، الأمر نفسه الذي حدث لكثير من شركات القطاع العام التي بيعت لسماسرة الأراضي فلم يكن عين المشترين على الإنتاج وإنما على الأراضي، فمن المسؤول عن كل هذا الخراب؟!

إن هذا كان جانبا من سياسات مبارك غير المفهومة، ومع النقد لما أقدم عليه، واستدعى ترقية وزيرا لقطاع الأعمال ليكون رئيسا للحكومة، فلم يوضح الدروس المستفادة من سياساته هذه، ونأتي لبيت القصيد!

الفراغ السياسي:

فقد دمر مؤسسات البلد، فلم يجد من يسلمه الحكم إلا المجلس العسكري، والذي لم يكن مؤهلا لذلك. ولا يقولن أحد أن هذا من طبائع الأمور، فمن الخطأ أن مصر كانت في هذه الفترة تحكم حكما عسكريا، يجعل من الحكم اختصاصا للعسكر، فقد أنهى جمال عبد الناصر سيطرة الجيش على الحكم ومزاحمته له فيه منذ هزيمة 1967، ومع عام 1968 كان الجيش وأجهزته خارج الحكم تماما، وما فعله مبارك أن دشن حكما بوليسيا الكلمة العليا فيه لوزير الداخلية، ومن هنا كانت الكارثة!

فإن أقلقك أن تقوم الثورة، والرقم الوحيد الصحيح في المعادلة السياسية هم الإخوان المسلمون، فلا بد من العلم أن سياسة مبارك هي التي أنتجت هذا الاختلال!

لقد استلم مبارك الحكم ولدينا تجربة حزبية وليدة، ولم يكن الإخوان هم التيار الأقوى فيها، فقد كانت القوة لحزب الوفد، لكنه ترك السياسة ملفا أمنيا، ودمر الأمنُ الأحزابَ، وتولى الانشقاقات داخلها، وبدا غير مدرك للأمر وهو يقوم بين الحين والآخر بحملات أمنية على الإخوان، تعمل على تقويتهم، وجذب الشرعية لهم، وكان هدف الرئيس أن يستخدم قوتهم فزاعة للغرب، على النحو الذي حدث في الانتخابات البرلمانية في سنة 2005!

لقد كان نظام مبارك يحرق كل شخصية يتوسم فيها الناس خيرا، ويعمل على ضرب كل من له شعبية ولو كانت شعبية دينية، لا تصطدم بحكمه، حتى أنه كان يخاف من شعبية الجنائز، كما حدث عقب وفاة الشيخ الشعراوي، وفي جنازة فؤاد سراج الدين!

ثم استفز الناس بما جرى في سنة انتخابات 2010، عندما تولى أمرها مجموعة لا يحسنون تقدير الأمور برئاسة نجله، وعضوية أحمد عز، وكانت أداة التنفيذ فيها هو وزير الداخلية حبيب العادلي، فأيقن الناس أن باب التغيير ولو الشكلي منه مغلق بالضبة والمفتاح، فأين يذهب الناس، إلا إذا كان يتم النظر للبشر على أنهم قطعان، ماذا يضرهم إذا أكلوا وشربوا، حتى لو كان أكلا بالسم الهاري، وطعاما استخدمت فيه المبيدات المسرطنة؟

البديل بدون الثورة:

لا بأس، فماذا لو لم تقم الثورة على مبارك، واستمر في الحكم؟ فأعتقد أن هذا لن يقدم ولن يؤخر في نهاية أجله، فكيف كان سيتم ملء الفراغ في بلد بلا مؤسسات، وبدون حياة سياسية سليمة، وليس هناك سوى الإخوان الذي يعتمدون على شرعيتهم في الشارع، والجيش بحكم امتلاكه للقوة المميتة؟! مع الملاحظة، أن مبارك وإن كان قادرا على توريث الحكم في حياته، ولا أظنه كان راغبا في ذلك، فلن يكون التوريث ممكنا بعد وفاته، فماذا سيحدث إزاء هذا الفراغ، وتدمير الحياة السياسية بواسطة الحكم البوليسي الذي تأسس في عهده؟!

