في ذكرى العدوان الثلاثي على مصر.. المقاومة المفتاح السحري للنصر
تاريخ النشر: 28th, October 2024 GMT
"بسم الأمة.. .تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية.. .شركة مساهمة مصرية.. .وينتقل الى الدولة جميع ما لها من أموال وحقوق وما عليها من التزامات".
بضع كلمات خرجت من فم الزعيم الخالد جمال عبد الناصر في السادس والعشرين من يوليو عام 1956، كلمات غيرت وجه التاريخ، قضت على امبراطوريات، ورسمت خريطة عالم جديد، تلعب فيه الدول المستضعفة دورا محوريا، بعد أن كانت ترزح تحت نير الاحتلال، وبزغ نجم مصر عاليا رغم ما اصابها من عدوان بسبب تجرئها على المطالبة بحقوقها.
كان قرار التأميم من أهم أحداث القرن العشرين وفق العديد من الدراسات والمؤرخين، فقد انهى الى الأبد النفوذ البريطاني في العالم، ومحا ذكرى الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس وقلص نفوذها داخل حدودها تاركا المجال لقوى جديدة، وهو الأمر الذي أدركة صانع القرار في بريطانيا العظمى وقتها، وجهز جيشه متحالفا مع الكيان الصهيوني وفرنسا، للعدوان على مصر، في التاسع والعشرين من أكتوبر عام 1956، فهل تستسلم مصر؟ وهل نعود مرة أخرى الى الاحتلال الغاشم؟ وهل نترك حقوقنا المغتصبة؟ وكيف لنا أن نواجه قوة غاشمة من ثلاث دول اثنتين منها تصنفان دولتين عظميين بمقاييس ذلك الوقت؟
كلمة السر في المقاومة الشعبية، مدعومة بقوة الجيش والشرطة، حيث تحول الشعب عن بكرة ابيه الى شعلة مقاومة، وضربت بورسعيد وشعبها مثلا للتضحية والفداء، ونموذجا يدرس حتى الآن في المقاومة الشعبية التي دحرت محتلا غاشما مدججا بكافة الاسلحة، ومستخدما لأبشع أساليب التعذيب وحشية، فهل يستسلم الشعب؟ وكيف واجه أهل بورسعيد الابطال ومقاومته الباسلة العدوان الغاشم؟
يقول الدكتور أحمد الصاوي المفكر الناصري وأحد ابناء بورسعيد الباسلة: إن المقاومة الشعبية في بورسعيد إبان العدوان الثلاثي هي نموذج فريد لأعمال المقاومة التي تمزج بين المبادرات الشعبية والتنظيم الميداني لعناصر من ضباط الجيش المصري مع تعاون وثيق مع ضباط الشرطة، وشملت أعمال المقاومة تنظيم الكفاح السلمي ضد قوات الاحتلال، واعتمدت المقاومة الشعبية على تنظيم المتطوعين من المدنيين تحت قيادة من ضباط الجيش مع تنظيم خطوط الإمداد العسكري عبر بحيرة المنزلة، وكانت قيادة المقاومة الشعبية تتخذ من منزل آل الشاعر بقلب المدينة مقرا لها.
وأضاف الصاوي أن أبطال المقاومة الشعبية كلهم كانوا مواطنين عاديين تماما ولهم بطولات تدرس في تاريخ المقاومة الشعبية، مثل عملية اغتيال ويليامز ضابط الاستخبارات على يد الفتى السيد عسران ابن الثامنة عشرة، واختطاف مورهاوس الضابط الانجليزي، وكان للمرأة دور بارز في أعمال المقاومة وخاصة في نقل الأسلحة.
فمن هو الفدائي السيد محمد عسران؟
انه أحد نماذج المقاومة الشعبية التي سطرت باحرف من نور تاريخ هذا البلد، واعطت الأمل لكل مقاومة وأي مقاومة تم الاعتداء على ارضها، تجاهد لنيل حقوقها المسلوبة، مهما كان المحتل غاشما، ووحشيا، ودمويا.
تحكي الدكتورة آمال السيد عسران لـ"الأسبوع" ذكريات عن والدها البطل فتقول:
ولد السيد محمد عسران في ١٥ أبريل ۱۹۳۸م وجاء ترتيبه الثاني بين ستة أشقاء لأب صعيدي من قرية الحرزات مركز المنشأة بمحافظة سوهاج.
نزح جده عسران من صعيد مصر للعمل في بورسعيد بعد افتتاح قناة السويس، حيث أقام في أول شارع كسرى المتقاطع مع شارع محمد علي بداية الحد الفاصل بين حي العرب محل إقامة المصريين في بورسعيد وحي الإفرنج محل إقامة الجاليات الأجنبية بالمدينة. كان الجد يعمل كومندا ريس عمال لتشغيل عمال الفحم الذين يقومون بخدمة إمداد السفن بالفحم اللازم لتشغيلها وقتها. حيث يجتمع العمال على مقهى عسران في شارع كسرى وطولون، فيتم تكليفهم بالعمل أول اليوم ومحاسبتهم عليه في نفس المكان آخر اليوم.
وفي هذا المكان تفتحت عين الطفل السيد محمد عسران على مشاهد لقوات الإنجليز في طريقها من الميناء إلى معسكر الجولف، فتنشأ صدامات ومطاردات بينها وبين المصريين، وفي هذا المكان سمع عن المظاهرات التي كانت تنادي برحيل الاستعمار البريطاني عن مصر، وفي هذا المكان أيضا سمع عن بطولة الطفل نبيل منصور الذي استشهد بعد أن أشعل النيران في معسكر تمركز الإنجليز بمنطقة الجولف. سمع عن كثير من عمليات المقاومة على يد كتائب الفدائيين التي تم تشكيلها من كل محافظات مصر والتي أدت في النهاية لقبول الإنجليز استئناف المفاوضات التي انتهت بمعاهدة الجلاء في أكتوبر ١٩٥٤م، ثم إتمام الجلاء في ١٨ يونيو ١٩٥٦م.
