إفريقيا بلاد الموز والعاج والانقلابات العسكرية.. قراءة في كتاب
تاريخ النشر: 28th, October 2024 GMT
الكتاب: الانقلابات في القارة الإفريقية
الكاتب: كتاب جماعي، الإشراف العام والتنسيق د. شيماء سمير محمد حسين
الناشر:المركز الديمقراطي العربي للدراسات الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية،ط 1، برلين ـ ألمانيا، 2024.
عدد الصفحات: 2017 صفحة.
ـ 1 ـ
بعض الأرقام حول الانقلابات في القارة السمراء تصيبنا بالدهشة فعلا.
وتشهد "هذه الظاهرة" توهّجها من جديد هذه الأيام. فعلى مدار السنوات الثلاثة الماضية (من أغسطس 2020 إلى أغسطس2023) شهدت إفريقيا 18 محاولة انقلاب عسكري، نجح منها 4. ولا بدّ أنّ المقاربات الجيو ـ سياسية تفسر ذلك.
إفريقيا تظل أرضا بكرا رغم كل ما تعرّضت له من النهب. وثرواتها وموادها الأولية التي يمكن أن تجعل شعوبها تعيش الرخاء، تحوّلت إلى لعنة بسبب السياسية الاستعمارية التقليدية المباشرة أو الحديثة التي تتم عبر وكلاء من أهل البلاد.الموضوع حارق إذن. والمفارقة هنا أنه غير المدروس كفاية حتى كأنه بات من المسلمات. فإفريقيا تنتج الانقلابات كما تنتج الموز والعاج. ومن هنا مأتى أهمية الكتاب الجماعي "الانقلابات في القارة الإفريقية" الذي نشره المركز الديمقراطي العربي للدراسات الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية ببرلين وأشرفت عليه الباحثة شيماء سمير محمد حسين ونسقت مواده. فهو يسلط حزمة من الضوء على منطقة معتّمة في التفكير السياسي.
ـ 2 ـ
بناء على ما تقدم كان هذا المؤلف مأخوذا بجملة من القضايا ذات الصلة. فعمل على دراسة حالات بعينها لدول من القارة شهدت انقلابات في أزمنة مختلفة. واتخذها نماذج للوقوف على أسبابها وتداعياتها على الشعوب. وتناول مواضيع متعدّدة. من ذلك مبحث "العسكريون والسلطة في غينيا كوناكري" للباحثة نهاد محمود أحمد أو "دوافع وتداعيات الانقلاب العسكري في بوركينا فاسو سبتمبر 2022" للباحثة جمانة الصياد أو "أثر الصراع السياسي على التنمية الاقتصادية في إثيوبيا خلال الفترة 1930 ـ 2019" للباحثة أمينة خالد إلياس مرسي أو "الانقلابات والتحولات الدولية والإقليمية وآثارها السلبية على ليبيا" للباحثة هناء عمر محمد كازوز.
وحاول أن يتجاوز البحوث الجزئية إلى دراسات تأليفية تبحث في الظاهرة في شمولها وعمومها. فدرس الظروف المختلفة التي تولّد ظاهرة الانقلابات، سواء على نحو مباشر أو غير مباشر واستشرف مستقبلها. فعمل على التنبؤ بالبؤر المرشّحة لهذه العدى في راهننا وتساءل عم مدى إسهام التنافس الدولي بين القوى الكبرى في تأجيج حمى الانقلابات العسكرية في القارة الإفريقية. ومن هذا الباب يطرح طبيعة التنافس بين القوى الكبرى ووجوه استخدامها للانقلابات لضمان تحقيق مصالحها الخاصة في دول القارة الإفريقية أو يبحث في العلاقة بين الانقلابات الفاشلة في دول القارة وتنامي ظاهرة التنظيمات الإرهابية والجماعات المسلحة. وهذا العامّ الشّامل ما حاولنا التركيز عليه في ورقتنا.
