ثورة أكتوبر وتوق الشعب السوداني إلى حركة حقوق مدنية (4-6)
تاريخ النشر: 28th, October 2024 GMT
مجتزأ من ورقة: عبد الله الفكي البشير، “ثورة أكتوبر ومناخ الستينيات: الإنجاز والكبوات (قراءة أولية)”، نُشرت ضمن كتاب: حيدر إبراهيم وآخرون (تحرير)، *خمسون عاماً على ثورة أكتوبر السودانية (1964- 2014): نهوض السودان المبكر*، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 2014.
قيام حركة الأنيانيا في جنوب السودانشهد العام 1963 ميلاد التنظيم العسكري للأنيانيا القائم على فكرة المعارضة المسلحة.
كانت بداية الثورة في مساء 21 أكتوبر، حيث أقام طلاب جامعة الخرطوم ندوة لمناقشة تطورات الحرب الأهلية، فواجهت السلطات ندوة الطلاب بقوات شرطة الطوارئ بهدف إيقافها، ولكن الطلاب رفضوا وواصلوا ندوتهم. هاجمت الشرطة الندوة، ووقع صدام أدى إلى مقتل الطالب أحمد قرشي طه وجرح كثيرين وإصابة آخر بجروح خطيرة. كان استشهاد القرشي الشرارة. وتحول تشييع جثمانه في صباح اليوم التالي إلى مظاهرة سياسية قادها أساتذة الجامعة وطلابها، وانضمت إليهم المنظمات الأخرى. تطورت الأحداث حتى جاء إعلان الإضراب السياسي العام. وتكونت في الحال جبهة الهيئات من المحامين والقضاة وأساتذة الجامعة والنقابات المهنية والعمالية. وشهدت الفترة من 24 حتى 26 أكتوبر اتساع الإضراب السياسي الذي بلغ قمته بدخول عمال السكة الحديد. وتحرك الضباط الأحرار ورفضهم نزول الجيش للشارع لضرب المتظاهرين، وضغطهم على الرئيس عبود ليحل المجلس الأعلى، وكانت تلك نقطة حاسمة في مسار الثورة. وفي مساء 26 أكتوبر أعلن حلّ المجلس العسكري. وهكذا سقط الحكم العسكري بعد ستة أيام من الصراع الضاري.
تولت جبهة الهيئات مع الجبهة الوطنية التي كونتها الأحزاب، قيادة الأحداث والتفاوض مع القيادات العسكرية لتسليم السلطة للمدنيين. ووضعت “ميثاق أكتوبر”. وتشكلت حكومة انتقالية برئاسة سر الختم الخليفة. وفي أول خطاب له في 10 نوفمبر 1964 عن قضية الجنوب، أعلن سر الختم الخليفة رئيس الوزراء أن حكومته تعتقد اعتقادا راسخا أن القوة ليست حلا لمشكلة الجنوب، وتشعر بأن استعمال القوة قد زادها تعقيداً. ثم قال إن حكومته “تعترف بكل شجاعة ووعي بفشل الماضي وتواجه صعوباته، كما أنها تعترف بالفوارق الجنسية والثقافية بين الشمال والجنوب التي تسببت فيها العوامل الجغرافية والتاريخية”. وعلى أساس الاعتراف بمثل هذه العناصر في المشكلة، أعلن رئيس الوزراء أن حكومته تنوي اتخاذ سياسة تهدف إلى إعادة الثقة بالجنوب، وستأخذ بعين الاعتبار آراء المثقفين من أبناء الجنوب. ومن ثم فتحت حكومة أكتوبر الانتقالية قنوات اتصال مع القيادات الجنوبية بالخارج، وأعلنت في 10 ديسمبر 1964 العفو عن جميع السودانيين الذين هاجروا للخارج من أول يناير 1955. وتبنت الحكومة اقتراح حزب سانو بالدعوة إلى مؤتمر المائدة مستديرة للنظر في موضوع العلاقة الدستورية بين الشمال والجنوب.