لقد مكنت الثورة الشعب ليختار حاكمه لأول مرة في تاريخه، وقد اختارت الأغلبية الرئيس محمد مرسي، فماذا لو تم دعم هذه التجربة، وكانت نهاية حكم الرجل في 2018، إذا فاز لدورة ثانية، وقد صبرنا على مبارك ثلاثين سنة، فتسلم دولة من السادات ليسلمها أنقاض دولة، فليس فيها بديل سوى الإخوان والجيش، واحد بالصندوق والثاني بالسلاح؟!

إن من العبث القول إن ما يحدث الآن هو ذنب مبارك، والصحيح أنه ذنب الرئيس محمد مرسي، والذين خرجوا عليه يبغونها عوجا، وهم الذين سلموا بغبائهم الحكم إلى الوضع الحالي، وكانوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا.

استقيموا يرحمكم الله!

x.com/selimazouz1

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الانقلاب مصر مبارك فساد مرسي مصر انقلاب مرسي مبارك فساد مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة تفاعلي سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة دولة مبارک عبد الناصر فی سنة لم یکن

إقرأ أيضاً:

لحظات فاصلة في تجديد الخطاب الديني.. مشاتل التغيير (15)

تكشف متابعة "الخطاب الديني" عبر قرنين، في الأمة العربية والإسلامية عامة، عن عدد من المحدِّدات أو العوامل التي أسهمت في كل مرة -بدرجات متفاوتة- في منح هذا الخطاب خصائصه وشاكلته التي تبدّى عليها، ويمكننا من متابعة هذا التطور اكتشافُ بعض نقاطٍ فاصلة واصلة؛ نقاطِ جدال ثقافي وسجال فكري، تبلورت فيها ألوانُ الخطاب الديني: مرجعياته ومنطلقاته، ومنهجيات احتجاجه وآليات منازعته، وقابلياته ومكناته.. الأمر الذي يمكن ترتيبه حسب معيارين: أحدهما يتعلق بمجال الخطاب؛ وهو القضايا محل السجال ومحل إنتاج الخطاب وإعادة إنتاجه، والآخر يتعلق بالتطور التاريخي الواصل؛ وهو التطور التاريخي ومحطاته المتكررة أو المتجددة. ويمكن تبيُّن ثلاثة أنماط من اللحظات التاريخية الموضوعية في هذا الصدد:

- اللحظات الفارقة: وهي التي تمثل العُقد الأساسية في تطور قرنين من الزمان، واللذين يبدآن بلحظة فارقة مهمة تتمثل في الحملة الفرنسية على مصر والشام؛ يتوالى على إثرها عدد آخر من اللحظات الفرقانية التي تفرق بين ماضٍ وآتٍ، وبين موروث ووافد، وبين مقاوم ممانع من جهة ومساير متابع من جهة أخرى، ولعل أهمها اللحظة التحديثية، ولحظة الحملة الإنجليزية، واللحظة التغريبية في منعطف القرن العشرين، ولحظات الاستقلال المنقوص والقاصر للدولة العربية التي نشأت مشوهة ومشوشة، حتى لحظة الحملة الأمريكية مجددا التي تجلت في مواقف عدة؛ أعلاها اللحظة النماذجية التي يمثلها ترامب وسياساته.

اللحظة الفارقة تحث الذهن على أن يفرق ولا يغرق ولا تلتبس عليه الأمور؛ أن يقوم بعملية فرقان؛ كحالة من البيان الحق الواضح بلا اشتباه، لحظة فرقان تؤدي إلى فائدة وعي "الكيان"؛ الوعي بالذات وبحال الوهن والضعف المستولي عليها، والوعي بالمكنات والإمكانيات التي تقدمها الذات الحضارية لإعادة مياه الحياة إلى مجاريها (اللحظة النابليونية). إن اللحظة الفارقة تولد مفارقاتٍ وتصنع مفارق طرق رئيسة.

