كنت أعتقد أن الحديث عن «مسرحية» عند تناول الضربة الإسرائيلية على إيران في الـ٢٦ من أكتوبر الجاري أو على الضربة الإيرانية على إسرائيل في مطلع الشهر نفسه يدخل في باب العبث السياسي، لكن انتشار هذه السردية بشكل مخطط وأحيانا بحسن نية يجعل مناقشتها ضرورية إذ إنها تمثل مدخلا لفهم مستقبل الصراع الإقليمي الجاري وما قد تواجهه شعوبنا وبلادنا من أخطار محدقة.

أولا، من الناحية الاستراتيجية لا يوجد منذ عام ١٩٧٩ مشروعان متصارعان على خريطة الشرق الأوسط سوى المشروع الأمريكي/ الإسرائيلي من جهة والمشروع الإيراني من جهة أخرى، هذا العام الاستثنائي كان عاما فارقا في جيواستراتيجيا الإقليم فيه خرجت مصر -بمعاهدة السلام- من الصراع العربي - الإسرائيلي وتبعها تدريجيا النظام العربي الرسمي ودخلت فيه الجمهورية الإسلامية الإيرانية تملأ فراغا تركه العرب الذين تخلوا تماما عن القضية الفلسطينية. كانت إيران قبل ثورة الخميني حليف واشنطن وتل أبيب الأول في الإقليم وشرطيها المكلف بحماية ثروة النفط في المنطقة مع من ينتدبه الشاه من دول المنطقة لمساعدته في دوره الشرطي. وكانت إيران أيضا وقتها شيعية وليست سنية ولديها برنامج نووي منذ عهد الشاه لم يخترعه الخميني وكان بالإمكان أن تظل متمتعة بالرضا والسلاح الأمريكي ويظل حاكمها يستقبل كما كان يستقبل الشاه من دول المنطقة استقبال الفاتحين وممثل الدولة الإقليمية الكبرى المتنفذة لكنها أبت إلا أن تقاوم النفوذ الأمريكي وهيمنته المطلقة على المنطقة.

باختصار وباستثناء المشروع القومي العربي الذي بدأ بكسر احتكار السلاح الغربي وتأميم القناة ١٩٥٦ الذي قادته مصر للتحرر والتخلص من التبعية للغرب، ليس هناك مشروع مقطوع بعدائه لهيمنة الغرب والولايات المتحدة ومعاداة الأخيرة هي وإسرائيل له سوى المشروع الإيراني.

نجاح المقاومة الفلسطينية في شن هجوم طوفان الأقصى العام الماضي كان التطور الذي قضى تماما على أي فرصة للتعايش بين المشروعين. نقل السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ مستويات الصراع بينهما من الحرب في الظل إلى الحرب في العلن ومن المواجهة غير المباشرة إلى المواجهة المباشرة. بعدما صار الصراع وجوديا ونهائيا واتخذت واشنطن وتل أبيب قرارهما بإزالة محور المقاومة الذي يدعمه المشروع الإيراني يصبح الحديث عن الحرب الإقليمية الشاملة مسألة وقت. وبعدها يصبح خطاب الجالسين على الخطوط الجانبية من العرب عن تفاهم استراتيجي بين طهران وواشنطن لتقسيم العالم العربي لمناطق نفوذ بين طهران وتل أبيب هو هزل في مقام الجد وتلاعب غير مسؤول بمصائر شعوبهم التي ستكون أول من يكتوي بنار هذه الحرب الشاملة المرجحة بين الإيرانيين والإسرائيليين.

بل إن هذه الحرب الإقليمية في نظر بعض الاستراتيجيين في الغرب بدأت بالفعل ولكنها حتى الآن ما زالت كحرب أو كصراع عسكري ما زالت عند منطقة منخفضة أو متوسطة الشدة.

مع هكذا تقدير يصبح الحديث عن أن الضربات المتبادلة بين إسرائيل وإيران خاصة منذ ضربة إيران للكيان في أبريل من العام الجاري هي ضربات وهمية أو تمثيلية محبوكة.. حديث غفلة وعمي استراتيجي يحول دون اتخاذ ما يلزم لمنع التصعيد ولمنع التحول نحو حرب كاملة وصراع عالي الشدة.

إذا أخذنا ضربتي الشهر الجاري المتبادلتين بين العدوين الإقليميَين كمثال تجريبي سنجد ليس فقط أنهما كانتا مؤثرتين وحقيقيتين بل إنهما استدعيتا تغيرات جوهرية لم تقتصر عليهما بل على مستوى مرتفع من تدخل وتداخل غير مسبوق من الأطراف الدولية في الصراع لم يكن موجود قبلهما.