عُقد مؤتمر المائدة المستديرة حول جنوب السودان من السادس عشر إلى التاسع والعشرين من شهر مارس عام 1965، وهو بمثابة “أول محاولة سودانية جادة للبحث عن السلام”، برئاسة مدير جامعة الخرطوم، الدكتور النذير دفع الله، وثمانية عشر ممثلاً عن الأحزاب السياسية الشمالية، وأربعة وعشرين من السياسيين الجنوبيين. وبحضور مراقبين من الأحزاب الحاكمة في الأقطار التالية: يوغندا، كينيا، تنزانيا، غانا، الجمهورية العربية المتحدة، نيجيريا والجزائر. إلى جانب حضور ممثلي حكومة يوغندا للمؤتمر كمراقبين. وحددت أهداف المؤتمر فيما يلي: “بحث مسألة الجنوب بغرض الوصول إلى اتفاق يكفل المصالح الإقليمية للجنوب كما يكفل المصالح القومية للسودان”. لم يتمكن مؤتمر المائدة المستديرة من الوصول إلى قرار إجماعي حول المسائل الإدارية والدستورية. كتب يوسف محمد علي، عضو سكرتارية المؤتمر ورئيس لجنة الاثني عشر، قائلا: “وتكشف وقائع جلسات المؤتمر أن البداية لم تكن مشجعة، بل كانت على العكس تنذر بالفشل. وأمكن بعد جهد الاتفاق على تكوين لجنة للمتابعة- هي لجنة الاثني عشر” التي أسندت إليها مهمة البحث عن حل في ذلك الخصوص. وفي البيان الختامي الذي أصدره المؤتمر، أكد ممثلو الأحزاب والهيئات على حتمية المصالحة الوطنية. وجاء في البيان أن المؤتمر نجح في تهيئة الفرصة للزعماء السياسيين للالتقاء لأول مرة منذ سنوات في جو ودي لتبادل وجهات النظر حول قضية جنوب السودان. وتبنى المؤتمر بالإجماع سياسات تهدف إلى تطوير الجنوب وتطبيع الأحوال فيه. لاحقاً رفعت لجنة الاثني عشر التي كلفها المؤتمر بدراسة الهيكل الدستوري والإداري الذي يكفل المصلحة الخاصة للجنوب وكذلك المصلحة العامة للسودان، رفعت تقريرها إلى رئيس الوزراء الصادق المهدي في 26 يونيو 1966، وقد وقعت على التقرير جبهة الجنوب، وحزب سانو، وحزب الأمة، والحزب الوطني الاتحادي، وجبهة الميثاق الإسلامي، وجبهة الهيئات. وكان حزب الشعب الديمقراطي والحزب الشيوعي قد انسحبا من اللجنة بحجة استمرار أعمال العنف في الجنوب. ومثلما أخفق المؤتمر كذلك كان مصير لجنة الاثني عشر. تبع ذلك أن عُقد في أكتوبر 1966 وبمبادرة من رئيس الوزراء آنذاك الصادق المهدي مؤتمر الأحزاب السودانية برئاسة محمد صالح الشنقيطي. كان من المفروض بمقتضى البيان الختامي لمؤتمر المائة المستديرة دعوة المؤتمر للانعقاد مرة ثانية، ولكن الأحزاب الشمالية والجنوبية اتفقت على أنه لا ضرورة لذلك، وقررت رفع تقرير لجنة الاثني عشر ونتائج أعمال مؤتمر الأحزاب إلى اللجنة القومية للدستور التي بدأت أعمالها في فبراير 1967 فوضعت مشروع دستور السودان الدائم أمام الجمعية التشريعية في 15 يناير 1968. وكان ذلك الدستور أحد الكبوات الكبرى التي قادت إلى نسف السلام والاستقرار ووحدة البلاد.
القادة والعبث بإرادة الجماهير والفوضى الدستوريةإن ثورة أكتوبر دشنت صراعاً مكشوفاً بين قوى الحداثة والتجديد مقابل القوى الرجعية التقليدية المحافظة. وحملت شعارات أكتوبر مبادئ ومطالب لدولة ديمقراطية حديثة بدءاً من قانون انتخابات جديد وممثل للتطلعات، مروراً بالوحدة الوطنية وحل مشكلة الجنوب ثم إلغاء الإدارة الأهلية، نهاية بالتنمية المستقلة. لقد ثارت الجماهير من أجل استعادة الديمقراطية، وضد سياسة الحسم العسكري في جنوب السودان، وهي تتشوق لتحقيق التسوية الوطنية وبناء الوحدة. كان مؤتمر المائدة المستديرة فرصة عظيمة للانحياز لمبادئ ثورة أكتوبر وأشواق الجماهير في تحقيق التسوية الوطنية وبناء الوحدة، غير أن حكومة الأحزاب التقليدية نكصت بعهدها في تطبيق توصيات المؤتمر، وعاد قادة الكفاح المسلح لممارسة القتال، وتفاقمت حالة الحرب الأهلية بعد المجازر الجماعية للجنوبيين في واو وجوبا. أكثر من ذلك أن الأحزاب التقليدية كلها لم تكن تعمل على تحقيق مبادئ أكتوبر، بل إنها جلها عملت على إجهاض ثورة أكتوبر”. فقد تآمرت على سر الختم الخليفة رئيس مجلس الوزراء، فقدم في يوم 18 ديسمبر 1965 استقالته بعد أن وجد نفسه عاجزا عن إيجاد الحلول للمسائل المتنازع عليها.
