ليس غريبًا أن تكون للمقاتل يحيى السنوار خمسة كتب أحدها ترجمة لكتاب «الشاباك بين الأشلاء»، من تأليف الرئيس السابق لجهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي، وبينها رواية "الشوك والقرنفل" التى ترصد تاريخ مأساة شعب فلسطين منذ نكسة 1967، فما أكثر من حملوا البندقية والقلم، لكن العدو يعلم أن القلم ربما يكون أقدر، أو يساوى البندقية، فكانت نيرانه ترصد من يقاتل بالسلاح جنبًا إلى جنب مع من يقاتل بالقلم، والصورة واللوحة والفنون على تنوعها، مدركًا أن الفنون مخزن ذخيرة، وقنابل موقوتة ومنصات إطلاق صواريخ، وكان بين بنك أهداف العدو تجريد الأمة من كل نشيد يشعل الحماسة، وكل حرف يضيء فى ظلمة الأكاذيب، وكل توثيق للحقائق وكل إبداع يمكن أن يغرس أملاً ويمد جسورًا خارج الحدود، وهناك من حيث بدأت الاغتيالات كان لأهل الكلمة نصيب لا يستهان به، ويأتى صاحب إيقاظ مصطلح أدب المقاومة الشاعر غسان كنفانى بين قائمة اغتيالات طويلة قام بها الموساد الإسرائيلى، واستشهد كنفانى بصحبة ابنة أخته في الثامن من يوليو عام 1972، بعبوة مفخخة زُرعت في سيارته ببيروت، وبعده بأقل من عام في أبريل من عام 1973، اغتالت الموساد الشاعر كمال ناصر في بيروت أيضًا مع اثنين من رفاقه، هما: كمال عدوان وأبو يوسف النجار.

وبين الاغتيالات البعيدة والأخرى التى تمت تحت القصف المباشر فى غزة، لا يمتد طريق الموت فقط بل تمتد أيضًا حياة الكلمة.

* يوم استهدف الصهاينة منزل الشهيد المقاوم والمخرج الشاب محمد صالح بمخيم جباليا، كان يومًا عاديًا من أيام الموت التى لم تحرك شعرة فى جسد العالم الحر المخضبة أياديه بدماء الأبرياء، لكن "صالح" كان شابًا غير عادى، فهو أصغر شاعر يصدر ديوانًا فى فلسطين، تم تكريمه فى محافل غزة، وفى ديوانه الوحيد "سقطت يده" الذى صدر قبل استشهاده بشهور فى نفس عام رحيله، بدا شاعرًا متمكنًا تنتفض فى أبياته ثورة المقاتل وعشقه للوطن ويقينه بقرب الرحيل وحنينه لمن سبقوه، يقول فى إحدى قصائده: (إذا ما أسدنا نزلت بحرب/ تفقدت الأكف بها الرقابا/ نتوق إلى الديار ديار عز/ بقلب دق بالشوق السحابا/ هواء فى بلادى لا يعالى/ وعيش فى بلاد الموت طابا).

* فى 6 ديسمبر 2023 استشهد تحت القصف مع شقيقه وشقيقته، المثقف الفاعل الذى لم يحمل يومًا بندقية "رفعت العرعير" أحد أهم مثقفى جيله، ترك مع كتب أبدعها قصيدة باللغة الإنجليزية، ملونة بالأمل لكنها أيضًا تحكى انتظاره للموت، فقد استشف قرب الأجل مع بدء العدوان، وصدق حدسه في غارة استهدفت منزل شقيقته شمال غزة.

أبدع "رفعت" بالإنجليزية، ودرّس الشعر والأدب الإنجليزي في الجامعة الإسلامية بغزة، وتحولت قصيدته الأخيرة إلى أيقونة تحظى بانتشار واسع، فقرأها فى مقطع مصور الممثل الإسكتلندى براين كوكس، وقرأتها ناشطة أمريكية، وتمت قراءتها فى معرض الكتاب الوطنى بروما، وفيها يقول: "إذا كان لا بدّ أن أموت، فلا بد أن تعيش أنت، لتروي حكايتي، لتبيع أشيائي، وتشتري قطعة قماش، وخيوطاً، فلتكن بيضاء وبذيلٍ طويل، كي يُبصر طفلٌ في مكان ما من غزّة، وهو يحدّق في السماء، منتظرًا أباه الذي رحل فجأة، دون أن يودّع أحدًا، ولا حتى لحمه، أو ذاته، يبصر الطائرة الورقية، طائرتي الورقية التي صنعتَها أنت، تحلّق في الأعالى، ويظنّ للحظة أن هناك ملاكًا، يعيد الحب، إذا كان لا بد أن أموت، فليأتِ موتي بالأمل، فليصبح حكاية".

