يهتم علم اجتماع النصوص الروائية بتحليل الأعمال من الداخل تحليلًا يعتمد على المستوى التركيبي للنص، ليكشف من خلاله عن العلاقات الاجتماعية بين الواقع المعيش وعالم الرواية.

ميخائيل ميخايلوفيتش باختين (1895-1975) ممن قدموا إسهامات معتبرة في هذا السياق، فهو منظر وناقد روسي يعد من أشهر نقاد القرن الماضي، درس أعمال مواطنه فيودور دوستويفسكي (1821-1881) دراسة متأنية، ثم أصدر كتابا عنوانه "شعرية دوستويفسكي"، عام 1929، يعد من أفضل ما كتب عن صاحب "الجريمة والعقاب"، شكل من خلاله نظرية نقدية ذات تأثير متنام.

كتاب "شعرية دوستوفيسكي" لميخائيل ميخايلوفيتش باختين (الجزيرة)

في الكتاب، عالج باختين جانبي الشكل والمضمون (الأيديولوجية) بما يلغي القطيعة بينهما، وتوصل من خلاله إلى عدد من الاستنتاجات، في مقدمتها أن "دوستويفسكي هو مبتكر الرواية المتعددة الأصوات"، وقال مؤكدا ذلك "لقد أوجد صنفا روائيا جديدا بصورة جوهرية"، وفند مزاعم النقاد القائلين إن شخصيات دوستويفسكي فلاسفة ومفكرون يتحدثون باسمه.

مصطلح "تعدد الأصوات" -وهو من مسكوكات باختين- يضاهي مصطلحا آخر عنده هو "الحوارية"، فالرواية المتعددة الأصوات البوليفونية Polyphonie) ) هي الرواية الحوارية Dialogisme)) أو الديالوجية، وتقابلها الرواية التقليدية، الأحادية الصوت، أو الرواية المناجاتية أو المونولوجية (Monologisme)، تلك التي رفضها باختين جملة وتفصيلا.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2نبش في الأحوال التونسية.. “القلم اللاذع في الوقت المائع”list 2 of 2فعاليات وجسور تواصل.. اختتام النسخة العاشرة من مهرجان كتارا للرواية العربيةend of list

مصطلح تعدد الأصوات نجد معناه لدى نقاد آخرين بأسماء مغايرة منهم من سبق باختين، مثل هنري جيمس الذي سماه "وجهة النظر"، ومنهم من لحقه مثل جيرار جينيت الذي أطلق عليه "التبئير"، ثم تزفيتان تودوروف الذي خلع عليه تسمية "الرؤية السردية/ الرؤية من زوايا مختلفة".

يميز باختين بين الخطاب الأحادي (المونولج) والخطاب الحواري المتعدد الأصوات؛ فالأول يناسب الخطاب الملحمي والخطاب التاريخي والخطاب العلمي، والثاني يناسب الرواية.

"ميخائيل باختين" الفيلسوف الروسي ومنظر الثقافة والفن الأوروبي (مواقع التواصل)

انبنى رفض الرواية الأحادية الصوت على فكرة وجيهة، فهي تقدم وجهة نظر واحدة، دكتاتورية تسعى لتأكيد أيديولوجيا واحدة، لا تتيح التنوع الفكري والاجتماعي والسياسي… إلخ، لذلك فإنها لا تمثل الواقع الجديد في شيء، ذلك الواقع الذي يموج بهويات مختلفة ومتصارعة وأيديولوجيات متشابكة ومعقدة، لا سيما أن الطبيعة -بجوهر تركيبها- متعددة الأصوات، وعليه فإن إفساح المجال للتعددية أضحى ضربة لازب!

يرى عدد من الباحثين والنقاد أن تعدد الأصوات ظهر في روسيا مع ظهور الرأسمالية، وذهب بعضهم إلى أن الإنجليزي وليم شكسبير والفرنسي أونوريه دي بلزاك سبقا دوستويفسكي إلى تعدد الأصوات، استنادا إلى أنهما عاصرا موجة من الرأسمالية، غير أن باختين يفند ذلك، ويرى أسبقية دوستويفسكي في هذا المضمار، ويقول إن بعض تلك الملامح ظهرت في مجمل أعمال شكسبير، لكنها ليست موجودة مجتمعة في مسرحية واحدة من كتاباته.

الصفحة الأولى من مخطوطة شكسبير المحفوظة في متحف فيكتوريا وألبرت (الجزيرة)

زعم جورج لوكاتش أن "الرواية هي النوع النموذجي للمجتمع البرجوازي"، وأشار إلى أن "تناقضات المجتمع الرأسمالي هي التي تقدم لنا مفتاح فهم الرواية من حيث إنها نوع أدبي قائم بذاته"، نفهم من ذلك أنه بغياب المجتمع البرجوازي ستنفض سوق الرواية، لكن الواقع الراهن يخالف ما ذهب إليه لوكاتش.

يختلف تعدد الأصوات عما عرفته أنواع أدبية باسم "صوت المؤلف"، فالتعبير اللغوي يبدو مباشرا في أعمال مثل الشعر الغنائي والملحمة والقصيدة القصصية، بينما تجده بصورة مغايرة في الرواية وما يشبهها من الأعمال الأدبية، فشخصية المؤلف هنا تتخلل شخصيات العمل وتتوزع بينها، ولا تعبر عن نفسها بفجاجة، إذ لا وجود للعزف المنفرد، إنه عمل أوركسترا تتواشج فيه الآراء والرؤى وتتصارع.