كان السيد عسران قد تقدم للالتحاق بكتائب ومعسكرات الفدائيين ولكن طلبه رفض مرتين لضعف بنيته وصغر سنه، ولكنه كان يصر ويعاود الطلب للالتحاق إلى أن تم قبوله بالدفعة ١٨ ضمن تلك الكتائب، كتائب الحرس الوطني، وفيما عرف بلواء القناة، حيث جرى تدريبه على أعمال القتال ثم رحل مع هذا اللواء إلى غزة حيث خطوط الهدنة مع إسرائيل، وكان ذلك في مايو ١٩٥٦م، وهناك سمع عن جلاء آخر جندي بريطاني من منطقة القناة ومصر في ١٨ يونيو ١٩٥٦م، ثم سمع عن تأميم القناة في ٢٦ يوليو ١٩٥٦م.
أتم السيد عسران مدة معسكره التدريبي في غزة وكانت ستة أشهر تقريبا، وفي ٢٧ أكتوبر ١٩٥٦م عاد إلى بورسعيد، قبل أيام من العدوان الثلاثي على مصر واجتياح إسرائيل لسيناء نهاية أكتوبر من نفس العام.
مع إرهاصات العدوان الأولى أرسلت القيادة إلى بورسعيد قطارا يحمل أسلحة، تم توزيعها على أهالي المدينة ليدافعوا عن مدينتهم، فحصل منها على صندوقين من قنابل مايلز ٣٦.
في ٢٩ أكتوبر ١٩٥٦م بدأ القصف الجوي على بورسعيد واستحالت المدينة إلى نيران مشتعلة وتم تهجير كثير من النساء والأطفال عبر بحيرة المنزلة. ثم جرت عملية الإنزالات الجوية في ٥ و ٦ نوفمبر على مدينة بورفؤاد ومنطقة الجميل ومنطقة الرسوة، وتبعها اجتياح المدينة في 7 نوفمبر ودخول المدرعات والدبابات من ناحية البحر إلى شارع محمد علي وتحت جنازيرها استشهد شقيقه الأكبر عسران محمد عسران مع الكثير ممن خرجوا لملاقاتها، فاختلطت عظام الشهداء بلحمهم والتصقت بأسفلت الشارع. ولم يعلم الوالد باستشهاد ابنه الكبير وظن أنه متغيب في مكان ما أو هاجر مع من هاجروا إلى المنزلة في ظل ما حدث في المدينة من فوضى. وقد أثرت تلك الحادثة في السيد عسران وكانت حافزا إضافيا للانتقام من عدوه.
استخدم الفدائي السيد عسران قنابل المايلز في أكثر من عملية، كانت أولاها ضربه لدورية عند تقاطع شارعي ۱۰۰ ومحمد علي بعدما تظاهر بجمع القمامة من الشارع واقتنص فرصة مرور دورية إنجليزية واستهدفها فأثارت حالة من الارتباك والرعب بين الجنود.
أما العملية الثانية فكانت بالاتفاق مع اثنين من أصدقائه أحضرا بعض الهدايا مثل العقود والحلي المقلدة وصور السيدة مريم العذراء، وذهبوا بالدراجات عند مدرسة البون باستير (الراعي الصالح) حيث يقيم الجنود الفرنسيون، وبدأوا عرض البضاعة في الوقت الذي قام فيه عسران بقذف قنبلة نحو الجنود المطلين من الشبابيك، ولكن أحدهم استطاع صدها فلم تصب أحدا، وفروا هاربين بدراجاتهم، وكان من نتائج تلك المحاولة أن قام الإنجليز بجمع كل الدراجات وهرسها بالدبابات ومنعوا ركوبها.
وفي محاولة أخرى بعد أربعة أيام من المحاولة السابقة استهدف فرقة كانت تعمل على مد الأسلاك الشائكة بطول شارع محمد علي للحد من تسلل أفراد المقاومة إلى حي الإفرنج وتنفيذ عمليات، وعند وصول تلك الفرقة لتقاطع شارع كسرى مع شارع محمد علي، أحضر الفدائي السيد عسران قنبلة واختبأ ودحرجها على الأسفلت بعد أن نزع فتيلها، لتصيب بعض العاملين بالفرقة، في حين فر سريعا إلى منزله في شارع طولون والبنا، وقامت الدوريات الإنجليزية على الفور بتطويق المكان وتفتيش البيوت، والقبض على الشباب من سنه، ولكنه خرج من نافذة غرفته وتشبث بماسورة بالمنور وظل معلقا بها نحو ما يقرب من ساعة حتى انتهت عملية التمشيط. وكان من نتائج تلك العملية أن تم القبض على كثير من الشباب واقتيادهم إلى ساحة النادي المصري واحتجازهم لمدة أسبوع.
ولكن العملية التي اشتهر بها الفدائي السيد عسران كانت عملية اغتيال مدير المخابرات البريطانية الميجور ويليامز، الذي خدم في منطقة القناة ما يقرب من ٢٥ سنة قبل الجلاء وكان يجيد العربية وشرسا في تعامله مع الفدائيين.
كانت البداية يوم ١٣ ديسمبر حيث جاءه محمد حمد الله، كبير المجموعة التي قامت بخطف الضابط الانجليزي انطوني مورهاوس، وطلب منه قطعة سلاح، وأخبره أن ويليامز عثر على السيارة ٥٧ قنال والتي تمت بها العملية وأنه اقترب من الوصول للفدائي علي زنجير سائق السيارة وباقي المجموعة، فبدأ السيد عسران - وكان عمره وقتها ۱۸ عاما يفكر في طريقة للخلاص من ويليامز وإنقاذ الفدائيين.