ومن إبداعاته كتابي "غزة لا تصمت"، و"غزة تكتب مرة أخرى"، وكان العرعير مهمومًا بحفظ التراث من التاريخ الشفهي الذى تتناقله الأجيال خوفًا من الانقراض الذى تأخذنا إليه التكنولوجيا الحديثة، مشغولاً بأن يمتلك الفلسطينى روايته التى ستحفظ تاريخ وجوده على أرضه.

• "على قيد الموت"ـ اسم رواية له- كان الشاعر الفلسطينى الراحل فارس أبو شاويش ابن مخيم النصيرات بوسط قطاع غزة، رحل الرجل مع بدايات القصف فى ديسمبر عن عمر ناهز الستين عامًا جراء غارة جوية استهدفت بيته فى حى النصيرات فى مجزة من مجازر الإبادة الجماعية، وظل تحت الركام هو وزوجته، وبناته ليلى ولمى وجمانا وابنه الوحيد مصطفى، وشقيقه سلامة وزوجته وأولادهما السبعة، وظل من يحاولون الإنقاذ لا يستطيعون الوصول إليهم لشدة القصف، وبدائية وسائل رفع الركام، رحل من أخذ على عاتقه نقل معاناة الشباب فى مخيمه والذى أوصل بقلمه- رغم الحصار- صوت شعبه، وحرص على ألا يجمعه بالمحتل أى محفل فانسحب من معرض الكتاب بمدينة تورينو الإيطالية عام 2012 لأن إسرائيل كانت ضيف شرف الدورة.

وفى حياته القصيرة كان "أبو شاويش" مثقفًا فاعلاً يشارك في المؤتمرات الدولية والعربية والمحلية، وأسس العديد من الجمعيات والهيئات الشبابية لمساعدة أبناء المخيم الذي يعيش فيه.

• وفي حرب الإبادة المستمرة استشهدت الفنانة التشكيلية التى شاركت فى معارض دولية وتخرجت من كلية الفنون الجميلة جامعة الأقصى "هبة زقوت" صاحبة الألوان المفرحة، التى ناجت بريشتها القدس والأقصى واحتفت بصمود المرأة الفلسطينية وتجذر أشجار الزيتون فى الأرض، رسمت هبة التى استشهدت مع ابنها ملامح الوطن الكبير، والقطعة التى ضمتها منه "غزة" بكل حميمية ودفء، ورسمت صمود البيوت المتلاصقة التى تقصف الآن وتسوى بالأرض لكنها قادرة رغم كل شىء على المقاومة.

فى 8 أكتوبر 2023، ومن جوف ليل يقتحمه الموت، كتبت الشاعرة هبة أبو ندى إحدى تغريداتها قبل أيام من الاستشهاد تحت القصف: "معتمٌ ليل المدينة إلا من وهجِ الصواريخ، صامتٌ إلا من صوت القصف، مخيف إلا من طمأنينة الدعاء، أسود إلا من نور الشهداء، تصبحي على خير يا غزة"، وفى موضع آخر وبعد يومين فقط من تلك التغريدة كتبت بأمومة ناضحة تلتمس من الله نجاة وتفتح بابًا للأمل رغم كل هذا الخوف على الأطفال: "أعيذك في الفروض والاستخارة، وأرقي كل مئذنة وحارة، من الصاروخ لحظة، كان أمرًا من الجنرال حتى صارة غارة، أعيذك والصغار قبيل يهوي، تغير ابتسامتها مساره".