ـ 3 ـ
بديهي أن الانقلابات في القارة الإفريقية على صلة عميقة بالمستوى السياسي، من جهة الأسباب والمظاهر والنتائج. فتتعلّق الأسباب غالبا بتأمين الموارد والمعادن. فقد كانت إفريقيا تخضع لمستعمريْها القديمين فرنسا وبريطانيا قبل أن تتخلى الولايات المتحدة الأمريكية عن سياسة الانعزال بعد الحرب العالمية الثانية وتسعى إلى "تدارك زمنها الضائع". ولكن ما إن بدأ الأمر يستقر لها حتى ظهرت قوى دولية صاعدة أخرى من قبل الصين وروسيا وإيران لها استراتيجياتها ورهاناتها لتنافسها بدورها. وعليه مثّل تعارض مصالح الفاعلين الدوليين العامل الحاسم في دعم طرف على حساب طرف آخر من أجل الوصول إلى الحكم بغية تأمين مصالحهم.
ويتخذ الكتاب من بوركينا فاسو الغنية بالذهب أنموذجا لشرح المسألة. فتقليديا تخضع البلاد للهيمنة الفرنسية. ولكنّ دولا أخرى كانت تطمح دائما لوضع موطئ قدم في البلاد لنيل "حصتها من معادن البلاد". ولا بدّ لها من أطراف داخلية تساعدها في مسعاها. وهذا ما يفسّر عدد الانقلابات المهول. فقد بلغ عدد المحاولات التي أوصلت عسكريين إلى الحكم بالفعل ثمانية. وكان ذلك في الأعوام 1966 و 1980 و1987 و2003 و 2014 و2015و 2022 (جانفي) و 2022 (سبتمبر) فيما فشلت أربع محاولات أخرى في الأعوام 1983 و 1989 و 2003 و 2016. وكان آخر الانقلابات موجها ضدّ الهيمنة الفرنسية على نحو معلن ولكن تم تعويض وجودها بالوجود الروسي ممثلة في ذراعها العسكرية فاغنر.
وكان مبرّر من يدبّرون الانقلابات دائما هو "مقاومة الفساد السياسي" و"التصدي للدكتاتورية وغياب الديمقراطية" و"العمل على الإصلاح السياسي والاقتصادي". ولكن الواقع يؤكد أنها غالبا ما تكون انقلابات مدبرة لخدمة أجندات القوى الدولية الكبرى وإستراتيجياتها. ويمكن أن نتبيّن الأطراف المستفيدة من هذا الانقلاب أو ذاك والاطراف الخاسرة منها بالنظر إلى بيانات الدّول المساندة لمثل هذه الأعمال العسكرية أو المعارضة لها. وتكون قيم "الديمقراطية وحقوق الإنسان وضمان الحريات الفردية والجماعية" أو "التداول السلمي على السلطة" غطاءً أخلاقيا لهذه المواقف.
يقول الباحث نافع علي وهو يشرح هذه الأبعاد: "ومن خلال ما سبق، يمكن القول إنّ الانقلابات العسكرية في القارة الإفريقية، هي أداة لخدمة مصالح ونخب وسياسية واقتصادية داخلية معينة، أو مصالح وإستراتيجيات لقوى دولية خارجية".
ولهذه الانقلابات أسباب أخرى محرّكة. منها ضعف قوى المعارضة والمجتمع المدني التي تفرض أصحاب النفوذ من استغلال نفوذهم للانحراف بالسلطة. فيتراجع دور المؤسسات لصالح الممارسات الدكتاتورية، ويتّجه الحكّام إلى توريث السلطة إلى ذويهم. ومنها الصراعات والانقسامات العرقية، ومنها تفشي ظاهرة المحسوبية وغياب مفهوم المواطنة والولاء إلى انتماء أضيق من الوطن كالقبيلة أو العشيرة.
وبديهي أن المواطن الإفريقي من يدفع فاتورة التكالب على مقدرات بلاده. ففضلا عن ترسيخ ممارسة الديمقراطية الزائفة وتحويل قيمها وإجراءاتها إلى عملية شكلية وغرس الخناجر في خصرها تحت عنوان حمايتها ودعمها، تخلف هذه الانقلابات الآثار الجسيمة على الاقتصاد والتنمية وعلى الاستقرار الاجتماعي.