متابعة تطور وتجدد الخطاب الديني هو عبرة القرنين وخبرة التفارق والتدافع بين مشروعات العلمانيين ومشروعات الإسلاميين باسم التجديد.. ذلك في إطار عملية "تجديد الأمة" لا مجرد "تجديد الخطاب الديني" فقط على نحو ما يراد لنا ضمن الحملة الأمريكية الراهنة على الأمة، فلا بد من السؤال الصحيح قبل الجواب الصحيح.. لا بد من الخطاب الذي يحقق الوعي بالحقائق: يحقق ميلاد مجتمع يتواصل مع أصول وسنن أمة السفينة وسفينة الأمة
- اللحظات الكاشفة: وهي اللحظات الكاشفة لطبيعة القضية نفسها داخل التطور الزمني والموضوعي للخطاب، يتم فيها تتبع التطور أو التجديد في الخطاب والفكر والأداء داخل القضية الواحدة، أثناء اللحظات الفارقة وفيما بينها. فليس معنى "التطور" أن نتمادى وراء المتابعة الزمنية للقضية، ولكن ينبغي أن نقف أيضا عند لحظات كاشفة تتميز فيها الخطوط الفكرية والتوجهات التجديدية بقدرٍ قلما يتكشف في التطور التالي بعد تلك اللحظات الكاشفة. وبالطبع، يستحيل في حدود هذا المقام المضيّق أن نستقصي كل هذه اللحظات؛ والنسب في هذا المقام الوقوف عند بعض اللحظات الأكثر "كشفا".

- اللحظة المقوّمة: وهي اللحظة التي تتبدى فيها استجابات الخطاب النابع المعبِّر عن الذات تجاه الخطاب المقتحم، وتجاه الخطاب التابع، وهي لحظة تدخلنا في ثلاث قضايا مهمة أو ثلاثة أنماط أطرا لمواجهة الخطاب التغريبـي:

أ- الأطر الناقدة للأفكارِ التابعة الوافدة من نسق معرفي وافد: تعيب غيرها ولا تبني نفسها.

ب- الأطر الدفاعية المقتصرة على الدفاع عن الرؤية التجديدية الذاتية ولا تنتج تجديدا.

ج- الأطر البنائية للرؤية الإسلامية التجديدية، أو على الأقل الأطر البيانية المبيِّنة لهذه الرؤية (الرؤية البيانية البانية).

والمقصود في هذا المقام أساسا هي الرؤية البنائية، والتي في إطارها فقط يمكن قبول الرؤيتين "الناقدة" و"الدفاعية" إذا عملتا في الإطار البنائي، ولا يمكن قبول الرؤيتين الأخيرتين أو الاكتفاء بهما إلا في ظل هذه الرؤية البنائية، أو على الأقل في إطار عملية البيان. إن هذه اللحظات -خاصة المقوِّمة- تمثل الأعمدة لبناء سقف التجديد في الخطاب وتوجهاته، التي تمكننا من أن نستخلص مجموعة "السنن الحاكمة/القوانين المسيِّرة" للخطاب الديني وعمليات تجديده، حيث تتوفر ثلاثة مستويات أو خرائط في هذا الصدد:

أ- خريطة رصد الاتجاهات العامة التي تتفارق وتتفتق عنها اللحظات الفارقة الكبرى.

ب- خريطة الاتجاهات لكل قضية، والتي تكشف فيها درجات تمثل كل اتجاه لمقولاته ومبادئه وحفاظه عليها وسعيه لتفعيلها وإقرارها.

ج- الخريطة المتشابكة الجامعة للقضايا وللتوجهات حولها (الخريطة الشبكية، شبكة الخطاب).

وفي مسار البحث البصير عن الأطر البنائية والبيانية، يلاحظ أنه كانت هناك محاولات لإبرازها عبر الأزمات التي مر بها الخطاب الديني.. لكنها لم تكن بالمستوى الذي يسمح لها أن تُحدث حالة من حالات التكافؤ مع الأزمة.. هذه المحاولات قد تُحدث نوعا من الوعي، ولكنه محدود.. وقد تُحدث نوعا من السعي؛ لكنه مؤقت..