حصلت هبة على المركز الثاني لجائزة الشارقة للإبداع العربي، عن روايتها "الأوكسجين ليس للموتى"، عن مأساة الإنسان العربي في زمن ما يعرف بالثورات العربية، ولها عدد من المجموعات الشعرية المُشتركة، منها: "أبجدية القيد الأخير"، و"العصف المأكول"، و"شاعر غزة".

* الفنانة الفلسطينية إيناس السقا استشهدت مع ابنتيها لين وسارة وابنها إبراهيم بعد استهداف المنزل الذى نزحت إليه، وكانت "السقا" من أولى العاملات في المسرح بغزة، اهتمت كثيرًا بورش الدراما والمسرح مع الأطفال، ومن بين المسرحيات التي قدمتها: "الدب"، و"في شي عم بصير" و"نساء غزة وصبر أيوب"، وكانت قد شاركت في بطولة فيلم "سارة" للمخرج الفلسطيني خليل المزين، واحترفت الفن لكن مسيرتها الفنية انتهت تحت القصف.

* واستشهد الفنان الكوميدي والإعلامي الفلسطيني علي نسمان فى إحدى الغارات الجوية على قطاع غزة، لقد ظل صاحب مقولة: "كل من يعيش على هذه الأرض هو أسد من أسود هذه الأرض" يرصد على مواقع التواصل الاجتماعى يوميات قطاع غزة منذ إطلاق "طوفان الأقصى" يؤكد المعنويات المرتفعة، ويرصد حال الشوارع التى أجبر أهلها على الرحيل عنها، وكان "نسمان" قد شارك في عدد من المسلسلات الفلسطينية من بينها "الروح"، و"بوابة السماء". وشارك مؤخرًا في مسلسل "شارة نصر جلبوع"، الذي يروي قصة أسرى "نفق الحرية"

التشكيلية حليمة الكحلوت استشهدت بغارة صهيونية، ولدت في غزة عام 1994، تخرجت من الفنون الجميلة "جامعة الأقصى"، وعكست أعمالها واقعها المحاصر الذى يعانى قسوة الاحتلال، ومن أعمالها جدارية في جامعة "دار الكلمة" في غزة، تظهر فيها الصحفية شيرين أبو عاقلة، وفي عمل بعنوان: "على قيد المتابعة"، ترسم حليمة عقاقير الأدوية مكان شعيرات المكنسة لتصور حالة الفلسطيني المحاصر الباحث عن دواء لكنس ألمه.

هذا بعض من كل ممن اغتالتهم يد غاشمة تدرك أن صوت المبدع أقدر على رسم صور البطولة والتضحيات ومشاهد القتل الجماعى والفظائع على أجساد الأحياء المصابين، والجوع الذى نحت العظام تحت الجلود الملتصقة بها، وأنه الكلمة فى جوف ليل الخوف، وعلى طاولات المحافل الدولية، وبين يدى الإنسانية، وصوت الوجع الفصيح لمن أفقدوه القدرة على النطق.

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: قضية غزة قضية فلسطين تحت القصف إلا من

إقرأ أيضاً:

المغرب يفكك خلية إرهابية لداعش ويعثر على مخزن أسلحة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

كشفت السلطات الأمنية المغربية عن نجاحها في تفكيك خلية تابعة لتنظيم داعش الإرهابي بمنطقة الساحل، مؤكدة أن التحريات التي باشرها المكتب المركزي للأبحاث القضائية التابع للمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، أسفرت عن الوصول لمنطقة جبلية استخدمتها الخلية كقاعدة خلفية للدعم اللوجيستيكي بالأسلحة والذخيرة الموجهة لأعضاء هذه الخلية من أجل تنفيذ مخططاتها الإرهابية.

وذكرت وسائل إعلام محلية، عن بيان لقطب المديرية العامة للأمن الوطني ولمراقبة التراب الوطني، أن الخبرة التقنية وعملية تحديد المواقع عبر الأقمار الاصطناعية المنجزة باستخدام الإحداثيات والمعطيات الجغرافية المحجوزة في إطار البحث أسفرتا عن تحديد المنطقة المشكوك فيها بإقليم الرشيدية، وتحديدا بالضفة الشرقية.