ـ 4 ـ
لا يمكن الفصل بين السياسي والاقتصادي. فإفريقيا تظل أرضا بكرا رغم كل ما تعرّضت له من النهب. وثرواتها وموادها الأولية التي يمكن أن تجعل شعوبها تعيش الرخاء، تحوّلت إلى لعنة بسبب السياسية الاستعمارية التقليدية المباشرة أو الحديثة التي تتم عبر وكلاء من أهل البلاد. ورغم أن أرضها تضم ما مقداره 12 في المائة من احتياطي النفط في العالم و 10 في المائة من احتياطي الغاز و 90 في المائة من البلاتن و40 في المائة من الألماس و 30 في المائة من الأورانيوم، ورغم أنّ هذه المعادن والمواد الأولية تستخدم في العقاقير والتكنولوجيا وفي الصناعات العسكرية المتطورة فإننا لا نجد أثرا لكل هذا الثراء في حياة شعوبها. وعلى العكس تماما جعلت منها مقدّراتها ميدانا للتنافس بين القوى الدولية الكبرى شأن الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وألمانيا وروسيا والصين.
يجد الكتاب في هذا التنافس وتصاعد وتيرة الانقلابات العسكرية صلة مباشرة. فهذه القوى دأبت على استغلال الضعف المؤسساتي في الدّول الإفريقية لفرض شروطها وكسب الحق في النّفاذ إلى هذه المقدّرات. بالمقابل، وحين لا تنال ما تريد لموقف وطني من الحكّام أو لتعملهم مع طرف آخر كان الأسبق في استمالتهم، تلجأ إلى القوّة ناعمة كانت أو صلبة. فيذكر الأثر ما حدث في بورندي 2015 على سبيل المثال. فقد منحت السلطات عقود الامتياز إلى الصين وروسيا على حساب القوى الغربية التقليدية التي تهيمن على إفريقيا. وكانت النتيجة أن اندلعت أزمة داخلية تدعمها هذه الأطراف الخارجية.
ـ 5 ـ
يقارن بين الصين والولايات المتّحدة لاعتمادهما لسياسات متباينة. فسلاح الصين هو القوة الناعمة. فلا تتدخّل في الشؤون الداخلية للدول وتعمل على عقد الاتفاقيات التي تستديم الاستفادة من الموارد الإفريقية بصرف النّظر عن الأنظمة القائمة. أما الولايات المتحدة الأمريكية التي لا ترى في إفريقيا غير خزان للموارد وتستغل عدم وعي المسؤولين بمقدرات بلدانهم أو هشاشة مواقفهم السياسية، فتدعم الدّول التي تحمي مصالحها الاقتصادية والجيو ـ سياسية بشكل استعراضي وتنشئ القواعد عسكرية لحماية مصالحها، وتخلق بؤرا للتوتر لبيع الأسلحة. أما فرنسا تعتمد على إرثها التاريخي وعلى ولاء النخب السياسية الفرونكفونية وارتباط مصالحهم بالثقافة الفرنسية.
يلاحظ محررو هذا الكتاب صلة وثيقة بين الانقلابات العسكرية في القارة الإفريقية وتزايد نشاط التنظيمات الإرهابية. فيجعلون من العلاقة بينهما موضوع دراسة تنتهي إلى أن هذه التنظيمات قد استطاعت التكيّف مع البيئة الإفريقية لاستغلال واقعها السياسي والأمني والاجتماعي وتوفير حواضن اجتماعية أو ملاذات آمنة.ـ 6 ـ
ويلاحظ محررو هذا الكتاب صلة وثيقة بين الانقلابات العسكرية في القارة الإفريقية وتزايد نشاط التنظيمات الإرهابية. فيجعلون من العلاقة بينهما موضوع دراسة تنتهي إلى أن هذه التنظيمات قد استطاعت التكيّف مع البيئة الإفريقية لاستغلال واقعها السياسي والأمني والاجتماعي وتوفير حواضن اجتماعية أو ملاذات آمنة. فأفادت من ضعف تأمين الحدود بسبب الانقلابات العسكرية وما يرافقها من صدامات أهلية وفراغ أمني. أو استغلت القدرات المحدودة لبعض الثكنات لمهاجمتها والحصول منها على العتاد (حدث ذلك في معسكرات إينتاتيس في النيجر وأنديلماني في مالي وكوتوغو في بوركينا فاسو) وكانت هذه التنظيمات تعرض فيديوهات توثق ذلك في إطار الدعاية والحرب النفسية، وأفادت من فساد النخب السياسية والقادة العسكريين. فقدمت الرشى لتسهيل تهريب السلاح وتمكين جهادييها من عبور الحدود بحرية.