صبيحة يوم ١٤ ديسمبر ١٩٥٦ م أحضر رغيف خبز من الفرن المقابل لبيته ووضع داخله قنبلة وأخفاها بحيث يبدو الرغيف وكأنه ساندويتش وفير الحشو، وبدأ يتظاهر بالأكل ماراً بالدوريات وهو في طريقه إلى إدارة المرور حيث علم أن ويليامز سيكون هناك لاستجواب السائقين الذين تم القبض عليهم للاشتباه وهناك عند إدارة المرور في تقاطع شارعي صفية زغلول وصلاح سالم، كان ويليامز موجوداً بالفعل ولكن البطل تردد في تنفيذ العملية في هذا المكان لأنه متسع جدا وسيكون الهروب مهمة صعبة، والأهم هو احتمالية إصابة الكثير ممن حضروا للاطمئنان على ذويهم المقبوض عليهم، في أثناء التفكير خرج ويليامز بسيارته مسرعا، مما أحزن عسران فوات الفرصة، فقرر التوجه بالقنبلة لأي دورية وضربها، ولكنه سار في اتجاه مبنى المباحث الجنائية في شارعي رمسيس والنهضة، وكانت المفاجأة أن وجد سيارة ويليامز تقف قبالة المبنى، فوقف تحت شجرة ناصية محلات أمين ندا ينتظر خروجه متظاهرا بقصم الخبز من وقت لآخر، وبعد قليل ظهر ويليامز خارجا وركب سيارته التي بدأت في التحرك اتجه نحوها عسران وأشار لويليامز بورقة صغيرة في يده وكأنه يريد أن يعطيها له، ظن الرجل بحسه الأمني أن بالورقة معلومات تدله على خاطفي مورهاوس خاصة بعد رصده مكافآت لمن يدلي بمعلومات عن منفذي العمليات الفدائية ومد يده يلتقط الورقة ولكن عسران تعمد أن يسقطها داخل السيارة فانحنى ويليامز لالتقاطها وفي تلك اللحظة نزع عسران فتيل قنبلته وألقاها داخل السيارة وأسلم ساقيه للريح. وهناك في بيت والده كان قد سبقه المخبر حسين القطشة ابن شارعه والذي كان يخدم بمبنى المباحث الجنائية وشاهد العملية وأسرع يخبر ويحذر والده، ولكن البطل آثر في تلك اللحظة أن يخبر والده باستشهاد أخيه الذي كان لا يعرف سر تغيبه، وأخبره أنه فعل ذلك ثاراً له ولمن مثله من شعب بورسعيد.
كان من نتائج هذه العملية أن تم رفع حظر التجوال عن المدينة وانسحب جنود العدوان من حي العرب والمناخ إلى حي الإفرنج، وأعيد فتح المحال وعادت الحركة إلى الشوارع. وقد أشعلت العملية حماسة الفدائيين وساهمت في التعجيل برحيل العدوان.. .
لم تنقطع صلة الفدائي بالعمل الوطني بعد رحيل العدوان، ولكنه ظل طوال عمره على ثغر من الوطن، فتطوع أثناء ١٩٦٧م وظل بالمدينة ورفض التهجير حاملاً هم الوطن حتى كان النصر في ۱۹۷۳م، واستمرت مقاومته بالكلمة، فقد كان زجالاً وشاعراً، ساهم بالكلمة والموقف في كل ما مر ببورسعيد ومصر، مسانداً قضايا العروبة حتى لاقي ربه في 5 أبريل ٢٠٠٤ م تاركاً خلفه ثلاثة أبناء وثمانية أحفاد وأجيال تعلمت على يديه الوطنية وحفظت له مكانته.
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: العدوان الثلاثي ذكرى العدوان الثلاثي المقاومة الشعبیة شارع محمد علی فی هذا المکان سمع عن
إقرأ أيضاً:
في ذكرى الشاعر خليل فرح
في ذكرى الشاعر خليل فرح
تاج السر عثمان بابو
في 30/ 6/ 1932م توقف قلب كبير عن الخفقان، توفى خليل فرح الذي كان نزيلا بمستشفى النهر بالخرطوم، بعد أن ادركته علة الرئة (السل)، تلك العلة التي قال عنها الخليل: (علتى وهى علتى قصة الناس في البلد).
والواقع، عندما نتحدث عن الاغنية السودانية الحديثة وروادها يقفز الى الذهن خليل فرح، انه كان مبدعا ومجددا حقيقيا في الأغنية السودانية، وقد صدرت في سيرة الخليل عدة كتب نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
– نقوش على قبر الخليل، للاديب المثقف والدبلوماسي عبد الهادي صديق، رحمه الله.
– ديوان الخليل، الذى قدم له وحققه طيب الذكر الراحل علي المك.
– كما قدمت الاستاذة حاجة كاشف دراسة عن الخليل.
– وفى مؤلف المرحوم حسن نجيلة: ملامح من المجتمع السوداني، جوانب مختلفة من شعر الخليل ودوره في الحركة الوطنية وفي جمعية اللواء الأبيض وذكريات نابضة بالحياة عن صالون (فوز).*
الخليل من ذلك الجيل من المتعلمين والمثقفين السودانيين الذين تخرجوا في كلية غردون وغيرها، والذين حملوا أعباء النهضة السودانية الحديثة صارعوا من أجل إرسائها في مختلف المجالات، ووضعوا حجر الأساس الذي لازلنا نبنى عليه في تلك المجالات، سواء اكان ذلك في ميادين الاقتصاد أم الاجتماع أم السياسة، ام الموسيقى أم المسرح.. الخ.
والواقع أننا لا يمكن فهم تطور السودان الحديث دون المعرفة العميقة والباطنية لجذور وجينات ذلك التطور والظروف التى حكمت وشكلت قسمات نشأته الاولى.
من هذه الزاوية، نتناول الدور الذي لعبه الخليل في نهضة وتطور السودان الحديث، وتتناول قضايا التقدم الاجتماعي التى كان يثيرها، كما نتناول الربط المبدع لأشعار الخليل بالوطنية والطبيعة السودانية وتخطيه حدود المكان والزمان. فلازالت قصيدة (عزة في هواك) ترن في الآذان كرمز للوطنية السودانية، وسوف تظل خالدة في حاضر ومستقبل السودان، كما كانت في الماضي. يقول الخليل فيها:
عزة في هواك نحن الجبال وللبخوض صفاك نحن النبال
عزة ما سليت وطن الجمال ولا ابتغيت بديل غير الكمال
وقلبي لسواك ما شفتو مال خذيني باليمين وانا راقد شمال
عزة ما نسيت جنة بلال وملعب الشباب تحت الظلال
وهي من القصائد الرائعة التي يربط فيها الخليل الوطن الكبير (السودان) بالوطن الصغير (امدرمان) ومنطقة مولد الخليل.