لقد أبرزت اللحظات الفارقة افتراقا بين توجهين أساسين تجاه القضايا والأزمات المختلفة التي عبر عنها تطور الخطاب الديني في الأمة عبر قرنين:

- التوجه العلماني التغريبي الحداثي: بين الإدبار عن الذات والبحث عنها في الآخر.

- التوجه الديني الإسلامي التأصيلي: أزمة المسلمين، والتجديد القاصر والقصير والمقصور.

هذه هي الإشكالية التي لا تريد أن تنفضَّ حتى الآن لغلبة الجانب النقدي أو الدفاعي على حساب الجانب البياني والبنائي في الرؤية التجديدية الإسلامية وخطابها.

من هنا نأتي إلى السؤال الشامل للأطر الثلاثة (البنائي/ الدفاعي/ النقدي) وهو: على أي أرض نقف: تجديد الخطاب الديني، مفرق الطرق يعود مع الحملة الأمريكية المستجدة؟

إن متابعة تطور وتجدد الخطاب الديني هو عبرة القرنين وخبرة التفارق والتدافع بين مشروعات العلمانيين ومشروعات الإسلاميين باسم التجديد.. ذلك في إطار عملية "تجديد الأمة" لا مجرد "تجديد الخطاب الديني" فقط على نحو ما يراد لنا ضمن الحملة الأمريكية الراهنة على الأمة، فلا بد من السؤال الصحيح قبل الجواب الصحيح.. لا بد من الخطاب الذي يحقق الوعي بالحقائق: يحقق ميلاد مجتمع يتواصل مع أصول وسنن أمة السفينة وسفينة الأمة.. إن تجزيء المسألة بالوقوف عند الخطاب دون الأمة، وبالوقوف عند القضايا فرادى يتامى لا رحم لها ولا أم ولا أمة، إنما هو خضوع للمعايير الأمريكية.

دراسة الخطاب الديني وتجديده والتي تفتتح متابعتها بدءا من الحملة الفرنسية، وتتوسط سبيلها حملة إنجليزية، تنتهي بالحملة الأمريكية مجددا: مفترق طرق وافتراق في الأدوات والأساليب.. ومن هنا نتساءل:

هل سنجدد الخطاب الديني تحت أزيز الطائرات الأمريكية والحضور العسكري اللافت؟ ومن سيجدده: هل هم هؤلاء الذين يتواردون الواحد تلو الآخر على "المذبح الأمريكي" أو ينبطحون في معيته وأمام سياساته؟

إن الأمر في حقيقته لا يمكن إلا أن يستحث الوعي والسعي لاستحداث خطاب ديني يقوم على قاعدة من الممانعة والمواجهة والمقاومة، وهكذا يكون الخطاب الديني لأمة المسلمين. إن خطاب الإقصاء أو الإخصاء أو "الإسلام منزوع الفتيل" لم يعد له مكان داخل سياج جوانتانامو الكونية الأمريكية.. فإن ذلك مما لا يعد تجديدا، بل تبديدا ونكوصا؛ فننتقل بذلك من خطاب إحياء الأمة وبعثها إلى خطاب تهدئة الخواطر وتهرئة الخمائر أو تهيئة الأرضية لاستقبال القادم، فإنه قد يتبدى أن من الواجب علميا وعمليا التركيز على عدد من الأسئلة:

- ما دور السياق الإقليمي والعالمي ووعي المفكرين المسلمين به، في تحديد خصائص خطابهم الديني، وفي تطورات سجالات تياراتهم حول تجديد الفكر أو إصلاحه؟