وقد ثبت التورط المباشر لعناصر من الجيوش الإفريقية في التعاون مع التنظيمات الإرهابية. وبهذه الشبهة فصل الجيش البوركيني عام 2011 على سبيل المثال 566 فردا من عناصره. وكثيرا ما عقدت تحالفات مع بعض القبائل ووثقت علاقتها بها عبر المصاهرة. وووفرت لمجتمعاتها المحليةبعض المتطلبات وساعدتهم بطرق شتى مقابل توفير هذه الحاضنة.
ـ 7 ـ
ينتهي الكتاب إلى تقديم جملة من التوصيات في كل محور يطرقه. فيدعو إلى تعميم الثقافة السياسية التي تؤمن بالاختلاف السياسي وتعمل من أجل تنمية شاملة إفريقية ومستدامة. ويلح على تحييد المؤسسات العسكرية من العمل السياسي وعلى تأسيس العلاقات الإفريقية مع مختلف القوى الدولية على أساس الشراكات المتوازنة القائمة على منطق ربح كافة الأطراف، وليس علاقات أفرو دولية قائمة على الاستغلال غير المشروع الموارد القارة. لتكون القارة الإفريقية جزءا من النظام الدولي. ويوصي بتنشئة الإنسان الإفريقي ثقافيا وسياسيا على التداول السلمي الديمقراطي على السلطة والحكم، وليس عبر الانقلابات العسكرية.
ولكن، رغم جديّة البحوث لا يسعنا إلا أن نبدي جملة من الملاحظات حول الكتاب برمّته.
فالسؤال الذي يطرح هنا هو إلى من يتم توجيه هذه القائمة من التوصيات والأمر يتعلّق بعسكريين يغامرون بحمل السلاح في وجه السلطات التي يتلقون منها الأوامر في الأصل فيقامرون بحياتهم في سبيل الحكم؟
يذكر الكتاب 7 دول شهدت 9 انقلابات في السنوات القليلة الماضية، هي مالي والسودان وغينيا وبوركينا فاسو وتشاد والنيجر والغابون. ويشير إلى أنّ ستة منها هي مستعمرات فرنسية. هذا يعني أن الكتاب لا يصنف ما حدث في 25 جويلية 2021 في تونس بالانقلاب. ولا يشرح الباحث أ. أشرف عبد العزيز المدير العام السابق للشؤون السياسية بإذاعة صوت العرب، وصاحب هذا التصنيف إن كان السكوت عن الحالة التونسية عائدا إلى أنّ الأمر لا يتعلّق بوصل عسكريين إلى الحكم. من هذه الناحية يكون التبرير وجيها. ولكن الباحث لا يشرح وجهة نظره.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب نشره المانيا كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الانقلابات فی القارة التنظیمات الإرهابیة فی المائة من الد ول إلى أن
إقرأ أيضاً:
سمسار السلطة الكتاب الأكثر تأثيرا في تاريخ الولايات المتحدة
في مقال نُشر في مجلة فورين بوليسي، تناول أستاذ التاريخ والشؤون العامة بجامعة برينستون، البروفيسور جوليان زيليزر، بالتحليل كتاب "سمسار السلطة" للمؤلف والصحفي الأميركي روبرت كارو.
والكتاب الذي صدر قبل نصف قرن، وتحديدا في عام 1974، يغوص في سراديب السياسة الأميركية، ويمكن للناخبين أن يستلهموا منه الدروس والعبر قبيل الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات التي ستُجرى الأسبوع المقبل.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2مؤرخ إسرائيلي: غزة لم تعد موجودة وما يحدث فيها إبادة جماعيةlist 2 of 2إعلام إسرائيلي: نتنياهو يرفض وقف الحرب بغزة ويوافق على صفقة جزئيةend of listوفي سرد قصصي مثير للاهتمام، يأخذ كارو القراء في رحلة عبر حياة روبرت موزيس، البيروقراطي وصاحب النفوذ السياسي في نيويورك، الذي صعد إلى قمة السلطة السياسية واستخدم سلطته لإعادة تصميم المدينة والمناطق المحيطة بها، وغالبا ما كان ذلك على حساب العائلات العاملة التي وقفت في طريق طموحاته.
ووفقا لأستاذ التاريخ زيليزر في مقاله، فإن هذا الكتاب الشهير الحائز على جائزة بوليتزر في عام 1975، يقدم حتى اليوم درسا رئيسيا في السياسة.