يتناول البحث القضايا التالية:1- الخليل وعصره
2- الخليل والتجديد
3- النهضه في اشعار الخليل
4- الخليل والوطنية السودانية
5- الخليل والمرأة
6- الخليل والطبيعة
7- خاتمه.
أولا: الخليل وعصره:ولد خليل فرح في قرية دبروسه بمنطقة حلفا سنة 1894م (1) ، أى أن الخليل ولد في السنوات الأخيرة لدولة المهدية التي استقل فيها السودان لمدة ثلاثة عشر عاما وتم سقوطها في عام 1898م ، فالخليل تفتح على الاحتلال الإنجليزي – المصرى للسودان، وهزيمة دولة المهدية ، وربما يكون اختزن في ذاكرته فظائع احتلال السودان واستباحة الخرطوم خلال الأيام الأولى للغزو ، ومؤكد ان – صح ذلك – أن هذا الواقع يكون قد ترك اثره بهذا القدر أو ذاك في الخليل ، كما تفتح الخليل ايضا في طفولته الباكرة على النيل وجمال الطبيعه والنخيل والسواقي والاشجار والطيور المتنوعة .. وكل ما تحمله حياة الريف في منطقة السكوت أو المنطقة الشمالية من جمال وبساطة وبهجة ، اضافه لأغانى النوبة ورقصهم وتراثهم الشعبي وأمثالهم وحكمهم، كما نلاحظ بعضا من ذلك في اشعاره ، فعلى سبيل المثال هناك مثل نوبي يقول: زوج البنت دينار فوق جبهة الحماة. والدينار عند النوبة حلية من الذهب الخالص مستديرة الشكل تربطها المرأة في شعر الناصية وترسلها الى الامام ، فتستقر فوق الجبهة ، وهي حلية من الحلى الزاهيه تعتز بها كل امرأة. وهو مثل يضرب للدلالة على مكانة زوج البنت وعلو قدره في نظر حماته.وفي قصيدة ( جنائن الشاطئ) يستلهم الخليل هذا التراث عندما يقول:
القوام اللادن والحشا المبروم
والصدير الطامح زى خليج الروم
حلى جات متبوعة الصافية كالدينار
في القوام مربوعة شوفا عالية منار
وكان والد الخليل : فرح بدرى يعمل بالتجارة ، وكان كثير الاسفار في المنطقة من حلفا ودنقلا وكثيرا ما كان يصحبه خليل في تلك الأسفار، وبطبيعة الحال ، ان هذه الأسفار كان لها الأثر في شخصية وتفكير الخليل فجعلته يتعرف على مناطق مختلفة من السودان في بداية حياته، الشيء الذى جعله واسع الأفق والخيال كما ساعدته على حب وعشق الطبيعه والتى عبر عنها كثيرا في أشعاره ، توفى والده سنة 1915 ، كما توفيت والدته سنة 1927 م.
نال الخليل جزءا من تعليمه في خلوة الشيخ أحمد هاشم بجزيرة صاى ، ثم الكتاب في دنقلا ، كما درس في امدرمان حيث كان يقيم واهل ابيه ، ودخل كلية غردون وتخرج فيها مهندسا ميكانيكيا، وعمل بعد تخرجه في مصلحة البوستة والتلغراف ، نتوقف هنا قليلا لنلاحظ ، أن الخليل تلقى تعليما مدنيا حديثا أو مدنيا فرضته احتياجات الادارة البريطانية بعد قيام مشاريعها الصناعية والزراعية والخدمية ، واحتياجها لنوع من التعليم الحديث يلبى الاحتياجات ، وبدراسة الخليل للهندسه تفتح أفقه وخياله وبدأ يتعامل مع المنجزات الحديثة للثورة الصناعية الاولى من أدوات انتاج ومبادئ العلوم والرياضيات والهندسه .. الخ، كل ذلك أسهم في تنمية وعى الخليل الاجتماعي والذى صقله فيما بعد باطلاعه الواسع في الأدب والشعر القديم والتاريخ الاسلامي والسوداني ، اى ان الخليل تخطى برنامج كلية غردون الدراسي الذي كان يقتصر على تدريب الطالب على مهنه محددة معزولة عن الثقافة العامة ، وهذه نقطه مهمه تشكل المفتاح لفهم سر التجديد في الاغنية السودانية وفي الشعر السوداني عامة ، ذلك لأن الخليل نفسه هو نتاج القوى الحديثة من موظفين وعمال ومهندسين الذين برزوا بعد قيام مؤسسات الادارة الاستعمارية في بداية القرن الماضي ، وهذه القوى هى التى قادت دفة التجديد في مختلف المجالات الأدبية والفنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والرياضية فيما بعد.
ومن الملامح الانسانية للخليل زواجه من السيدة سلامة اغا ابراهيم أرملة شقيقه بدرى وذلك في جزيرة (صاى) عام 1923 م ، وكان له من الولد فرح وعائشه.