لتحقيق مبدأ الحوارية، يشدد باختين على "حياد المؤلف"، إذ يجب أن يقف الكاتب على مسافة واحدة من كل الأيديولوجيات المعروضة في عمله، ويحتفظ بموقفه لنفسه ولا يدافع عنه في الرواية، وعليه "أن يطرح أشكال الوعي الأخرى التي تناقض موقفه". مع ذلك توجد بعض الحيل التي يتوسل بها المبدع للتأثير في المتلقي بشكل غير مباشر، وسيأتي الحديث عن بعض حيل عبد الله بن المقفع والجاحظ وأبي حيان التوحيدي.

إذا طبقنا ذلك على أعمال دوستويفسكي فإننا نجده حياديا، فلا يتقمص شخصية من شخوصه الروائية يقدم من خلالها أفكاره الخاصة (بطل إيجابي)، ويوجِد لها ندا أو خصما (بطل سلبي) يعيره كل ما يرفضه -دوستويفسكي- من أفكار، إنما يعرض بضاعة هذا وذاك دون أن يتبنى أحدهما، فكأننا في برلمان أدبي عزّ نظيره في دنيا الواقع.

تعدد الأصوات في الأعمال الروائية ألغى هيمنة السارد، لا سيما في الرواية التقليدية (شترستوك)

بكثير من الاطمئنان نقول إن تعدد الأصوات يشي بديمقراطية العمل الروائي، فالسارد/الراوي لا يستلب المتلقي، إنما يعرض زوايا مختلفة ودلالات متصارعة، لا يهيمن على مجريات الأحداث، يترك لكل شخصية مساحة للتعبير عن هواجسها وتطلعاتها وأفكارها واهتماماتها، لا يحاكمها أخلاقيا أو يحجر عليها، يترك ذلك للقارئ، دوره أن ينقل الأحداث بحرفية وحنكة.

ألغى تعدد الأصوات في الأعمال الروائية هيمنة السارد، لا سيما في الرواية التقليدية التي تعكس دكتاتورية يئن منها الواقع الاجتماعي والسياسي، ويسعى للفكاك من إسارها بكل حيلة ووسيلة، فإن لم ينجح في عالم الواقع المعيش، فلا أقل من أن ينتصر في عالم التخييل.

بالحديث عن حياد الكاتب، لم يكن هنري جيمس أول من تمرد على سلطان "الراوي العليم" الكلي المعرفة والمقدرة، المميز للرواية التقليدية، الممسك بخيوط اللعبة بين يديه وتفاصيل الأحداث كافة. يعيد بعض النقاد إلى أرسطو وأفلاطون هذا التمرد، لا سيما في حديثهما عن الفرق بين منظور الراوي ومنطوق الأصوات، فنجد أن أرسطو يمتدح اختفاء الراوي لصالح الأصوات.

محاورات أفلاطون عدها باختين "صنفا أدبيا تحرر من قيوده التاريخية المتعلقة بالذكريات، واتسم بالطابع الأدبي الحر" (مواقع التواصل)

لعلك تسأل: أين صوت الكاتب أو المبدع من أصوات شخوص عمله؟ حياد الكاتب ضروري لتحقيق مبدأ الحوارية، فهو يحتفظ بموقفه لنفسه ولا يدافع عنه في الرواية، يترك كل شخصية تتصرف وفق هواها وطبيعتها الخاصة. في الرواية المتعددة الأصوات يصعب على القارئ أن يعرف على وجه الدقة إلى أي طرف يميل المؤلف، يرتبط ذلك بقدرة المؤلف على إدارة الصراع الأيديولوجي بين شخصياته بصورة محايدة أو شبه محايدة.

تأسيسا على ما تقدم، تكمن براعة الكاتب في التخفي وراء شخصياته، أن يتشظى موزعا اقتناعاته أو أفكاره بين شخوص عمله، برع الجاحظ في ذلك، انظر مثلا "البخلاء"، تجده يقدم سيلا من الطرف والنوادر منها 24 طرفة -متفاوتة الطول- عن بخل أهل خراسان، لم يقنع خلالها بالمباشرة في عرضه الأدبي، إنما تخفى لتمرير رسائل ناقدة للمجتمع وللسلطة، فيستتر في إحداها وراء شخصية عجائبية، مثل الديك المروزي الذي أتقن البخل بمعاشرة أهل مرو، أو يعمد إلى المبالغة أو السخرية والتهكم على الطريقة الكاريكاتيرية كصنيعه في كتاب "التربيع والتدوير"، أو من خلال تفعيل احتجاجاته الفكاهية… إلخ.

على ذكر الجاحظ، فإن أبا حيان التوحيدي وابن العميد الكبير والصاحب بن عباد كانوا يتنافسون على لقب ”الجاحظ الثاني“، ومن نافلة القول أن يتأثروا بهذا العلم الفذ، وعليه نجد التوحيدي في "الإمتاع والمؤانسة" يجيب عن أسئلة صديقه أبي الوفاء المهندس والوزير ابن سعدان، وفي إجاباته نلمس حضورا قويا لتعدد الأصوات، إذ يستند في إجاباته إلى مقولات آخرين لمعارضتها أو للتخفي وراءها، وهي حيلة أخرى من حيل المبدع لتقديم أفكاره وطرحها على المتلقي.

