ملخص
جنت “أكتوبريات” ود المكي لا عليه فحسب، بل على فهمنا لثورة أكتوبر أيضاً. فغيبت الأكتوبريات التي لم تعدُ كونها قصيدة طويلة واحدة، على أكثر شعره. وبلغ تغييب تلك القصيدة لسائر شعره حداً دعا ناقد يوماً إلى تشكيل جبهة للدفاع عن ود المكي ضد الأكتوبريات.
غيّب الموت في الـ29 من سبتمبر الماضي الشاعر الدبلوماسي محمد المكي إبراهيم (1939).

وشق نبأ رحيله على السودانيين، بخاصة وهم على بعد نحو شهر من مرور 60 عاماً على ثورة الـ21 من أكتوبر 1964 التي كان “ود المكي”، كما تعارفنا عليه، هو شيخ حداتها أجمعين:
باسمك الأخضر يا أكتوبر الأرض تغني
الحقول اشتعلت قمحاً ووعداً وتمني
والكنوز انفتحت في باطن الأرض تنادي
باسمك الشعب انتصر
حائط السجن انكسر
والقيود انسدلت جدلة عرس في الأيادي
فجاءت الذكرى الـ60 للثورة وغاب المذكر بها. وصارت الحال هي ما وصفه ود المكي نفسه في رثاء الشاعر محمد المهدي المجذوب (1983)، “برحيلك ينفصل الجمر عن صندل الشعر”.
وصار فينا شدو ود المكي بأكتوبر، الذي أبدع في تلحينه الموسيقار محمد وردي وغنائه، بمثابة النشيد الوطني الرديف. وكانت ثورة أكتوبر أطاحت بنظام الفريق إبراهيم عبود العسكري (1958-1964) الذي نزل علينا غير مأذون، ولم نكمل بالكاد عامنا الثالث من الاستقلال. وجاءت بعدها ثورات أخريات في 1985 و2018 ولكنها تظل الثورة الأثيرة بصورة استثنائية عند السودانيين لأنها في عبارة لود المكي نفسه، “الصيحة الأولى” أو “الجذوة الأولى” أو:
تمخضي خلف البيوت المغلقة
خلف سدوف حقدك الخارقة المحترقة
ولتلدي ثورتك الأولى وبعثك الجديد
واختلط أمر الثورة في تدافع الناس من بعدها إلا في أسر شعرها لوجدان السودانيين. وقال أحدهم في المعنى إنه ربما أرخص النثر بالثورة، ولكن أعزها الغناء أبداً. فقال طالب حدث، لديّ السؤال عن معرفته عن ثورة أكتوبر، قال، “ليس كثير شيء. ولكن ما سمعته من غنائها دلني على أنها كانت حدثاً عظيماً”.
ومع ذلك جنت “أكتوبريات” ود المكي لا عليه فحسب، بل على فهمنا لثورة أكتوبر أيضاً. فغيبت الأكتوبريات التي لم تعدُ كونها قصيدة طويلة واحدة، على أكثر شعره. وبلغ تغييب تلك القصيدة لسائر شعره حداً دعا ناقد يوماً إلى تشكيل جبهة للدفاع عن ود المكي ضد الأكتوبريات. فلفهم أعمق لأكتوبر صح أن نعرف أن مجيئه لها كان من فوق غليان سياسي لجيل من الشباب الجامعي، ادخر للإرادة الوطنية المستردة بالاستقلال مشروعاً لتغيير ما به. ثم رأى تلك الإرادة تنتكس بانقلاب عسكري جعل القتال ضده فريضة. وتلك الغضبة ربما هي ذاتها “الوهج الجاسر” في قوله هو نفسه. فعلى اشتهار ديوانه الأول بـ”أمتي”، وهذا ولاء صريح وجيز، إلا أن للعنوان حاشية هي “أمتي: الوعي والحلم والغضب”.
ظل مسعى ود المكي الشعري أن يُنسب نفسه لأمته. وهي أمة الشمس عنده التي خطت مضاربها فوق “يأفوخ الشمس” وفرشت موائدها على “أعلى الشمس” وتوزع قومها على “حارات الشمس”:
في قمة الشمس الصبية أمتي لفت عمائمها ووثقت العباءة
واحتلب أمته تاريخاً:
هذا عصير الشمس فوق جبهتي
هذا كساء أمتي
هذا الكساء دمغتي
كان ود المكي حفياً بالنسبة إلى الأمة وثقافتها حتى سمى أجيال الشعراء من قبله “أجدادي شعراء الشعب”.
كان ميلاده في مدينة الأبيض، عاصمة ولاية كردفان، مركز الطريقة الإسماعيلية التي انتمت إليها أسرته فتضمخ بـ”عبير الأضرحة” منها. إلا أنها أصلاً من واحة البشيري شمال الأبيض وعلى مقربة منها. وجاء إلى هذه الواحة أجداده الجابرية والبديرية والركابية، من منحنى النيل الشمالي في القرن الـ18 فعمروها. وله في متانتهم عبارة:
إن أجدادي يموتون غراماً وطرب
وضعوا الساعد في الساعد فالرمل انسحب
والنخيل انبثقت بين الجراح الصادحة
وحمله شغفه بمواطن أهله في الشمال لزيارتها والكتابة عنها.
واستنجد بـ”أجدادي شعراء الشعب”، ممن أحسنوا أدب الرحلة، وهو يدخل الخرطوم، عاصمة البلاد، للمرة الأولى حين قدم إليها ليدرس القانون في جامعة الخرطوم عام 1959. وقال عن أهل أريافها في منطقة الجزيرة قبل دخولها إنهم “الجلابة” (التجار السارحة)، مصدر الشكوى التي يذيعها “الدعم السريع”، الذين انبثوا في نواحي القطر لهم أذن “تسمع رنة قرش في المريخ” ولكن لهم عيوناً “تعرف لون الذئب الرابض للقطعان. وسواعد حين يجد الجد تطيح”. واستغرب للخرطوم حين دخلها بطولها التياه حتى شك أن لو ضل القطار إلى مدينة خارج السودان الذي عرفه. واشتكى خلو أرصفة محطتها من المستقبلين مَن زينوا باحات المحطات غيرها. فخرج لا يحضن سوى الشارع الذي تلقفه وأجداده الشعراء في حين يتغنى المذياع بإرثهم. وسيأتي يوم “يصرخ للخرطوم في أذنها” يشكو شباباً مشرداً عن غرغرة موسيقاها من “وراء صمتها الحرون”.