وكان للخليل نظرة عميقة للاستعمار باعتباره سبب الشقاء والتخلف للسودانيين ، وهذه النظرة نلمحها في قصيدة ( صائد الانام) ، وهى قصيدة نظمها بمناسبة زيارة ( أمير بريطاني) للسودان جاء فيها:
يا صائد الانام سافر يا أمير وانزل اراضينا
جوب ساحاته واستعرض ميادينا
ما تهمك مدارسنا ونوادينا
اهلك اهملوا تأسيسه عامدينا
ساد الجهل وسادت عوادينا
وعم الفقر مداينا وبوادينا
ما اتسولنا أو مدت ايادينا
غير الخالق المن فيضه يدينا
ياصائد الأنام المولى عاطينا
طبيعة غنية في بواطينا
ما اخصب جزائرنا وشواطينا
وخيرات الجزيرة الدافقة طينا
ويختتم الشاعر بقوله:
بس الشفته من أحوالنا بيألم
احكى عنه لاهلك وعد سالم
والخليل هنا يعبر عن مفهوم عميق للاستعمار كظاهرة اقتصادية اجتماعية ، باعتباره سبب الجهل والتخلف رغم ادعائه بأنه جاء لنشر التعليم والمدنية ، ويتضح ذلك من اهماله للتعليم والشح في بناء المدارس والأندية التى ترمز للوعى والتقدم الاجتماعي والثقافي ، ورغم خيرات البلاد وخصوبة أرض الجزيرة ، الا أن عائدها يذهب لجيوب المستعمرين بينما السودانيون يعانون من الفقر في المدن والبوادى ، والخليل هنا كان عميقا عندما يلاحظ الفقر في القطاع الحديث ( المدن) ، وفى القطاع التقليدي ( البوادى) ، ويشير الى عزة السودانيين الذين يرفضون التسول رغم الفقر الذي عمّ في فترة سيادة الاستعمار الذي اهتم بالمحصول النقدي ( القطن) واهمل زراعة قوت الناس مثل: الذرة والدخن والخضروات .. الخ، أى أن الاستعمار لم يكن يهمه غذاء السودانيين ورفاهيتهم بقدر ما كان يهمه غذاء السودانيين ورفاهيتهم بقدر ما كان يهمه انتاج المحصول النقدي( القطن) اللازم لمصانعه في لانكشير.
اعتقد أن الخليل هنا عبر بالحدس والفطرة تعبيرا عميقا عن فهم ظاهرة الاستعمار والأسباب الأساسية للتخلف التى نشأت من استنزاف خيرات البلاد، وتصدير الفائض الاقتصادي للخارج وابقاء السودانيين في حالة من الجهل والفقر.
وبعد استقرار دولة الحكم الثنائي شرعت في إرساء البنيات الاساسية للدولة السودانية الحديثة ، فقامت السكك الحديدية والنقل النهرى وتم انشاء ميناء بورتسودان ، وتم إرساء التعليم الحديث وقامت كلية غردون وتم بناء المستشفيات الحديثة وقامت مصلحة البوستة والتلغراف وقام مشروع الجزيرة وخزان سنار ، ونشأت دور الطباعة والنشر والصحافة .. الخ.
وشهدت الفترة (1900– 1919م) تخرج متعلمين في كلية غردون، كما شهدت تطورات عالمية وداخلية كان لها الأثر في تطور وظهور شكل جديد للوطنية السودانية بعد هزيمة دولة المهدية واتباعها وهزيمة الانتفاضات القبلية والدينية التى استمرت حتى 1916م. حيث تم القضاء على تمرد السلطان على دينار في دارفور. وشهدت تلك الفترة الحرب العالمية الأولى وما تمخض عنها من تطورات في الحركة الوطنية لشعوب المستعمرات.والاتجاه العام للمطالبة بحق تقرير المصير ، كما شهدت نشوء ومولد الصحافة السودانية التى بدأت اجنبية الملكية سودانية القراء ، حتى قامت أول جريدة (الحضارة) سودانية في الملكية والقراء (2 ).
كما اشترك الجنود السودانيون في الحرب العالمية الاولى وعادوا للبلاد بوعى جديد ، كما شهدت تلك الفترة نهوض الحركة الوطنية المصرية التى توجت بثورة 1919 م والتى كانت تطالب بسيادة واستقلال مصر ، كما شهدت شعوب المستعمرات الاخرى في الشرق ثورات مثل ثورة الهند ، كما قامت الثورة الروسية عام 1917م.
ولم يكن السودانيين ولاسيما المتعلمين منهم بمعزل عن تلك الأحداث والتطورات فتم انشاء نادى الخريجين ، وقامت جمعية الاتحاد السوداني و جمعية اللواء الأبيض فيما بعد والتى كانت تطالب بوحدة وادى النيل تحت التاج المصرى وجمعية اللواء الابيض من اوائل التنظيمات التى قامت على اسس سياسية حديثة في السودان وشكلت تطورا ارقى في ميدان التنظيم في السودان. كان خليل فرح عضوا في جمعية الاتحاد السوداني التي تكونت عام 1921 م في منزل محى الدين جمال ابوسيف ومن اعضائها المؤسسين توفيق احمد البكرى وبشير عبد الرحمن وكلهم كانوا من طلاب كلية غردون ، وكان هدف هذه الجمعية وحدة وادى النيل ثم صار من اعضائها : مدثر البوشي ، الامين على مدنى ، عبيد حاج الامين ، بابكر القبانى ، توفيق صالح جبريل وغيرهم.
ومارست الجمعية آساليب العمل السري ، وكانت اجتماعاتها تتم سرا ، وتوزع المنشورات التى توضح اهداف وافكار الجمعية ، وعندما قامت جمعية اللواء الأبيض انضم اليها خليل فرح وكان الخليل يعبر في قصائده واشعاره عن أهداف وشعارات وحدة وادى النيل التى قامت ثورة 1924 م على أساسها ونلمس ذلك على سبيل المثال في قصيدة ( الشرف الباذخ) والتى يقول فيها:
نحن ونحن الشرف الباذخ دابى الكر شباب النيل
قوم قوم كفاك يا نايم شوف شوف حداك يا لايم
مجدك ولىّ وشرفك ضلّ وامتى تزيد زيادة النيل
إلى أن يقول:
ده ود عمى وده ضريب دمى وانت شنك طفيلي دخيل
يانزلانا امرقوا الذمة كيف ينطاق هوان الأمة
شالو حقوقنا وزردوا حلوقنا ديل دايرين دمانا تسيل
من تبينا قمنا ربينا ما تفاسلنا لو في قليل
مافيش تانى مصرى سودانى نحن الكل ولاد النيل
واضح من القصيدة انها تعبر عن جماعة ( نحن) أى جماعة وحدة وادى النيل ، ويرد فيها ذكر (النيل ) أكثر من مرة ويختتم بقوله ( مافيش تانى مصرى سوداني نحن الكل (ولاد النيل)، ويرد فيها تعابير مصرية مثل ( امتى تزيد زيادة النيل )، كما يشير الخليل الى الكبت الذي يعاني منه الشعب السوداني في ظل الاستعمار الانجليزى عندما يقول:
يا نزلانا امرقوا الذمة كيف ينطاق هوان الأمة
شالو حقوقنا وزردوا حلوقنا ديل دايرين دماءنا تسيل
ويقول للمصرى والانجليزى:
ده ود عمي وده ضريب دمي وانت شنك طفيلى دخيل.