لعل محاورات التوحيدي مع معاصريه تحيل إلى محاورات أفلاطون، تلك التي عدها باختين "صنفا أدبيا تحرر من قيوده التاريخية المتعلقة بالذكريات، واتسم بالطابع الأدبي الحر".

أبا حيان التوحيدي وابن العميد الكبير والصاحب بن عباد كانوا يتنافسون على لقب "الجاحظ الثاني" (مواقع التواصل) الرواية والأيديولوجيا

وفق باختين، فإن الخصائص الأسلوبية والفنية للرواية المتعددة الأصوات تتمثل في تعدد الرؤى الأيديولوجية، تعدد الشخصيات، تعدد اللغات والأساليب، تعدد المنظورات السردية، فضلا عن تعدد الأجناس والأنواع الأدبية.

لا بد أن تكون الرواية حاملة لأيديولوجيات متصارعة، ويستلزم تعدد الأصوات تباين أيديولوجيات الشخصيات بما يضفي على العمل حيوية أكبر، ومن ثم فإن الرواية البوليفونية "ينبغي أن تتأسس على تباين أصوات فردية، وتنوع كلامي منظم اجتماعيا وفنيا".

يرتكز الخطاب -في الرواية المتعددة الأصوات- على أيديولوجيا، فالمتكلم في الرواية دائما منتج أيديولوجيا ولو بدرجات مختلفة، وتمثل كلماته عينة أيديولوجية، هذا ما يؤكده باختين في أكثر من كتاب، ففي "الماركسية وفلسفة اللغة" مثلا يقول "الخطاب المكتوب -بشكل من الأشكال- جزء لا يتجزأ من نقاش أيديولوجي يمتد على نطاق واسع جدا، إنه يرد على شيء ما، يفند ويؤكد، يستبق الأجوبة والاعتراضات المحتملة، ويبحث عن سند".

كتاب "الماركسية وفلسفة اللغة" لباختين (الجزيرة)

ولكون الخطاب جزءا من نقاش ممتد على نطاق واسع، فهذا يشير ضمنيا إلى مفهوم تداخل/تعالق النصوص، وبالقفز في دائرة ستينيات القرن الماضي، تحديدا بين عامي 1966 و1967، ستأتي جوليا كريستيفا بعد أستاذها باختين، لتنحت مصطلح "التناص" (Intertextuality)، وهو ما يعرف بالتعالق النصي، ذاهبة إلى أن "كل نص يتشكل في صورة فسيفساء من الاستشهادات، فكل نص امتصاص وتحويل لنص آخر"، من بعدها سيتوسع جيرار جينيت في مفهوم التناص، ثم تزفيتان تودوروف، ولهذا حديث سيأتي.

الرواية والمستويات اللغوية

اللغة صورة للتشخيص الأدبي، إذ تتواجه كل النغمات الاجتماعية المتعارضة في حلبة الكلمة، فضلا عن أن اللغة وحدة قيام الرواية؛ فمن دون لغة لا يوجد فن أدبي بالأساس. اللغة الوحيدة القادرة على التعبير بالإشارات والرموز هي تلك الموجودة في الرواية، لا غرو إذن أن يصف باختين الرواية بأنها "ظاهرة لغوية"، ويدعم ذلك بمنظورين؛ لساني واجتماعي.

حسب باختين، يتحقق المبدأ الحواري عبر تعدد اللغات "لأن الرواية جزء من ثقافة المجتمع، هذه الثقافة تشكلها خطابات الذاكرة الجماعية، كل واحد يحدد موقفه من تلك الخطابات". استخدم باختين مصطلح "صورة اللغة" لكن الوقوف على المقصود به يبقى مربكا لأنه مفهوم شديد التجريد، غير أن طرق تحقيق هذا المصطلح تقرب المراد منه، وسيأتي تفصيل ذلك.

يفهم من ذلك أنه كلما تعددت اللغات تعددت الأيديولوجيات والأصوات، والعكس صحيح، تأسيسا على أن لغة الشخصية الروائية يجب أن تتوحد مع رؤيتها للعالم.

اللغة محملة بالأيديولوجيا، ويتأسس تعدد اللغات على تعدد المواقف الأيديولوجية والرؤى؛ مما يفيد بالضرورة أن التعدد الصوتي يستوجب تعدد المستويات اللغوية، فكل جيل يمتلك ذخيرة عامة من المصطلحات والألفاظ والتعبيرات، فضلا عن لهجته المميزة ومعجم مفرداته ونسقه من التعبير الخاص، وتختلف كذلك وفق المستوى الاجتماعي والتعليمي والثقافي والعملي وغير ذلك.

في كتاب "ميخائيل باختين.. المبدأ الحواري"، ينقل تزفيتان تودوروف عن باختين قوله "كل كلمة تفوح برائحة مهنة، ونوع، واتجاه، وحزب، وعمل معين، وإنسان معين، وجيل، وعصر، ويوم، وساعة. كل كلمة تفوح برائحة السياق، والسياقات التي عاشت فيها حياتها الاجتماعية بحدة وكثافة، إن الكلمات والأشكال كلها مسكونة بالنيات. في الكلمة لا يمكن تجنب التوافقات السياقية للنوع، والاتجاه، والفرد".