أما نسبته إلى أولئك الأجداد، فكانت في بحث باكر صدر في كتاب بعنوان “الفكر السوداني: أصوله وتطوره”. وقال إنه عكف عليه خلال عطلة صيفية جامعية قضاها في ضيافة صديقه الشاعر محمد عبدالحي بالخرطوم، وهي ما ربط بينهما لاحقاً في مدرسة أدبية عُرفت بـ”الغابة والصحراء” مجازاً في تكوين السودان العرقي من عرب وأفارقة. وهي الهجنة التي تعقبها ود المكي لاحقاً في “زنزبارياته”، أي قصيدته المطولة عن زنجبار. فقرأ في نص الجزيرة مزيجاً عربياً آخر صنيع السودان:
الله يا خلاسية
يا بعض عربية
وبعض زنجية
وبعض أقوالي أمام الله
ضمي رفاتي ولفيني بزندك
ما أقواك
عارية وزنجية
وبعض عربية
أما أخطر رحلاته في تكوينه الشعري، فقد كانت تلك التي قام بها إلى ألمانيا الغربية في أبريل 1962. فانقطع عن الدراسة في جامعة الخرطوم لعام كامل مخاطراً بنسب الشباب الأوروبي مثله. وصحبه فيها زميله بكلية القانون الشاعر النور عثمان. وإلى تلك الفترة يرجع ود المكي تبلور فكرة مفهوم الغابة والصحراء التي خرجت من أروقة جامعة الخرطوم تذيع الهجنة العربية- الأفريقية هوية للسودانيين. وأمن ود المكي على أن النور هو من سك المفهوم. وجاء ود المكي من هذه الرحلة بشعر غاية في الجزالة والتمرد كان رفاقه في رابطة الأدباء بجامعة الخرطوم يصغون له بورع ويستعيدونه. وجاء في هذه النسبة بالنزاع الذي انتابه في ألمانيا بين الوطن والغرب. واستبطن ذلك النزاع شوق لإرواء الشباب وهي السن العاطلة في السودان حتى قال الشاعر التجاني يوسف من قبله عنها إنها “يبس مراعيها”. وبلغ تجفيف حياة الخرطوم من المرأة في الخمسينيات حد صدور كتاب عنوانه “في البلد الذي بلا نساء”. فبإزاء دعوة الأهل لود المكي إلى العودة، يقول كيف الرجوع “ولم أفنَ ضرع الحياة احتلاباً” في حين يصخب ليله فيها، فـ”تعاوينا سعاراً” و”يثب الجاز إلى أعصابنا”. وأخرس ود المكي “تعاويذ الجدود” الرقيبة هنا ريثما يغيرها في وقته المناسب.
لود المكي عبارة عجية في إرادة التغيير، فقال إنه كانت في أوروبا “مجاعة للفعل” ومطلبه في عودته منها ليس في تغيير محض نظام سياسي. مطلبه أن يحيا كما يستحق لإنسان أن يحيا في مدينة لا تزال قرية، مرحلة الشباب فيها إعداد رصين للشيخوخة والمرأة فيها لماماً. كان مطلبه هو “الحق في المدينة” في معنى من معاني الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير. وهي مدينة بدا أنها خلت من الأجداد للمرة الأولى:
سأعود في كفي سيف الرفض والرؤيا
كم ذا لعنت قنوعكم وخنوعكم
وقعودكم صرعى
على أجداث من سلفوا وما تركوا لكم
إلا قصور ذواتهم عن قمة الفرح المؤشب والحياة.
متى غاب ود المكي في طيات أكتوبرياته كما أردنا له غاب عنا أن ثورته لم تكُن تغيير نظام ديكتاتوري بآخر ديمقراطي كما فهم كثيرنا عن أكتوبر. كان جوعه للفعل جوعاً وجودياً ينبثق من شباب “الجراح الصادحة”.
من غيرنا ليقرر التاريخ والقيم الجديدة والسير
من غيرنا لصياغة الدنيا وتركيب الحياة القادمة
جيل العطاء المستجيش ضراوة ومصادمة
جيلي أنا
فجيله خارج لتركيب الحياة التالية للنظام المقبل لا النظام المقبل، وهو نفس ما رنا له الشاعر التجاني يوسف بشير قبل ثلاثة عقود وسماه “الوجود المغاير”.
تكتنف ثورة أكتوبر تحليلات طعنت فيها من جهة أنها لم تقِم نظاماً ديمقراطياً كما أرادت، وبلغت هذه المطاعن عند كُتاب مثل الدكتور الوزير منصور خالد والمؤرخ الوزير حسن عابدين والأكاديمي النور حمد أن قالوا إنها حتى ولا ثورة. ونظروا جميعاً إلى العائد السياسي في النظم التي تناسلت منها. ولم يسعدهم. ولأنهم لم يفقهوا “مجاعة الفعل” لود المكي فات عليهم تثمين اعتراف الثورة بمواطنة المرأة والشباب فوق الـ18 وإلى يومنا. تتغير النظم التي قد تسيء للجماعتين بغير أن تجرؤ على نزع هذه المواطنة عنهما. والاعتراف بمواطنة النساء والشباب من مشمولات تركيب الحياة المقبلة التي تشوف لها ود المكي لا النظم السياسة التالية فحسب. وقيل عن الثورة الفرنسية (1789) إنها خرجت لتكوّن الدولة علمانية إلا أنها لم تصبح كذلك إلا بدستور 1905، بعد نحو قرن من اندلاعها، وعلى استحياء بقوله بفصل الدين عن الدولة. وانتظرت فرنسا حتى دستور 1958 لتعلنها علمانية صريحة. ولكن لم تعُد علاقة الدين بالدولة بعد الثورة في فرنسا مثلها قبل الثورة بأي حال من الأحوال. ولم يطعن أحد في الثورة الفرنسية لهذا الإرجاء المبالغ فيه من دون تحقيق هدف أسمى لها.
لم يغنِّ ود المكي للثورة كما بدا من الحفاوة به لأكتوبرياته. لقد اخترعها.