اى أن القصيدة تعبر تعبيرا كاملا عن أهداف اللواء الابيض (وحدة وادى النيل).
كان الخليل عميقا في ثقافته ومعرفته بالتاريخ والشعر العربي والتراث السوداني وينعكس ذلك في شعره وقصائده ، كما استطاع أن يطوع تلك المعرفة على الواقع السوداني ، وتحت مفاهيم جديدة ولغة جديدة وجمع في شعره بين العامية والفصحى.
وفي قصيدة ( طير الوادى) إشارة للتراث والآثار السودانية والامجاد الماضية يقول فيها:
كنانة آمون مشغوله قايدة وشايدة
من والدته بى تلك القصور الشايدة
وفي قصيدة (تعال الى) يقول:
طربت وهزني الشوق المشيم وعاود مهجتى داء قديم
الى أن يقول:
فسل سوبا وسنار عنا وواد النخل لبنك الرسوم
فالخليل هنا يصل لمرحلة متقدمة في الوعى بالذات والحضارة السودانية.
وفي قصيدة ( لاتقوم الشعوب الا على ماضي)، يقول:
رب ماض من الهوى بعثته ذكريات الهويل بالتغريد
لاتقوم الشعوب الا على ماض بقيت بذكره في النشيد
وبنفسى هى الحياة حياة اسلكت أهلها سبيل الخلود
ويدعو الخليل الى العلم والمعرفة حين يقول:
فكونوا كا الكواكب ذا زمان لغير اولى النهى ليل بهيم
وشدوا بعضكم بعضا وسيروا بغير العلم مسلككم وخيم
ثانيا: الخليل والتجديد:كانت الأغنية السودانية قبل الخليل تتسم بالاسفاف والركاكة ، وهى نتاج المجتمع التقليدي الضيق الذي كان يعيش فيه السودانيون قبل الارتباط بتيارات الثقافة العالمية ، ودخول التعليم الحديث ، وبالطبع عندما جاء الخليل بتعليمه المدنى الحديث وثقافته واطلاعه الواسع ، اسهم في الارتقاء بالاغنية السودانية ونحت تعابير ومفاهيم جديدة تتسم بالرصانة على المستوى العامي والفصيح. ويرى المبارك إبراهيم ، أن تاريخ وتهذيب الأغانى السودانية في مبتدأه لايعترف الا بوجود الزعماء المجددين الثلاثه: ابراهيم العبادى ، صالح عبد السيد( ابوصلاح)، وخليل فرح (5).
هذا وقد اتسم شعره بصفة عامة بحب الطبيعة والوطن ويقول القصيدة تصدر عنه بلحنها مثلما هو بشفق عليها ان تقع في ايدى العابثين ، فكانت الحانه فريدة والعمل الغنائي يخرجه خليل فرح كاملا كلمات وغناء ، والذي اسماه المبارك ابراهيم تهذيبا ، ولكن على المك يطلق عليه في الواقع ثورة (6).
وخليل فرح رغم أنه نوبي ، ورغم سيطرة ثقافة الوسط العربية ومحاولة تهميشها لثقافات الأطراف غير العربية ، الا أن الخليل برهن على أنه متمكن من اللغة العربية العامية والفصحى ، واستطاع أن يحدث ثورة حقيقية في الأغنية السودانية ، وفي تنمية لغة اهل امدرمان التى هى حصيلة تفاعل قبائل السودان المختلفة التى تم حشدها في المدينة عند بداية تأسيها بعد انتصار الثورة المهدية.
واسهام النوبة في الثقافة العربية الاسلامية واضح ، فكما يقول د. عبد الله الطيب : الجاحظ العظيم نوبي ، وذو النون المصري القطب الصوفي المشهور كان نوبيا ، مما يوضح أن النوبة كما ابناء الفرس والروم ساهموا في تشييد صرح الثقافة العربية الإسلامية. وبالتالي لا نستغرب ابداع خليل فرح النوبي وتمكنه من اللغة العربية وإسهامه في تطوير وتجديد فن الغناء السوداني.
ثالثا: النهضة في اشعار الخليل:في قصائد الخليل نلمس دعوات واضحة الى ابناء الوطن لكى ينهضوا و يواكبوا التطور ويتحرروا من الركود والجمود، في قصيدة (الشرف الباذخ) يقول:
قوم قوم كفاك يا نايم شوف شوف حداك يا لايم
مجدك ولى وشرفك ضل وامتى تزيد زيادة النيل
فهى دعوة صريحه للنهضة والتطور والازدهار حتى يعم الرخاء والتقدم في البلاد.
وفى قصيدة (فلق الصباح) يقول:
عزه قومى كفاك نومك وكفانا دلال يومك
انت يالكبرتوك البنات فاتوك
في القطار الطار
فهى دعوة صريحة للوطن لينهض ويلحق بالاوطان الأخرى التى سبقته في مضمار النهضة والتقدم.
وفي قصيدة (عزة في هواك) يقول:
عزة شفت كيف نهضوا العيال جددوا القديم تركوا الخيال
وفي قصيدة (وطني) يقول:
لبسوا الجديد على القديم وهكذا
صارت تصان وديعة الأحفاد
رابعا: خليل والوطن:أحب الخليل الوطن وعشقه عشقا شديدا وعبر عن هذا الحب في أشكال مختلفة منها الشكل المباشر والشكل الرمزى (الحبيبه، عزة، المرأة ،… الخ).