abdallaelbashir@gmail.com
الوسومعبد الله الفكي البشيرالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: عبد الله الفكي البشير مؤتمر المائدة جنوب السودان رئیس الوزراء ثورة أکتوبر
إقرأ أيضاً:
شكلت ثورة أكتوبر نقلة نوعية في وعي شعبنا الديمقراطي ( 5 – 5)
هذا هو الجزء الخامس والأخير من دراسة " أحدثت ثورة أكتوبر نقلة نوعية في الحركة النقابية العمالية". ناقشت الأجزاء السابقة العوامل التي ساعدت على قيام النقابات، ووضع النقابات خلال الحكم الوطن الأول ثم نضالها ضد الحم العسكري، ونهوضها العارم في فترة ما بعد الثورة.
نشأت الحركة النقابية العمالية في معمعة النضال ضد الادارة الاستعمارية، ومشروعها الرامي لقطع الطريق على قيام نقابات مستقلة كاملة الصلاحيات. ادى نجاحها في مواجهة المشروع الاستعماري لتأسيس حركة نقابية عمالية مقاتلة وعنيدة في الدفاع عن استقلالها وتفخر بانها، في جوهرها ، تنظيم ديمقراطي في وطن يتميز بالانقسام الطائفي والديني والجهوى والقبلي واللغوي. تلك السمات الموروثة ، منذ لحظة الميلاد ، كانت اساس او محور قوة الحركة النقابية العمالية وفى نفس الوقت كعب اخيلها. فقد ساعدتها تلك النشأة في ان تلعب دورا قوميا متميزا وهاما ولكنها ، وفى نفس الوقت ، جلبت لها عداء الحكومات المختلفة ، مدنية او عسكرية ، بالإضافة لعداء القوى التقليدية التي تريد الحفاظ على نظام امتيازاتها الموروث منذ العهد الاستعماري ولا تقبل التفريط فيه. استقلالية الحركة النقابية وديمقراطيتها جعلها تلعب دورا بارزا في مناهضة الاستعمار واسقاط حكمه وفى الدعوة للتغيير الاجتماعي وتتقدم الصفوف لمواجهة الحكم العسكري الاول مما ادى لتمثيلها في اعلى سلطة سياسية في البلاد بعد انتصار الثورة. كما شاركت الحركة العمالية بفعالية في معركة الدفاع عن الديمقراطية واستقلال القضاء و حكم القانون. تمسك الحركة باستقلالية قرارها جلب لها عداء الحكومات والاحزاب التقليدية فحاولت تدجينها باستخدام سلطة القانون كما حدث في 1966 في محاولة لخلق انقسامات وضرب الوحدة النقابية عن طريق انشاء عدة مراكز نقابية. او حتى اتهام قادتها بالمشاركة في انقلابات مزعومة مثلما حدث للشفيع احمد الشيخ ، ووصل العداء قمته بالتصفيات البدنية ، واعتقال وتشريد الالاف وحل مؤسساتها مثلما حدث بعد فشل انقلاب يوليو 1971. مما شكل هزيمة كبيرة للحركة النقابية العمالية ، وادى لتراجعها عن مواقعها القيادية السابقة واحتلال نقابات المهنيين لتلك المواقع والتصدي لقيادة معركة التغيير الديمقراطي
ونعتقد ان تلك الهزيمة ، التي المت بالحركة العمالية ، كانت سببا اساسيا في ضعفها ، الواضح و الظاهر للعيان ، خلال السنوات التي اعقبت يوليو 1971. و سيطرت ، منذ ذلك الحين ، على قيادة الحركة النقابية العمالية العناصر المهادنة او الصديقة للأنظمة الحاكمة. ونقول انه رغم الهزيمة الا انه من السابق لأوانه الحديث عن التصفية النهائية والتدجين الكامل للحركة العمالية السودانية. خاضت الحركة ، خلال حكم نظام مايو ، معارك متفرقة في 1973 و1975 و1978 و1981 ورغم دورها الضعيف في انتفاضة 1985 الا انها هبت مرة اخرى في انتفاضة السكر في ديسمبر 1988. نجاح نظام الانقاذ في تدجينها خلال الحقب الماضية مؤشر خطير للازمة المزمنة للحركة العمالية السودانية في قيادتها وكوادرها وبرامج عملها ، وهو موضوع خارج نطاق هذه الورقة.