وأضاف البيان، أن "المعاينات الميدانية وعمليات المسح الجغرافي أوضحت أن المنطقة المشكوك فيها توجد عند سفح مرتفع صخري، موسوم بوعورة المسالك غير المعبدة، وهو ما استدعى تسخير وانتداب معدات لوجيستيكية لتيسير الولوج إلى مكان التدخل بغرض القيام بإجراءات التفتيش الضرورية والأبحاث التمهيدية اللازمة".

وتابع البيان، أنه "إعمالا لبروتوكول الأمن والسلامة الخاص بالتهديدات الإرهابية، خصوصا في الأماكن التي يشتبه في احتوائها على أسلحة ومواد متفجرة، فقد استعان المكتب المركزي للأبحاث القضائية بدوريات للكلاب المدربة للشرطة، المتخصصة في الكشف عن المتفجرات، وآليات للكشف عن المعادن، وجهاز لرصد وتحديد طبيعة المواد المشبوهة، وروبوتات تقنية لرصد الأجسام الناسفة، فضلا عن جهاز للمسح بالأشعة السينية".

وبحسب البيان فقد تمكنت عمليات التفتيش والتمشيط، من العثور على شحنة من الأسلحة والذخيرة النارية مدفونة في مكان منزو أسفل المرتفع الصخري، وتتمثل الأسلحة النارية المحجوزة، في إطار هذه العملية، في سلاحي كلاشينكوف مع خزانين للذخيرة، وبندقيتين ناريتين، وعشرة مسدسات نارية فردية من مختلف الأنواع، وكمية كبيرة من الخراطيش والطلقات النارية من عيارات مختلفة.

قد تم وضع مختلف الأسلحة والذخيرة المحجوزة في أختام للحجز، وجردها بشكل مفصل، من أجل إحالتها على المختبر الوطني للشرطة العلمية بغرض إخضاعها للخبرات الباليستيكية والتقنية اللازمة.
وتشير التحريات المنجزة إلى غاية هذه المرحلة من البحث إلى أن الأسلحة والمعدات المحجوزة تم توفيرها وإرسالها من طرف قيادي تنظيم داعش بمنطقة الساحل، المسؤول عن العلاقات الخارجية، وذلك عبر مسالك وقنوات تهريب غير شرعية.

وقال البيان أنه بعد تأمين تهريب الأسلحة والذخيرة وضمان إخفائها بهذه القاعدة الخلفية للدعم اللوجيستيكي، قام قيادي تنظيم داعش بإرسال إحداثيات المكان لفريق “المنسقين” ضمن الخلية الإرهابية التي تم تفكيكها أمس الأربعاء، وذلك من أجل الانتقال لاستلامها والشروع في استخدامها في تنفيذ المشاريع الإرهابية.

وأشار البيان إلى أنه بموازاة مع هذه العمليات الميدانية، لا زالت الأبحاث والتحريات التي يجريها المكتب المركزي للأبحاث القضائية متواصلة تحت إشراف النيابة العامة المختصة، وذلك للكشف عن جميع امتدادات هذه الخلية الإرهابية، ورصد ارتباطاتها الكاملة بالفرع الإفريقي لتنظيم داعش بمنطقة الساحل.

مقالات مشابهة

  • السيطرة على حريق بمخزن شركة خاصة في جرجا بدون إصابات
  • السيطرة على حريق بمصنع ولاعات بالسويس دون خسائر بشرية
  • حماس تحمّل نتنياهو المسؤولية: أشلاء بيباس اختلطت مع أشلاء أخرى بسبب القصف الشديد
  • محمد مغربي يكتب: تداعيات «DeepSeek».. انقلاب في عالم الذكاء الاصطناعي
  • المغرب يفكك خلية إرهابية لداعش ويعثر على مخزن أسلحة
  • مسلسل «ظلم المصطبة» يرصد سطوة التقاليد العرفية في الريف
  • «ياسمين»: «لم أفقد الأمل» وأتمنى عدم عودة الهجمات على قطاع غزة
  • طالبات مدرسة ثانوية بقنا يوفرن مصروفهن لشراء هدايا رمزية لمعلم بلغ سن المعاش
  • أهالي غزة.. معاناة لا تنتهي مع السرطان
  • جيش الاحتلال يقتل محتجزيه بقصف أماكن احتجازهم