وفي قصيدة (ماهو عارف) يصل للقمة في حب الوطن يقول في القصيدة:
ماهو عارف قدمه المفارق يا محط آمالي السلام
في سموم الصيف لاح بارق لم يزل يرتاد المشارق
كان مع الأحباب نجمه شارق ماله والأفلاك في الظلام
الى أن يقول:
من فتيح للخور للمغالق من علايل ابروف للمزالق
قدله يا مولاى حافى حالق بالطريق الشاقه الترام
ما يئسنا الخير عوده سايق الى يعود ان اتى دونه عايق
الى يوم اللقاء وانت رايق السلام يا وطني السلام
وفي قصيدة (أذكر بقعة ام درمان) يعبر عن حب عميق لوطنه الصغير ( ام درمان) وعن فهم عميق لتاريخ وجذور المدينه وتركيبتها، يقول في القصيدة:
اذكر بقعة ام درمان وانشر في ربوعها آمان
ذكر ياشبابي زمان
يواصل الخليل ويقول:
دارنا ودار ابونا زمان وفيها رفاة جدودنا كمان
ما بننساك خلقه ضمان جنه وحور حماك ضمان
بطرى الاسسوك زمان كانوا نحاف جسوم1 ما سمان
كانوا يحلحلوا الغرمان يساهروا يتفقدوا الصرمان
في السودان فتيح معروف ولسه ابو عنجه خوره سروف
وود نوباوى زول معروف باقى وديك مشارع ابروف
كانوا جبال تقال ومكان نزلوا اتربعوا الأركان
نلاحظ هنا أن الخليل يستخدم (بقعة أم درمان)، وكلمة بقعة من الكلمات التي يستخدمها الامام المهدي عليه السلام ، مما يشير الى ربطه وتلميحه الى ام درمان العاصمة الوطنية أو عاصمة أول دولة مستقلة.
وفي القصيدة نلاحظ الوصف للأحياء الذين اسسوها وبطولاتهم وشهامتهم (جبال تقال ومكان). أى أن الخليل هنا يشير الى امجاد المدينة وتاريخها والوطنية السودانية من خلال هذه القصيدة، وكذلك في رائعته (يا نيلنا يا نيل: الحياة) التى يقول فيها:
يا نيلنا يا نيل الحياة حياك حياك الحيا
الى أن يقول:
بالله يا وطن الصبا بالعافية يا روح الصبا
بفداك من قلبي الصبا بي مالى بي دم الصبا
يواصل ويقول:
يا نيلنا يا سحر الحلال يا ابشامه في صدرك هلال
قول للسلف خلفا حلال نتلاقى في جنة بلال
خلاصة القول: إن الخليل احب الوطن حبا جما، حبا ملك كل كيانه وسرى في دمه، ومن هنا نفهم سر خلود شعر الخليل على مر العصور والازمان ، وسيظل الناس دائما يرددون (عازه في هواك)، و(ما هو عارف قدمه المفارق)، و(فلق الصباح)،.. الخ.
خامسا: الخليل والطبيعة:كانت الطبيعة والبيئة السودانية مصدرا هاما لاشعار واغانى الخليل ، فنجد أن الخليل حسد ما كان يدعوا اليه حمزة الملك طمبل ، وهو نظم شعر سوداني اصيل يعكس بصدق واقع وبيئة السودان بدلا من النقل الاعمى لبيئات اخرى وحشرها حشرا في اشعارنا ، اى شعر كل من يقرأه يعرف أنه شعر سوداني صميم. ومن الامثله لذلك قصيدة ( مقرن النيلين) التى يقول فيها:
صبحنا نوارك هباب والروضة تتنفس حباب
حس السواقى مع الضباب مناحه بالهوى طارقه باب
وقصيدة (اياما مضت) تعكس ذكرى عميقة للطبيعة يقول فيها:
اياما مضت ساعة تدخل الغابه
في ضل الأراك ترى البهم تشابى
لى وقت العصير تتفاوت الجلابة
تغشى الحلة سامعين لى نبيح كلابه
ومن الاشجار التى ترد في شعر الخليل (النخل)، (النبق أو السدر)، ( والأراك)، (السلم)،… الخ من الأشجار التى تعبر عن البيئة السودانية.
ويصل حب الطبيعة الى نهايته العظمى في شعر الخليل في قصيدة (في الضواحى) التى يقول فيها:
في الضواحى وطرف المداين يله ننظر شفق الصباح
قوموا خلوا الضيق في الجناين شوفوا عز الصيد في العساين
الى أن يقول:
بالطبيعة الواديك ساكن ما فى مثلك قط في الاماكن
ياجمال النأى في ثراكن ياحلاة البرعى اراكن
في قفاهن ثور قرنه ساكن لاغش لاشافن مساكن
في الحزام والشبح والبراح
ويختتم بقوله:
مال نسيم الليل بي برودك نامت الازهارفي خدودك
غرد العصفور فوق عودك النفوس ما تعدت حدودك
ما عرفنا عدوك من ودودك بس انا المقسوم لى صدودك
ياحياتى واملى اللى راح
سادسا: الخليل والمرأة:اهتم الخليل بتعليم المرأة باعتبار ذلك أساس النهضة والعمران ، وكان انحياز الخليل واضحا في الصراع الذي دار في العشرينيات من القرن الماضي بين أنصار وأعداء تعليم المراة ، كان الخليل مع تعليم المرأة ووقف بجرأة مع مجرى التطور والتقدم الاجتماعي، ويتضح ذلك في قصيدته بعنوان (في تعليم المرأة) والتى يقول فيها:
ارشدونا يا ولاة الامر في أمرنا ذل جهول خامل
وانصفونا من حياة نصفها حائر والنصف جسم جاهل
تعب في الغيط والبيت متى يصلح الحال ويأوى العاقل
علموها انها مدرسة لحياة ما اليها طائل
وللخليل قصيدة اخرى في تعليم المرأة بعنوان (المدرسة) يقول فيها:
يلا نمشى المدرسة سادة غير اساور غير رسا
يلا سيبى الغطرسه قومى افرزى كتب المدرسه
الساعة سته دقت يام رسا نايمه والمنبه حارسا
الى أن يقول:
دراسة ماك جاهلة مخنسه قادله لى كتابه مؤنسه