نلاحظ ، على ضوء قراءة الواقع الراهن للاقتصاد السوداني ان الازمة الاقتصادية المستحكمة ليس من المنظور الفكاك منها في ظل الوضع الحاكم الحالي والسياسات الراهنة. هذا الوضع الاقتصادي المزرى يؤدى حتما لتدهور مريع ومستمر لمستوى معيشة العاملين ويضيف مزيدا من الضيق والانكماش على سوق العمل ، الضيق اصلا ، مما يرغم العاملين على التفكير الجاد حول دور نقاباتهم وضرورة ممارساتها لمهاها الاساسية في الدفاع عن حقوقهم. تفعيل النقابات ، الناتج عن الضغوط المعيشية ، سيؤدى حتما للاصطدام بسياسات النظام الاقتصادية ومن ثم بالنظام نفسه. هذه العملية ليست سهلة او بسيطة كما تبدو في الظاهر وذلك لوجود حلقة مفقودة هي قلة القيادات النقابية المخلصة والمنحازة لقواعدها والموجودة بينها في الورش والمصانع بسبب التشريد المستمر او رفض تعيين من يملكون خبرة نقابية حاليا.
تصفية القطاع العام ، حيث قوة تأثير الحركة العمالية ، وقانون النقابات المبنى على نقابة المنشاة ، وعسكرة الاقتصاد بعشرات الشركات التابعة للأمن و الجيش ، وقلة فرص العمل ، وتشريد الالاف من العمال الذى خبروا الحركة النقابية وتمرسوا في مدرستها ، و كمثال تم فصل 4 الف عامل من السكة الحديد في يوم واحد ، وجيوش العاطلين المتشوقة للعمل أي عمل ، كل ذلك يخلق صعوبات حقيقية امام اعادة تنظيم الحركة النقابية العمالية. وكمثال للضعف الذى تعانيه الحركة العمالية حاليا نرى انخفاض سقف مطالبها ، وان تحركاتها تتم لمطالب اقل من مطالب الحد الادنى المعروفة سابقا لتحسين الأجور والاوضاع المعيشية. الان المطالب تتركز حول عدم صرف الاجور والاستحقاقات ، على قلتها ، وعدم مواكبتها للتضخم او توفيرها للحد الادنى لحفظ الحياة. ورغم هذا التغيير الهيكلي والنوعي في تركيبة الطبقة العاملة ، وفى نسبة العاملين المنظمين في نقابات وفى انعدام الثقة بين القواعد النقابية وقياداتها ، الا ان احد دروس اكتوبر يحمل في داخلة بذرة حقيقية للتفاؤل. ففي ثورة اكتوبر جاءت مشاركة العمال في الثورة بقيادة العناصر الديمقراطية واليسارية وليس من خلال قيادة النقابات العمالية. وهذا درس هام للمستقبل.
التوسع الصناعي الذى تم مؤخرا لتغطية احتياجات السوق المحل ، ادى للتوسع في استيعاب العمال والفنيين مما سيؤدى لإضافة دماء جديدة ذات قدرة معرفية وحماس للطبقة العاملة ، بالإضافة لقيام العديد من خريجي الجامعات والثانويات للعمل كعمال ، لندرة الوظائف ، وضيق سوق العمل ، في ظل توسع أفقي وكمي هائل في التعليم العالي. هذا التحول يذكرنا بالدور الذى لعبه خريجو مدرسة الصنائع في منتصف اربعينات القرن الماضي في تأسيس الحركة النقابية. ونلخص بان الازمة الوطنية العامة ، و التناقض في المصالح الاقتصادية بين العمل وراس المال سيؤدى ، لا محالة ، لعودة الحركة لسابق قوتها ولكن بأجندة جديدة واساليب متنوعة واولويات مختلفة عن السابق.