أشاد به رؤساء أميركيونوقد أشاد رؤساء أميركيون بتأثير الكتاب على حياتهم المهنية. وعنه قال الرئيس السابق باراك أوباما -أثناء تقليده كارو "الوسام الوطني للعلوم الإنسانية"- "قرأت كتاب سمسار السلطة عندما كنت في الثانية والعشرين من عمري وكنت مفتونا به، وقد ساعدني بكل تأكيد في تشكيل طريقة نظرتي للسياسة".
ويتيح الكتاب للناخبين فرصة التأمل في التأثير العميق الذي يمكن أن تحدثه الشخصية الأخلاقية والمعنوية لمن يتولى السلطة، على حياة المواطنين.
وعلى الرغم من أن السِفر الذي كتبه كارو يركز على مسؤول من نيويورك لم يحصل على أي صوت، فإن الدروس المستفادة من حياة روبرت موزيس وثيقة الصلة للغاية بجميع مستويات الحكم، ويمكن حتى لرئيس الولايات المتحدة المقبل أن يستمد العبر منه.
روبرت كارو يخاطب الجمهور أثناء مناقشة لكتابه (سمسار السلطة) في 29 مارس/آذار 2013 في مدينة نيويورك (غيتي) جزء صادمويروي كارو في كتابه كيف أن موزيس تعمد بناء الجسور على طريق "ساوث ستيت باركواي" على مستوى منخفض جدا يحول دون استخدام العديد من ركاب الحافلات السود للطريق السريع، ومن ثم، حرمانهم من الوصول إلى الشواطئ.
وفي إشارة إلى هذه القصة التي اعتبرها زيليزر في مقاله أحد أكثر الأجزاء الصادمة في الكتاب، قال وزير النقل الأميركي بيت بوتيغيغ خلال مناقشة في عام 2021 حول تصميم الطرق السريعة "إذا بُني طريق سريع بغرض التفريق بين حي للبيض وآخر للسود، أو إذا أُنشئ ممر سفلي بحيث لا يمكن لحافلة تقل أطفالا معظمهم من السود والبورتوريكيين أن تمر به إلى الشاطئ.. فهذا يعكس بوضوح العنصرية التي تخللت خيارات تصميم تلك الطرق".
ويتتبع الكتاب، الذي استغرق تأليفه حوالي 7 سنوات، صعود موزيس إلى السلطة بتفاصيل دقيقة. فبعد إكمال تعليمه في جامعات ييل وأكسفورد وكولومبيا، انطلق موزيس -المولود في مدينة نيو هيفن بكونيتيكت، ونشأ في نيويورك- لتحقيق النجاح في عمله بحكومة مدينة وولاية نيويورك.
النزعة التقدمية الإصلاحيةلقد كان يطمح في البداية إلى تجسيد المُثُل العليا للنزعة التقدمية الداعية للإصلاح، وذلك من خلال دعم إنشاء وتوسيع المتنزهات الجميلة وإنشاء الطرق السريعة والجسور لتسهيل حركة الناس إلى مناطق أوسع في الولاية، وبناء المؤسسات الثقافية التاريخية والملاعب ومناطق الاستجمام على الشاطئ.
وبدأ موزيس حياته المهنية في عشرينيات وثلاثينيات القرن المنصرم حيث عمل في عدة وظائف في المدينة والولاية قبل أن يصبح رئيسا للجنة "لونغ آيلاند ستيت بارك" ورئيسا لمجلس ولاية نيويورك للمتنزهات.
وفي عام 1927، استغل فترة عمله لمدة عامين في عهد حاكم ولاية نيويورك آل سميث لتوسيع سلطته بسرعة باعتباره وزيرا لخارجية الولاية. وعلى مر العقود، كان موزيس يراكم الوظائف مستخدما دهاءه باستمرار لتوسيع سيطرته على حكومة الولاية.
انهيار مثاليته التقدمية
ومع مرور الزمن، انهارت مثالية موزيس التقدمية تحت وطأة اندفاعه الذي لا يرحم نحو السلطة. وبفضل رأسماله السياسي الهائل وتحكمه في أموال الحكومة، أصبح شخصا لا يمكن المساس به من الناحية العملية. ومع تعاقب الزعماء على منصبي العمدة والحاكم، ظل موزيس هو العنصر الثابت. ولما لم يكن يتعرض للمساءلة، تحول تعطشه الجامح للبناء إلى مأساة.