حاشا ما تربيتي مدنسة لسه لسه عزك ما اتنسى
أى: أن الخليل يرى أن التعليم هو أساس التقدم والنهضة ولابد لنصف المجتمع أن يأخذ نصيبه منه. وكان الخليل يدعو لتحرر المرأة من الجمود والنظره الباليه للمرأة ولتحرر العلائق الاجتماعية في عفة وجمال وفي اطار تقاليد المجتمع.وفي قصيدة (صح النوم) يقول:
اختك يازينة العوالم طلعت فوق من غير سلالم
انت كمان عندك معالم بكره نقوم وطريقنا سالم
ليك الدار والناس محارم مجدك حى واهلك حضارم
انت العز وانت المكارم شرفك لى في الهيجا صارم
وفي قصيدة (تم دور وادور) يقول:
النحر معمر والسباته حارة والمجال مضمر
الشعر مخمر يرشح كله ند عردب المجمر
قام محمد بشر هز فوق تيجانن سل سيفه كشر
قول معاى واتفشر نحن سياج عروضن ونحن يوم المحشر
ومن قصائده الرائعه (ميل وعرض) التى يقول فيها:
ميل وعرض كتر امراضي بي هواكم والهوان راضى
جن ليلى وهاجت اعراضى سح دمعى وطاشت اغراضى
الى أن يقول:
بالى جسمي ومن زمان قاضى هاهو حبك بين انقاضى
هدى روعك اوع لاتقاضى ما بشارعك مابكوس قاضى
المضلل رشدى ياهادى والمكتر في القضاء سهادى
ومن روائعه ايضا: قصيدة (بين ها القصور) التى يقول فيها:
اللحظ مثير والكفيل وثير
والبسيم مفلج كالدر النثير
البنان خضيب والقوام رطيب
والوريد الباهى محق الوضيب
غير شك تسود العيون السود
مافى شئ مبدع خالى من حسود
خاتمــــــــة:من العرض السابق نصل الى أن الخليل كان مجددا حقيقيا لفن الغناء السوداني ، والخليل نتاج النهضة الحديثة والتعليم المدنى الحديث ، وكان ذو ثقافة عميقة وعلى المام بالتاريخ الاسلامي والسوداني وبالتراث السوداني ، ويظهر ذلك في شعره ، كما استطاع الخليل أن ينحت قوالب جديدة تناسب البيئة السودانية ، فجمع الخليل بعمق وبمهارة بين العامية والفصحى مما يدل على تمكنه من ناصية اللغة والشعر ، واستطاع الخليل أن يعطى القوالب الفنية القديمة التى كانت تتلخص في غناء الدوباى والطنبور والمديح . استطاع أن يكسبها مضامين جديدة ، أو كما يقولون : استطاع أن يصب نبيذا جديا في قنانى قديمه ، فبعث فيها الحياة وبكلمات اخرى ، كان الخليل عميقا بنى الجديد على افضل ما القديم .
استطاع الخليل إنتاج شعر وفن غناء سوداني اصيل عبر عن الفترة التاريخية بكل شحناتها وآلامها وعبر عن الواقع والبيئة السودانية في أشجارها وطيورها وانهارها وازهارها وجبالها ومعالمها التاريخية وتراثها الزاخر بالحياة ، كل ذلك في نسيج فريد، كما استطاع الخليل أن ينحت كلمات وتعابير جديدة، كانت ترمز للوطن بهذا القدر أو ذاك مثل (عزة)، و(جنة بلال)،…. الخ.
كان الخليل مناضلا من اجل الاستقلال ، وكان عضوا في جمعية اللواء الأبيض ومن رموزها الثقافية البارزة والمعبرين فنيا عن شعاراتها ، فالخليل لم يكن شاعرا رومانسيا بعيدا عن قضايا وهموم الوطن ، بل كان يعمل من اجل تغيير الواقع الى الافضل.
كما كان الخليل يعبر عن التيار العام للتطور الاجتماعي ، فنجد في قصائده الدعوة الى تعليم المرأة وتحرير البلاد من الجهل والفقر ، وكان وعيه مبكرا ، بأن سبب تخلف وفقر البلاد هو الاستعمار الانجليزى ، اى أن الخليل كان شاعرا واعيا بذاته وبتاريخه وبوطنه.
وكان الخليل من الاوائل الذين ادخلوا العود والآلات الموسيقية الحديثة في الاغنية السودانية.
كما كان الخليل يصارع ضد نوعين من الاضطهاد : اضطهاد الاستعماريين للسودانيين ككل ، واضطهاد القبائل العربية لثقافات القبائل الطرفية ، اى كان مناضلا ضد العنصرية ، واستطاع الخليل أن يبرهن أن ابناء النوبة رغم ( رطانتهم)، – والتى في الواقع لغة – يمكن أن يبدعوا في استيعاب اللغة العربية والشعر العربي.
الهوامش والمصادر:*الاشارة هنا الى مبروكة ( فوز) التى كانت تؤمن اجتماعات جمعية اللواء الأبيض وتشاركهم القضية والغناء مضحية بسمعتها ومكانتها في المجتمع في تلك الفترة الباكرة من تطور المجتمع السوداني من عشرينيات القرن الماضي.
1 – انظر ديوان خليل فرح، تحقيق وتقديم على المك (دار جامعة الخرطوم للنشر 1977م).
2 – راجع محمد متولي بدر: حكم وأمثال النوبة (معهد الدراسات الآسيوية والأفريقية – شعبة الفلكلور 1978 ).
3 – للمزيد من التفاصيل راجع حسن نجيلة؛ (ملامح من المجتمع السوداني)– الجزء الأول، ومحجوب محمد صالح (الصحافة السودانية في نصف قرن)– الجزء الاول.
4 – على المك ديوان الخليل، مرجع سابق.
5 – المرجع السابق، ص 14 .
6 – المرجع السابق.
الوسومأم درمان السودان اللواء الأبيض تاج السر عثمان بابو جامعة الخرطوم خليل فرح ديوان الخليل عازة في هواك علي المك محجوب محمد صالح