"ميخائيل باختين.. المبدأ الحواري" ترجمة فخري صالح (الجزيرة)

والحال هذه، يجب أن يتكلم كل شخص بصورة مميزة لثقافته وطبيعة معارفه وفكره وإنجازه وما إلى ذلك؛ فليس من المنطقي في قليل أو كثير أن يتكلم عامل البناء بلسان رائد الفضاء، أو أن يعبر الطبيب بمفردات القانون الدولي ما لم تدع إلى ذلك مسوغات مقنعة للقارئ، ولا يفهم من ذلك النقل الحرفي لكلام الآخرين، وإنما أن تتحلى الرواية بالتنوع الكلامي.

بتطبيق مبدأ الحوارية والتعدد اللغوي لا يصبح أسلوب الرواية رهن أسلوب مبدعها، بل يصبح أسلوب الشخوص الروائية، وعليه فإن تعدد الأصوات في العمل الروائي يتيح إدخال مستويات لغوية وسردية عدة. لكن لماذا يتكئ العمل الروائي على التنوع أو التعدد اللغوي؟

يشير باختين إلى أن التنوع اللغوي يحرر النص الأدبي من سلطة الفرد أو اللغة/النبرة الواحدة، ومن ثم الرؤية الواحدة، فضلا عن أن اللغة تؤدي مهمة اجتماعية وأخرى لسانية. كذلك فهو أقرب إلى دنيا الناس، مما يضفي على العمل درجة أكبر من القبول والتفاعل معها، وبقدر اقترابها من المتلقي تحصد الأعمال الأدبية رواجا واهتماما.

هنا يطل السؤال الحيوي: كيف يحقق الروائي معادلة التنوع الكلامي في عمله بكفاءة؟ بصيغة أخرى: ما أشكال التنوع اللغوي في العمل الروائي؟

تنقسم أشكال التنوع اللغوي في العمل الروائي إلى: أقوال الشخوص الروائية، الأجناس المتخللة، التشخيص الروائي للغة، تنضيد اللغة. ونجد التنوع الكلامي حسب باختين "يتحقق من خلال التهجين والأسلبة وتعالق اللغات القائم على الحوار"، هذه طرائق إبداع "صورة اللغة" في الرواية، من نافلة القول ذكر أن التنوع الكلامي في الأعمال الروائية أوسع من التهجين والأسلبة والتعالق، لكنها أكثر الأوجه استعمالا، كذلك فإن الحدود الدلالية بينها متداخلة نوعا ما، وسيتبين ذلك في السطور اللاحقة.

باختين يعرف التهجين بأنه "مزج لغتين اجتماعيتين داخل ملفوظ واحد، أو التقاء وعيين لغويين مفصولين بحقبة زمنية وبفارق اجتماعي، أو بهما معا، داخل ذلك الملفوظ" (شترستوك) التهجين L’hybridation

يكون التهجين بين كلام حاضر وآخر غائب، يعرفه باختين بأنه "مزج لغتين اجتماعيتين داخل ملفوظ واحد، أو التقاء وعيين لغويين مفصولين بحقبة زمنية وبفارق اجتماعي، أو بهما معا، داخل ذلك الملفوظ"، ولا بد أن يكون قصديا. في هذه الحالة، لدينا متكلم واحد يتحدث لغتين أو بوعيين لغويين أو ملفوظين، فينتج رؤيتين للعالم (رؤية معاصرة + رؤية تراثية).

يميز باختين بين نوعين من التهجين: التهجين اللإرادي، والتهجين القصدي الإرادي؛ فالتهجين اللاإرادي "يكون بلا وعي ولا إرادة، وتنتج عنه تراكيب ثنائية اللغة لكنها وحيدة الصوت". من ذلك مثلا الكلمات الأجنبية المكتوبة بحروف عربية، والكلمات العامية الممتزجة بالفصحى، وهو تهجين يدل على أن الإنسان لا يستطيع العيش معزولا عن لغة حياته اليومية، ويؤكد أن اللغة الأدبية ترتبط -إن طوعا وإن كرها- بلغة الواقع المعيش.

أما التهجين الإرادي فيكون بالتضمين والنقل، فتجد مقولات من القرآن الكريم، الأحاديث النبوية وأقوال الصالحين، التراث، الأساطير، الأمثال والحكم، العبارات المسكوكة. هذا النوع من التهجين يوجِد مسافة جمالية بين اللغات والأساليب داخل العمل.

 

الأسلبة La Stylisation

الأسلبة تشخيص أدبي لكلام وأسلوب الآخرين، تعد أكثر النماذج الممثلة لـ"تعالق اللغات القائم على الحوار"، ومن خلالها يجمع بين أسلوب معاصر وأسلوب تراثي في ملفوظ واحد، أو بتعبير جميل لحمداني "الجمع بين لغة مباشرة (أ) من خلال لغة ضمنية (ب) في ملفوظ واحد"، وهما الوعي المصور (المؤسلب).

من أمثلة الأسلبة المزج بين الكلام العادي والشعر، المفردات والتعابير السحرية، أو لغة الصوفية، كل ذلك يوجِد حوارية ضمنية بين الحاضر والتراث، ويؤكد أن معمار الرواية لا يشيد بلغة واحدة، وأن تعددية الأصوات اللغوية ضروري لذلك.

تختلف الأسلبة عن التهجين في أنها لا تشمل توحيد اللغتين بصورة مباشرة في ملفوظ واحد، فيراها باختين "إضاءة متبادلة بين اللغات ذات الصيغة الحوارية الداخلية".