ونختم قراءتنا هذه بسؤال أساسي اين ذهبت اثار اكتوبر التي احدثت النقلة النوعية في الحركة النقابية العمالية؟ ورغم ان الاجابة ليست سهلة ولا تتوفر لدينا الامكانيات او الادوات لقياس ، ذلك الاثر وما حدث له، بشكل دقيق . ولكننا نقول انه وفى اطار التراجع العام لمشروع اكتوبر كنتاج لصعود قوى تقليدية للحكم تتناقض اهدافها ومصالحها ، الرامية للحفاظ على الوضع التقليدي الموروث للسودان ، مع اهداف اكتوبر الرامية لتغيير ذلك الوضع تم تراجع في اثر اكتوبر على الحركة النقابية العمالية. ذلك التراجع ادى لصعود عناصر لقيادة الحركة العمالية ، ذات توجه للتصالح مع كافة الانظمة ، بل وعمل بعضها علنا مع النظام العسكري الاول ثم عاد بعد اكتوبر ليعمل مع الاحزاب التقليدية ثم ليعمل مع مايو ثم مع الاحزاب التقليدية والان مع الانقاذ. اضافة لان انقطاع التواصل بين الاجيال ، بسبب التشريد او اغلاق المؤسسات، فاقم من صعوبة نقل الخبرات والتجارب للأجيال النقابية الجديدة والتي تعرض اغلبها للدعاية الايدولوجية المنظمة للنظام الأسلاموي على مدى ربع قرن من الزمان حتى الان. ولكننا لا نتفق مع الرأي القائل بان ميراث اكتوبر قد اندثر للابد لان ما نشاهده من وعى سياسي عام ورفض متواصل لدكتاتورية عسكرية تلبست بمسوح الدين هو دليل على بقاء روح اكتوبر. وهذا التطلع المشروع للبديل الديمقراطي من اجيال لم تعش تجربة ثورة اكتوبر لهو دليل ساطع البرهان ان روح اكتوبر وميراثها لا يزالان في ذاكرة الاجيال القديمة والاجيال الجديدة سواء. لأنه لا يمكن ، مهما تزايد القمع ومحاولات تشويه ذاكرة الشعوب ، ان تمحو تجربة ضخمة كالثورات التي تمتد جذورها بعيدا في وعى الشعوب رغم انها لا تطفو على السطح كل الوقت.
مؤشر اخر أكثر تفاؤلا حول مستقبل الحركة العمالية ، هو انتعاشها في ظل الديمقراطية . وواقع الازمة المزمنة التي يعيشها وطننا تشير الى ان نظام الانقاذ قد وصل لطريق مسدود ولا مستقبل له مهما تفنن في تجميل نفسه ، او بإدخال حلفاء جدد معه ، وانه لا بديل غير نظام ديمقراطي تعددي ينبني على دولة القانون والمواطنة. وانتصار الديمقراطية سيفتح الباب واسعا امام اعادة بناء كل المؤسسات الديمقراطية ومن ضمنها المؤسسات النقابية وحينها سيذهب الزبد هباء ويبقى ما ينفع العمال.
ان اكتوبر لن تتكرر مرة اخرى بنفس السيناريو الذى حدث في 1964، لان مياه كثيرة قد عبرت تحت الجسر السوداني. ولكن اكتوبر ستعود في ثوب جديد يعبر عن التحولات الاقتصادية والاجتماعية والاثنية التي عصفت بالسودان التقليدي الموروث. اكتوبر ستكون كالعنقاء التي تبعث من جديد. وبهذا الانبعاث الجديد ستجرى دماء جديدة في شرايين الحركة النقابية السودانية ، اذ انها ،كما جاء في الكتاب الذى أصدره اتحاد النقابات العالمي عن الشفيع احمد الشيخ بعد اعدامه في يوليو 1971 ، حركة " لن تفنى ... لأنها ليس بريق ضوء خافت ينطفئ بعد لحظات ، ولا فقاعة صابون تتلاشى في ثوان . فالأحداث تثبت ان هذه الحركة ولدت لتعيش ، وستبقى ما بقيت تلك السواعد القوية التي اقامتها وطورتها ، وما دام حيا ذلك الفكر الذى اوجدها وسار بها في طريق النصر. "
siddigelzailaee@gmail.com