عبد الله علي إبراهيم

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: ثورة أکتوبر

إقرأ أيضاً:

“الطيران المدني” يُصدر تصنيف مقدِّمي خدمات النقل الجوي والمطارات لشهر أكتوبر الماضي

أصدرت الهيئة العامة للطيران المدني اليوم, مؤشر تصنيف مقدمي خدمات النقل الجوي والمطارات، من واقع عدد الشكاوى المرفوعة من المسافرين للهيئة خلال شهر أكتوبر 2024.

وأوضحت أن عدد شكاوى المسافرين على الناقلات الجوية بلغ “1029” شكوى، مبينةً أنَّ “طيران أديل” جاء أقلّ شركات الطيران شكاوى، بواقع “11” شكوى لكل 100 ألف مسافر، وبنسبة معالجة للشكوى بالوقت المحدد لشهر أكتوبر إلى 99%, بينما حلَّت الخطوط الجوية السعودية ثانيًا بواقع “12” شكوى لكل 100 ألف مسافر، وبنسبة معالجة للشكوى بالوقت المحدد إلى 99%، وجاء ثالثًا طيران ناس، حيث وصل عدد الشكاوى إلى “12” شكوى لكل 100 ألف مسافر، وبنسبة معالجة للشكوى بالوقت المحدد إلى 100%، وذلك وفقًا لرصد المؤشر، حيث جاءت أكثر تصنيفات الشكاوى تداولًا لشهر أكتوبر عن خدمات الأمتعة أولًا، ثم التذاكر، ثم الرحلات.