- ما هي أنماط هذه السياقات؟ وأنماط الاستجابة لها عبر هذين القرنين؟ بمعنى كيف كان للاقتراب الغربي المطّرد -عبر القرنين- من عالم المسلمين: من الالتفاف إلى الاحتلال، آثاره في خصائص هذا الخطاب وسجالاته؟ وكيف كان للاقتراب المصري كذلك من الغرب: انتباها (الحملة الفرنسية)، ثم مشاهدة (البعثات) ثم التقاء واصطداما (الموجة الاستخرابية) آثارها ومآلاتها؟

- ما أهم القضايا التي أثيرت ضمن "الخطاب الديني" عبر القرن؟ وما المرجعيات التي تساجلت حولها؟ وما مناهج إنتاج الخطاب في كل مرجعية؟ وكيف تطورت كل هذه المحددات للخطاب؟

هذه أسئلة رئيسية دونها أسئلة كثيرة، لكن ما ينبغي التوكيدُ عليه هو أن المناط التاريخي والموضوعي الجامع والمعلِّل للتطور الذي حاق بالمسألة التجديدية عامة وبالتجديد في الخطاب الديني بخاصة، هو أن هذا التجديد جاء متأثرا بالاحتكاك الحضاري الذي وقع بين عالم المسلمين والغرب؛ حيث صار ثمة تحدٍّ حضاريُُّ مفروض وماثل للعيان ومتصاعد الوطأة مع الزمن، خاصة أن هذا الالتقاء جاء على حينِ انكسارة وترهل في الذات الحضارية، لم تكن عناصر التجدد الذاتي تعمل بنفس كفاءتها المعتادة، كانت مفاتيح التجدد والمواجهة قد علاها صدأٌ ثقيل، وخصائص الذات غير متميزة بوضوح، اللهم إلا عند نفر قليل عزَّ ظهورهم، وكُبّل سعيهم بوطأة الحال وتفشي الوهن في القوم وسراتهم.

لقد كان سبيل التجديد بين خيارين:

- إما الالتفات إلى الذات وأمرها، وفق قواعد التجدد الذاتي الحضاري الإسلامي؛ بالتفتيش عن مصادر الوهن، وتلمس مفاتيح التجدد النابع، فيكون الصحو من الغفلة، والنهوض من الرقدة، والمضي قدما في سبل الكرامة والتقدم بعد المكوث في الذيل والذل.

- وإما الالتفات بانبهار ووله وولع إلى الآخر بمنطق المغلوبية والولع بالغالب (وفق السُّنة التي كشف عنها ابن خلدون)، وإدارة الظهر للذات وأمارات العزة والاعتزاز فيها، فيكون التغرب والتغريب، والغرق في الآخر والتبعية له.

إن سؤال النهضة المسموم وضع التيار النابع من الذات أمام خيارات غير موائمة: بين العودة إلى الذات والبحث فيها عن ماكينات التجدد والممانعة والمقاومة والنهوض، ولكن مع الوقوع في فخ الانغلاق والانكفاء بعيدا عن العصر، وبين الاختيار المضاد؛ كل ذلك لغيبة الوعي بأصول المواجهة الحضارية الجامعة بين الوعي بالذات واستبانة سبيل الآخرين
إن ناظم المسألة ومناطها هو الوعي بـ"عناصر التجدد الحضاري الذاتي"، والسعي بها في البحث عن مخرج من المأزق الحضاري الذي فرضه الاحتكاك بالآخر. إن جوهر الأزمة -كما كشف عنه مسار التجديد عبر قرنين- تمركز في "مناهج التفكير ومناهج التدبير ومناهج التغيير"، وأن بعض الذين أبدوا استعدادا لتلمس هذه المناهج والعناصر التجديدية قدموا جهودهم ومحاولاتهم؛ إما على نحو "لا يكفي" وإما على نحو "لا يكافئ" المستويات التي كانت أزمة الأمة قد بلغتها.