يفرق باختين بين ثلاثة أنماط من الأسلبة؛ الأسلبة المباشرة والتنويع والأسلبة البارودية، الأسلبة المباشرة تقدم لغة تراثية في ضوء لغة عصرية، لكن الطابع الغالب على الملفوظ هو لغة التراث من حيث معجمها وحمولتها الفكرية، وتعمل اللغة العصرية في الخفاء، ونستشف تأثيراتها من السياق، نلتقط بذلك الانتقادات الساخرة المضمنة في الملفوظ.

أما التنويع فلغة تراثية مقدمة في ضوء لغة عصرية، الطابع الغالب على الملفوظ هو اللغة المعاصرة من حيث معجمها وحمولتها الفكرية، فتنتقد لغة التراث بلغة معاصرة مجسدة وحاضرة في الملفوظ.

المحاكاة الساخرة Parody

المحاكاة الساخرة (الباروديا) أسلوب في إيراد أقوال الآخرين ومحاكاتها بصورة ساخرة. يعرفها باختين بأنها "تنهض على ساق التعارض المطلق بين مقاصد ونيات اللغة المشخِصة، ونيات اللغة المشخَصة".

وتعد من الأساليب التي تتيح للمتكلم أن يقول شيئا وهو يريد غيره، يعمد إلى تفعيلها لأسباب مختلفة، لعلك تذكر مثلا لجوء عبد الله بن المقفع إلى الحكي على ألسنة الحيوانات في "كليلة ودمنة"، وإن لم يشفع له ذلك لدى السلطة ممثلة في أبي جعفر المنصور، الذي أمر بقتل ابن المقفع، وقد كان!

كتاب "كليلة ودمنة" في صورته القديمة (الجزيرة)

من خلال دراسته أدب فرانسوا رابيليه، قدم باختين نظرية "ثقافة الأدب الشعبي الساخر"، وذهب إلى أن الرواية جاءت من القاع الشعبي وثقافة الضحك الشعبي، فقال "يملك الضحك قدرة مدهشة على تقريب الشيء… الضحك يزيل الخوف والاحترام الخاشع أمام الشيء وأمام العالم"، وعنده أن الرواية الهزلية هي المثلى في تقديم المضامين الساخرة، وكذلك في تحقق تعدد الأصوات وتحاورها، ونجد دومينيك منغنو يشبه السخرية بطريقة الاستعارة "ففي الملفوظ الواحد معنى وتحريف له".

من السخرية تقليد الشخص البسيط لأسلوب الفصاحة البرلمانية أو الشخصيات العامة، وكذلك استحضار أقوال الآخرين الجادة من طبقات اجتماعية مختلفة وانتقادهم بطريقة ساخرة وهازئة. يتعين على المبدع أن يوظف الباروديا في كل الخطابات الصادرة، لأن تفعيلها لصالح جانب واحد يشي ضمنيا بأن الكاتب يتبنّى هذا الموقف، ويخل بمبدأ حياد الكاتب، في حين أن مبدأ الحوارية يتأسس على إخفاء صوت المبدع وإتاحة الفرصة لأصوات الشخصيات أو الكائنات الحبرية التي هي من بنات خياله.

بالنظر في تراثنا العربي، نجد أمثلة تستعصي على الحصر لتوظيف المحاكاة الساخرة، خذ مثلا (أخلاق/مثالب الوزيرين) للتوحيدي، إذ جمع فيه كثرة كاثرة من مثالب الصاحب بن عباد وأستاذه أبي الفضل بن العميد.

(أخلاق/مثالب الوزيرين) للتوحيدي (الجزيرة) أقوال الشخوص الروائية

يمثل الحوار الشكل التقليدي للتبادل اللفظي، لا تخلو الحوارات من دلالات اجتماعية مثل الصراع الفكري بين قوى عدة، تفاعل أنماط وعي مختلفة داخليا وخارجيا، تفاعل فكري يعكس اختلاف الرؤى اتجاه الحياة. لذلك لا تخلو رواية من هذا النوع، لا سيما أن "الحوار الخالص يوازي الحوار الذي يتخلل سيرورة الحكي، سواء أكان في شكل حوارات مباشرة بين شخوص العمل الروائي، أو على هيئة الحوار الداخلي (المونولوج).

تنوع لغات المجتمع يجب أن ينعكس في الرواية من خلال الحوار بين شخوصها، ولأن الشخوص متباينة الثقافة والرؤى والتوجهات والسلوك، فلا بد أن يظهر ذلك في لغتهم المستخدمة؛ مما يؤدي بالضرورة إلى تعدد الأصوات والتعدد اللغوي اللذين ارتبطا باسم ميخائيل باختين، أحد أهم نقاد القرن الماضي، أو أن يظهر ذلك في "التشكيل اللغوي"، وفق مصطلح الباحثة كات هامبورغر.

ومن واجب الكاتب أن يعرض أقوال الشخوص الروائية مع الحفاظ على خصوصيتها. هنا ننبه إلى أن باختين حصر أقوال الشخوص الروائية في صيغة الحوار المباشر بينها.

الأجناس المتخللة

الأجناس التعبيرية الأدبية المتخللة في العمل الروائي تشمل (الوصية، الشعر، الأغنية الشعبية، الحكاية الشعبية، المثل، الأسطورة، مقاطع كوميدية)، والأجناس التعبيرية غير الأدبية منها (القرآن الكريم، الحديث النبوي، التاريخ، دراسات عن السلوك، نصوص دينية، بلاغية، علمية، جغرافية… إلخ).