وأشارت الهيئة إلى حصول مطار الملك خالد الدولي بالرياض على أقل المطارات من حيث الشكاوى المرفوعة للهيئة بما نسبته 0.4% لكل 100 ألف مسافر، وذلك في المؤشر الخاص بالمطارات الدولية التي يزيد أعداد المسافرين فيها على 6 ملايين مسافر سنويًا، وبواقع 12 شكوى، وبنسبة معالجة للشكاوى بالوقت المحدد وصلت إلى 100%.

كما حصل مطار الأمير نايف على أقل المطارات من حيث الشكاوى المرفوعة للهيئة، وذلك في المؤشر الخاص بالمطارات الدولية التي يقل أعداد المسافرين فيها عن 6 ملايين مسافر سنويًا بما نسبته 2% لكل 100 ألف مسافر بواقع شكوتين، وبنسبة معالجة للشكاوى بالوقت المحدد وصلت إلى 100%، وفي المؤشر الخاص بالمطارات الداخلية كان مطار بيشة هو أقل المطارات من حيث الشكاوى المرفوعة للهيئة بما نسبته 3% لكل 100 ألف مسافر بواقع شكوى واحدة، وبنسبة معالجة للشكاوى بالوقت المحدد وصلت إلى 100%.

اقرأ أيضاًالمجتمعأمير القصيم يطلق مبادرة “إحنا نجيكم” بالمنطقة للوصول إلى الأشخاص ذوي الإعاقة في مواقعهم

وأبانت هيئة الطيران المدني أنَّ إصدار التقرير الشهري لمؤشر تصنيف مقدمي خدمات النقل الجوي والمطارات “من حيث الشكاوى المرفوعة للهيئة”؛ يهدف إلى تقديم معلومات للمسافرين عن أداء مقدمي خدمات النقل الجوي والمطارات في حلِّ شكاوى عملائهم، ليتمكن المسافرون من اختيار مقدم الخدمة المناسب، فضلًا عن تعزيز الشفافية وإظهار مصداقية الهيئة، وحرصها على شكاوى المسافرين، وتحفيز المنافسة العادلة بين مقدمي خدمات النقل الجوي والمطارات لتطوير وتحسين الخدمات.

ودعمًا من الهيئة العامة للطيران المدني لشركاء النجاح لديها من المطارات؛ أعدَّت الهيئةُ كُتيِّبًا يتضمنُ إرشادات لكيفية التعامل مع شكاوى المسافرين في المطارات، حيث تم توزيعه على مشغلي المطارات، يتضمن تحديد الضوابط، واتفاقيات مستوى الخدمة التي يجب الالتزام بها لجميع أنواع الشكاوى والاستفسارات، إلى جانب تدريب موظفي شركات الطيران الوطنية، وشركات الخدمات الأرضية ممن لهم علاقة مباشرة بالمسافرين على الالتزام باللائحة التنفيذية لحماية حقوق العملاء، وذلك عن طريق إقامة ورش عمل.

يُذكر أنَّ الهيئةَ وفَّرَت قنوات تواصل متعددة على مدار الساعة لتحقيق ضمان التفاعل مع المسافرين ورواد المطار عن طريق قنوات الاتصال التالية: مركز الاتصال الموحد “1929”، وخدمة “واتس آب” على الرقم 0115253333، وحسابات مواقع التواصل الاجتماعي، والبريد الإلكتروني، والموقع الإلكتروني، حيث تتلقى شكاوى إصدار بطاقات الصعود، وتعامل الموظفين، وخدمة الأشخاص ذوي الإعاقة والحركة المحدودة وغيرها.

مقالات مشابهة

  • تجربة بدر بن عبد المحسن في "العين للكتاب"
  • بدر بن عبد المحسن.. تجربة متفردة توجته بلقب أمير الشعر العربي
  • “الطيران المدني” يُصدر تصنيف مقدِّمي خدمات النقل الجوي والمطارات لشهر أكتوبر الماضي
  • “مهرجان الأقصر للشعر” يتواصل وسط زخم إبداعي
  • بعد أن اتهمها بسرقة قصيدته وغنائها.. أحلام ترد: “أبشر.. إن كان لك حق تأخذه من عيوني”
  • تكريم خريجي دورات “طوفان الأقصى” من موظفي شركة النفط بالحديدة 
  • تجليات الحنين في بيت الشعر بالشارقة
  • مواسم المطر وتجليات الوطن في بيت الشعر بالشارقة
  • الرباط.. مئات المغاربة في وقفة تندد بالإبادة الإسرائيلية في غزة
  • «بوح البادية».. قصائد مختارة لشعراء المنيا ضمن إصدارات مؤتمر الأدباء