وقضى حبه للسيارات على إمكانيات النقل الجماعي، فيما نزحت مجتمعات بأكملها من العمال الأميركيين فقط ليتمكن من الاستيلاء على ممتلكات ثمينة لمشاريعه. وإذا وقف أحد في طريقه، يتحول إلى أداة هدم بشرية. وقال موزيس ذات مرة "إذا كانت الغاية لا تبرر الوسيلة، فماذا يُبرّرها؟".
وليس من المستغرب -برأي زيليزر- أن يصبح كتاب "سمسار السلطة" أحد أكثر الأعمال غير الروائية مبيعا، حيث بيع منه أكثر من 40 ألف نسخة في عام 2024 وحده.
ليست مفسدة مطلقةوفي السنوات التي تلت نشر الكتاب، حرص كارو على توضيح أن الطريقة التي استغل بها موزيس سلطته لم تكن قدرا محتوما حسب اعتقاده. وقال كارو إن "السلطة ليست مفسدة مطلقة. وما تفعله السلطة دائما هو الكشف (عن المستور)"، مضيفا أنه عندما يصبح المرء في موقع لم يعد يضطر معه إلى القلق، "عندها سترى ما كان ينوي فعله على الدوام".
وبهذا التمييز المهم، جادل كارو بأن السلطة السياسية يمكن أن تُستخدم للخير أو للشر. وبعبارة أخرى، فإن ما تكشفه حياة موزيس هو أن الأفراد ذوي التفكير المعتل يمكن أن يفسدوا السلطة السياسية التي عُهد بها إليهم. وهذا هو الأمر الذي يجب أن نبقى يقظين من أجله، وفق مقال فورين بوليسي.
الجدير بالثقةوفي هذه الانتخابات، وعلى الرغم من كل النقاشات التي تدور حول التضخم والهجرة والحقوق الإنجابية، فلعل السؤال الأكثر أهمية على الإطلاق، والذي يطرحه "سمسار السلطة" -برأي كاتب المقال- هو: من الذي يمكن للناخبين أن يثقوا به لتولي السلطة؟
واستعان كارو بشخصية موزيس في الغوص في سراديب السلطة السياسية وكيف يمكنها تقويض الديمقراطية عندما لا يخضع صاحب السلطة لرقابة الناخبين. لكن الأميركيين تعلموا أنه حتى التصويت لا يوفر نظاما آمنا يحميهم من القوى المعادية للديمقراطية.
ويُسقط أستاذ التاريخ في مقاله التحليلي قصة موزيس على الراهن السياسي في أميركا اليوم، مشيرا إلى أن هناك خلافات كثيرة حول ترشيح كامالا هاريس لمنصب الرئيس. لكنه يعتقد أيضا أن مصادر التوتر الرئيسية تميل إلى التركيز على أنماط السياسات التي تؤيدها ومدى مسؤوليتها عن الإخفاقات التي يدعي البعض أنها نتجت عن فترة ولاية الرئيس جو بايدن.
أما الحزب الجمهوري، فلم تكن هناك -خارج دوائره الأكثر تشددا- نقاشات واسعة حول ما إذا كان يمكن الوثوق بهاريس في تنفيذ المسؤوليات الأساسية للحكم.
مخاوف أثارها الكتابإن المخاوف التي أثارها "سمسار السلطة" تتعلق أكثر بالخيار الذي يواجهه الناخبون مع المرشح الجمهوري. فالرئيس السابق دونالد ترامب، الذي كان في قلب الجهود "الممنهجة" لإلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية السابقة لعام 2020، والذي استمر في الترويج لإنكار نتائجها، تعيد إلى الواجهة القضايا التي أثارها كارو في كتابه.
وبحسب ما ورد في المقال الذي نحن بصدده، فإن الأمر لا يقتصر على استمرار ترامب في تهديد النظام الانتخابي فحسب، بل إنه كان صريحا أيضا بشأن نيته التخلي عن جميع الحواجز عند ممارسة السلطة الرئاسية، بما في ذلك التهديدات التي أطلقها علنا باستخدام الجيش ضد أعدائه المحليين.
ويوجه زيليزر، في ختام مقاله، حديثه للناخبين الأميركيين قائلا إن عليهم أن يتذكروا -عند إدلائهم بأصواتهم عبر البريد أو في مراكز الاقتراع يوم الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل- الأثمان الباهظة التي ما انفك سكان نيويورك يدفعونها بسبب استغلال موزيس نفوذه وسلطته في الماضي.