من هنا ظهر القول إن الرواية جنس تعبيري مفتوح أو "جنس هجين"، أي تستوعب الأجناس التعبيرية الأخرى، يؤطر ذلك قول ميلان كونديرا "للرواية ملكة استثنائية في الاستيعاب"، أي استيعاب الأجناس المختلفة للتعبير.

الروائي العالمي ميلان كونديرا (غيتي)

هذه الأجناس بدخولها عالم الرواية تحافظ على مرونتها الدلالية ونسقها الأسلوبي، وكذلك تؤثر في لغة الرواية لأن تلك الأنواع تدخل إلى الرواية بلغاتها الخاصة واصطلاحاتها المتفردة ووسائلها الأسلوبية، ومن ثم فالمسألة لا تقتصر على لغة فحسب، بل هي حوار لغات ووجهات نظر تحمل مضامين فكرية، بما يعمق النسيج الأسلوبي للرواية ويثري منظورها للعالم، كذلك فإنه باستجلاب لغات جديدة إلى الرواية تسهم الأجناس المتخللة -بدرجة ما- في كسر نيات الكاتب والحد من سلطته على "الشخصيات الورقية"، بتعبير رولان بارت.

التشخيص الروائي للغة

لن نبالغ إذا قلنا إن الحوارية أعظم إضافة قدمها باختين للنقد الروائي، ووفق تعبيره "الخطاب يفهم موضوعه بفضل الحوار"، ويؤكد جيرار جينيت في "نظرية السرد: من وجهة النظر إلى التبئير" مكانة الحوارية بقوله "الخطاب الذي يكونه البطل حول نفسه يتكون من الخطابات التي يكونها الآخرون حوله؛ إنه يتكلم ويفكر من خلال الآخر"، هذا يعضد كذلك أهمية فهم النفس والآخر، بما ينعكس على الكتابة والحوار بين شخوص العمل. يضيف جينيت "من هنا تتداخل أصوات متناقضة وأحكام ووجهات نظر متنوعة على فم واحد".

كتاب "نظرية السرد: من وجهة النظر إلى التبئير" (الجزيرة) تنضيد اللغة

ينقسم تنضيد اللغة إلى تنضيد أجناسي (أجناس أدبية، أجناس غير أدبية)، ويضم التنضيد المهني للغة (لغة المحامي، لغة الطبيب، لغة رجل الأعمال، لغة المعلم، لغة السياسي… إلخ)، بما فيها من المفردات المتخصصة والرطانة والتعبيرات الاصطلاحية واللهجات واللكنات وما إلى ذلك.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات فی العمل الروائی فی الروایة من خلال لا سیما فضلا عن إلى أن من ذلک ذلک فی یجب أن

إقرأ أيضاً:

شكلت ثورة أكتوبر نقلة نوعية في وعي شعبنا الديمقراطي ( 5 – 5)

هذا هو الجزء الخامس والأخير من دراسة " أحدثت ثورة أكتوبر نقلة نوعية في الحركة النقابية العمالية". ناقشت الأجزاء السابقة العوامل التي ساعدت على قيام النقابات، ووضع النقابات خلال الحكم الوطن الأول ثم نضالها ضد الحم العسكري، ونهوضها العارم في فترة ما بعد الثورة.