من هنا يمكن تضمين قضايا القرنين -بل كذلك القضايا التي ستجدُّ من بعد- في هذا الإطار: ضرورة وضوح رؤية إسلامية (حضارية ذاتية) شاملة لعناصر التجدُّد الحضاري الذاتي ومرجعيته والسنن الحاكمة له، وضرورة الجمع بين الوعي العميق بها، والسعي سعيا غير قاصر ولا جزئيا ولا ذا علة بما يتبدى في البنية التقويمية للخطاب الديني وأطره. إننا بهذا نقف بين تجديد حقيقي قوامه الذات الحضارية ومكنات التجدد فيها، وتجديد زائف على قاعدة من استبدال الأسس الحضارية للأمة، والرضاء بموقف الذيلية تجاه الآخر (الغرب).

التجديد النابع لم يكمل متسلسلة أسئلته من جهة، ولم يواجه واقعه بالوسائل المكافئة من جهة أخرى، فظل يتعامل مع القضايا إما تجزيئيا أو كردِّ فعل، ولم يلتفت إلى أن فضيلة المنظومة الإسلامية الأساس إنما هي في منظوميتها ووحدتها كنسيج لا ينقض غزله وهو على حاله؛ ومن ثم لم يكن ممكنا تناول القضايا المنبثقة عبر المسير بعيدا عن نسيجها الحضاري المتماسك. هذا الإغفال -أو هذه الغفلة- كان مجالا للخطاب التابع ليعيد تسكين القضايا في أطر الآخر وبعيدا عن الذات.

إن سؤال النهضة المسموم وضع التيار النابع من الذات أمام خيارات غير موائمة: بين العودة إلى الذات والبحث فيها عن ماكينات التجدد والممانعة والمقاومة والنهوض، ولكن مع الوقوع في فخ الانغلاق والانكفاء بعيدا عن العصر، وبين الاختيار المضاد؛ كل ذلك لغيبة الوعي بأصول المواجهة الحضارية الجامعة بين الوعي بالذات واستبانة سبيل الآخرين.

لقد عبرت مسيرة القرنين أو يزيد؛ عن حالة من الاشتباك على مائدة قضايا واحدة، لكن بين صفين أو شبكتين من المفاهيم: بين من أراد أن يداوي أزمة الواقع لكن من صيدلية الغرب والهجرة عبر المكان، ومن أراد أن يصنع أدوية الواقع المعتل من خلال الهجرة عبر الزمان. إن هذا يذكرنا بالمقولة الذهبية لابن القيم للجمع بين نوعي الوعي أو الفقه: "الفقه فقهان: فقه في الأمور الكلية، وفقه في الحوادث الجزئية، ولا بد أن نعطي الواجب حقه من الواقع، والواقع حقه من الواجب"، وهذا ما لم يفعله الفريقان إما كليا وإما جزئيا. حديث الخطاب الديني وعمليات تجديده هي في قلب تلمس طريق النهوض ومسالك الإصلاح ومشاتل التغيير.

x.com/Saif_abdelfatah

مقالات مشابهة

  • فرصة أخيرة قبل التصعيد الشامل في غزة.. مبادرات تهدئة وضغوط دولية
  • رسالة أخيرة من أم تحتضر تكشف هوية قاتلها
  • البث الإسرائيلية: منح فرصة أخيرة للتفاوض قبل توسيع العملية العسكرية في غزة
  • اجتماع لندن: ترامب يمنح أوكرانيا "فرصة أخيرة" ويقدم مقترحا لحل النزاع فما هو؟
  • الفريق الركن د. مبارك كوتي كجو كمتور: ابن الشهيد، رمز الانضباط، والأسير الذي أرادوه شاهد زور
  • الزمالك يُهدّد زيزو بالتصعيد ويمنحه فرصة أخيرة | تفاصيل
  • لحظات فاصلة في تجديد الخطاب الديني.. مشاتل التغيير (15)
  • الكابينت يبحث مستقبل العمليات العسكرية بغزة وتحديد مهلة أخيرة للمفاوضات
  • نهاية عصر الباباوين: حدث نادر عن مستقيل وآخر قاد التغيير
  • منصور بن زايد يشهد الاجتماع الأول للجنة التعاون الاستثماري بين الإمارات والصين الذي عقد عبر الاتصال المرئي