نشأت الحركة النقابية العمالية في معمعة النضال ضد الادارة الاستعمارية، ومشروعها الرامي لقطع الطريق على قيام نقابات مستقلة كاملة الصلاحيات. ادى نجاحها في مواجهة المشروع الاستعماري لتأسيس حركة نقابية عمالية مقاتلة وعنيدة في الدفاع عن استقلالها وتفخر بانها، في جوهرها ، تنظيم ديمقراطي في وطن يتميز بالانقسام الطائفي والديني والجهوى والقبلي واللغوي. تلك السمات الموروثة ، منذ لحظة الميلاد ، كانت اساس او محور قوة الحركة النقابية العمالية وفى نفس الوقت كعب اخيلها. فقد ساعدتها تلك النشأة في ان تلعب دورا قوميا متميزا وهاما ولكنها ، وفى نفس الوقت ، جلبت لها عداء الحكومات المختلفة ، مدنية او عسكرية ، بالإضافة لعداء القوى التقليدية التي تريد الحفاظ على نظام امتيازاتها الموروث منذ العهد الاستعماري ولا تقبل التفريط فيه. استقلالية الحركة النقابية وديمقراطيتها جعلها تلعب دورا بارزا في مناهضة الاستعمار واسقاط حكمه وفى الدعوة للتغيير الاجتماعي وتتقدم الصفوف لمواجهة الحكم العسكري الاول مما ادى لتمثيلها في اعلى سلطة سياسية في البلاد بعد انتصار الثورة. كما شاركت الحركة العمالية بفعالية في معركة الدفاع عن الديمقراطية واستقلال القضاء و حكم القانون. تمسك الحركة باستقلالية قرارها جلب لها عداء الحكومات والاحزاب التقليدية فحاولت تدجينها باستخدام سلطة القانون كما حدث في 1966 في محاولة لخلق انقسامات وضرب الوحدة النقابية عن طريق انشاء عدة مراكز نقابية. او حتى اتهام قادتها بالمشاركة في انقلابات مزعومة مثلما حدث للشفيع احمد الشيخ ، ووصل العداء قمته بالتصفيات البدنية ، واعتقال وتشريد الالاف وحل مؤسساتها مثلما حدث بعد فشل انقلاب يوليو 1971. مما شكل هزيمة كبيرة للحركة النقابية العمالية ، وادى لتراجعها عن مواقعها القيادية السابقة واحتلال نقابات المهنيين لتلك المواقع والتصدي لقيادة معركة التغيير الديمقراطي
ونعتقد ان تلك الهزيمة ، التي المت بالحركة العمالية ، كانت سببا اساسيا في ضعفها ، الواضح و الظاهر للعيان ، خلال السنوات التي اعقبت يوليو 1971. و سيطرت ، منذ ذلك الحين ، على قيادة الحركة النقابية العمالية العناصر المهادنة او الصديقة للأنظمة الحاكمة. ونقول انه رغم الهزيمة الا انه من السابق لأوانه الحديث عن التصفية النهائية والتدجين الكامل للحركة العمالية السودانية. خاضت الحركة ، خلال حكم نظام مايو ، معارك متفرقة في 1973 و1975 و1978 و1981 ورغم دورها الضعيف في انتفاضة 1985 الا انها هبت مرة اخرى في انتفاضة السكر في ديسمبر 1988. نجاح نظام الانقاذ في تدجينها خلال الحقب الماضية مؤشر خطير للازمة المزمنة للحركة العمالية السودانية في قيادتها وكوادرها وبرامج عملها ، وهو موضوع خارج نطاق هذه الورقة.
نلاحظ ، على ضوء قراءة الواقع الراهن للاقتصاد السوداني ان الازمة الاقتصادية المستحكمة ليس من المنظور الفكاك منها في ظل الوضع الحاكم الحالي والسياسات الراهنة. هذا الوضع الاقتصادي المزرى يؤدى حتما لتدهور مريع ومستمر لمستوى معيشة العاملين ويضيف مزيدا من الضيق والانكماش على سوق العمل ، الضيق اصلا ، مما يرغم العاملين على التفكير الجاد حول دور نقاباتهم وضرورة ممارساتها لمهاها الاساسية في الدفاع عن حقوقهم. تفعيل النقابات ، الناتج عن الضغوط المعيشية ، سيؤدى حتما للاصطدام بسياسات النظام الاقتصادية ومن ثم بالنظام نفسه. هذه العملية ليست سهلة او بسيطة كما تبدو في الظاهر وذلك لوجود حلقة مفقودة هي قلة القيادات النقابية المخلصة والمنحازة لقواعدها والموجودة بينها في الورش والمصانع بسبب التشريد المستمر او رفض تعيين من يملكون خبرة نقابية حاليا.
تصفية القطاع العام ، حيث قوة تأثير الحركة العمالية ، وقانون النقابات المبنى على نقابة المنشاة ، وعسكرة الاقتصاد بعشرات الشركات التابعة للأمن و الجيش ، وقلة فرص العمل ، وتشريد الالاف من العمال الذى خبروا الحركة النقابية وتمرسوا في مدرستها ، و كمثال تم فصل 4 الف عامل من السكة الحديد في يوم واحد ، وجيوش العاطلين المتشوقة للعمل أي عمل ، كل ذلك يخلق صعوبات حقيقية امام اعادة تنظيم الحركة النقابية العمالية. وكمثال للضعف الذى تعانيه الحركة العمالية حاليا نرى انخفاض سقف مطالبها ، وان تحركاتها تتم لمطالب اقل من مطالب الحد الادنى المعروفة سابقا لتحسين الأجور والاوضاع المعيشية. الان المطالب تتركز حول عدم صرف الاجور والاستحقاقات ، على قلتها ، وعدم مواكبتها للتضخم او توفيرها للحد الادنى لحفظ الحياة. ورغم هذا التغيير الهيكلي والنوعي في تركيبة الطبقة العاملة ، وفى نسبة العاملين المنظمين في نقابات وفى انعدام الثقة بين القواعد النقابية وقياداتها ، الا ان احد دروس اكتوبر يحمل في داخلة بذرة حقيقية للتفاؤل. ففي ثورة اكتوبر جاءت مشاركة العمال في الثورة بقيادة العناصر الديمقراطية واليسارية وليس من خلال قيادة النقابات العمالية. وهذا درس هام للمستقبل.
التوسع الصناعي الذى تم مؤخرا لتغطية احتياجات السوق المحل ، ادى للتوسع في استيعاب العمال والفنيين مما سيؤدى لإضافة دماء جديدة ذات قدرة معرفية وحماس للطبقة العاملة ، بالإضافة لقيام العديد من خريجي الجامعات والثانويات للعمل كعمال ، لندرة الوظائف ، وضيق سوق العمل ، في ظل توسع أفقي وكمي هائل في التعليم العالي. هذا التحول يذكرنا بالدور الذى لعبه خريجو مدرسة الصنائع في منتصف اربعينات القرن الماضي في تأسيس الحركة النقابية. ونلخص بان الازمة الوطنية العامة ، و التناقض في المصالح الاقتصادية بين العمل وراس المال سيؤدى ، لا محالة ، لعودة الحركة لسابق قوتها ولكن بأجندة جديدة واساليب متنوعة واولويات مختلفة عن السابق.
ونختم قراءتنا هذه بسؤال أساسي اين ذهبت اثار اكتوبر التي احدثت النقلة النوعية في الحركة النقابية العمالية؟ ورغم ان الاجابة ليست سهلة ولا تتوفر لدينا الامكانيات او الادوات لقياس ، ذلك الاثر وما حدث له، بشكل دقيق . ولكننا نقول انه وفى اطار التراجع العام لمشروع اكتوبر كنتاج لصعود قوى تقليدية للحكم تتناقض اهدافها ومصالحها ، الرامية للحفاظ على الوضع التقليدي الموروث للسودان ، مع اهداف اكتوبر الرامية لتغيير ذلك الوضع تم تراجع في اثر اكتوبر على الحركة النقابية العمالية. ذلك التراجع ادى لصعود عناصر لقيادة الحركة العمالية ، ذات توجه للتصالح مع كافة الانظمة ، بل وعمل بعضها علنا مع النظام العسكري الاول ثم عاد بعد اكتوبر ليعمل مع الاحزاب التقليدية ثم ليعمل مع مايو ثم مع الاحزاب التقليدية والان مع الانقاذ. اضافة لان انقطاع التواصل بين الاجيال ، بسبب التشريد او اغلاق المؤسسات، فاقم من صعوبة نقل الخبرات والتجارب للأجيال النقابية الجديدة والتي تعرض اغلبها للدعاية الايدولوجية المنظمة للنظام الأسلاموي على مدى ربع قرن من الزمان حتى الان. ولكننا لا نتفق مع الرأي القائل بان ميراث اكتوبر قد اندثر للابد لان ما نشاهده من وعى سياسي عام ورفض متواصل لدكتاتورية عسكرية تلبست بمسوح الدين هو دليل على بقاء روح اكتوبر. وهذا التطلع المشروع للبديل الديمقراطي من اجيال لم تعش تجربة ثورة اكتوبر لهو دليل ساطع البرهان ان روح اكتوبر وميراثها لا يزالان في ذاكرة الاجيال القديمة والاجيال الجديدة سواء. لأنه لا يمكن ، مهما تزايد القمع ومحاولات تشويه ذاكرة الشعوب ، ان تمحو تجربة ضخمة كالثورات التي تمتد جذورها بعيدا في وعى الشعوب رغم انها لا تطفو على السطح كل الوقت.
مؤشر اخر أكثر تفاؤلا حول مستقبل الحركة العمالية ، هو انتعاشها في ظل الديمقراطية . وواقع الازمة المزمنة التي يعيشها وطننا تشير الى ان نظام الانقاذ قد وصل لطريق مسدود ولا مستقبل له مهما تفنن في تجميل نفسه ، او بإدخال حلفاء جدد معه ، وانه لا بديل غير نظام ديمقراطي تعددي ينبني على دولة القانون والمواطنة. وانتصار الديمقراطية سيفتح الباب واسعا امام اعادة بناء كل المؤسسات الديمقراطية ومن ضمنها المؤسسات النقابية وحينها سيذهب الزبد هباء ويبقى ما ينفع العمال.
ان اكتوبر لن تتكرر مرة اخرى بنفس السيناريو الذى حدث في 1964، لان مياه كثيرة قد عبرت تحت الجسر السوداني. ولكن اكتوبر ستعود في ثوب جديد يعبر عن التحولات الاقتصادية والاجتماعية والاثنية التي عصفت بالسودان التقليدي الموروث. اكتوبر ستكون كالعنقاء التي تبعث من جديد. وبهذا الانبعاث الجديد ستجرى دماء جديدة في شرايين الحركة النقابية السودانية ، اذ انها ،كما جاء في الكتاب الذى أصدره اتحاد النقابات العالمي عن الشفيع احمد الشيخ بعد اعدامه في يوليو 1971 ، حركة " لن تفنى ... لأنها ليس بريق ضوء خافت ينطفئ بعد لحظات ، ولا فقاعة صابون تتلاشى في ثوان . فالأحداث تثبت ان هذه الحركة ولدت لتعيش ، وستبقى ما بقيت تلك السواعد القوية التي اقامتها وطورتها ، وما دام حيا ذلك الفكر الذى اوجدها وسار بها في طريق النصر. "

siddigelzailaee@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • المفوضية الأوروبية تُغرم شركة أدوية إسرائيلية لمُحاولتها منع مُنافسة أوروبية من بيع عقار لعلاج "التصلب المُتعدد"
  • الرئيس المشاط يهنئ الرئيس الجزائري بمناسبة ذكرى ثورة الأول من نوفمبر
  • ثورة في علاج للسرطان.. استخدام «جزيئات نانوية» من الذّهب
  • ما لا تعرفه عن الفنان المصري الراحل ‘‘حسن يوسف’’ ومشاركته في ‘‘ثورة اليمن’’
  • مهرجان الجونة السينمائي.. تفاصيل الجلسة الحوارية "ترميم الأفلام: رؤية جديدة"
  • "توصيلتي" يُحدث ثورة في عالم توصيل الطعام بمحافظة الفيوم ومدينة 6 أكتوبر
  • الثورة اليمنية و “تحرير فلسطين”
  • ‏الكيان الإسرائيلي أمام تعدد الجبهات
  • شكلت ثورة أكتوبر نقلة نوعية في وعي شعبنا الديمقراطي ( 5 – 5)
  • نظرة وداع.. صلوات تجنيز القمص مرقس ذكري بحضور الأنبا ميخائيل| صور