الضربة الصاروخية الإيرانية في الأول من أكتوبر شملت كامل جغرافيا فلسطين التاريخية وأصابت قواعد جوية حساسة للجيش الإسرائيلي لكن أثرها الأهم كان إرباكا لنظام القبة الحديدية الإسرائيلية وإثباتا بأنه نظام غير خارق ومليء بالثقوب. أثبت الهجوم الإيراني الثاني مجددا أن إسرائيل عاجزة لوحدها عن حماية نفسها وهنا استدعت الضربة الإيرانية مستوى من التدخل الأمريكي في الحرب لم يكن موجودا وتمثل في تورطها بشريا فيها بإرسال مئات من القوات الأمريكية لتشغيل النسخة الأحدث من نظام الدفاع الجوي المعروف باسم «ثاد» على الأراضي الإسرائيلية للتصدي للصواريخ الباليستية الإيرانية في المستقبل.

الضربة الإسرائيلية في الـ٢٦ من أكتوبر كانت حقيقية وألحقت أضرارا بقواعد دفاع جوي ورادارات إيرانية. وكشفت للإيرانيين الحاجة إلى مستويات للدفاع الجوي أفضل بكثير تكنولوجيا إذا أرادت أن تواجه ميزة التفوق الجوي الهائل لإسرائيل. استدعت الضربة الإسرائيلية أيضا مستوى من التدخل الروسي أكبر بكثير من مستوى التدخل المحدود الذي مارسته موسكو منذ اندلاع الصراع في المنطقة. فقبل الضربة الإسرائيلية أمدت موسكو طهران بمعلومات دقيقة عن التجهيزات الإسرائيلية مما توافر لديها من الأقمار الصناعية والاستخبارات، كما كانت المرة الأولى منذ اندلاع الصراع التي توجه فيه موسكو تحذيرا مباشرا لإسرائيل من القيام بضرب إيران بصورة تفجر الشرق الأوسط وربما كان ذلك التحذير عنصرا ولو محدودا في خلفية القيود والحدود التي تمت فيها الضربة.

هذه القيود والحدود التي جعلت الضربة الإسرائيلية موجهة لأهداف عسكرية مثلما فعل الإيرانيون ولم تتخطاها لاستهداف منشآت النفط والغاز الإيرانية أو منشآت البرنامج النووي كانت انعكاسا لتوازنات قوى حقيقية وليس مسرحيات ولعبة غميضة. كانت تأجيلا مؤقتا للمواجهة وليس إلغاء لحتمية اندلاعها.

أول وأهم هذه القيود اسمه الولايات المتحدة القطب الأعظم وحساباته، ومنها على سبيل المثال لا الحصر أن أسبوعا واحدا يفصل بين الناخب الأمريكي والانتخابات الرئاسية وآخر شيء يريده هذا الناخب هو رؤية بلاده متورطة بشكل مباشر في حرب واسعة إقليمية حتى لو كان الذي يستدرجها لذلك طفلها الإسرائيلي المدلل. آخر شيء يريده هذا الناخب هو ارتفاع تكلفة الحياة وارتفاع أسعار البنزين وهو أمر كان ليكون مؤكدا لو سمحت واشنطن لتل أبيب بضرب منشآت النفط الإيرانية. منها أيضا أن الولايات المتحدة تدرك أن ضربة جوية إسرائيلية على البرنامج النووي الإيراني لن تكون ممكنة دون مشاركة أمريكية مباشرة بأسلحة توجد في حوزة واشنطن فقط.. وأن ضربة مثل هذه ليس فقط ستفشل في القضاء التام على المشروع النووي الإيراني الذي نثرته إيران في مختلف المناطق وحصّنت بعضه بطريقة يصعب معها تدميره ولكن أيضا سيجبر إيران على حسم قرارها الذي أجلته كثيرا وتقوم بإنتاج القنبلة النووية. فكرة إزالة النظام الإيراني بالقوة كما يتخيل نتنياهو ليس حتى الآن خيارا واقعيا بالنسبة لواشنطن فغزو هذا البلد الكبير بملايينه التي تقترب من السبعين مليونا ومساحتها الجغرافية الشاسعة واعتزازه القومي بحضارته وتشبعه الأيديولوجي هو مشروع انتحار يصبح معها الفشل الأمريكي في أفغانستان نزهة مريحة. تأمل الإمبراطورية الأمريكية كذلك إلى استعادة الدرة الإيرانية إلى تاجها عبر قلب النظام الثوري المعادي لها في إيران من الداخل وليس بغزو مباشر يجلب لها عداوة الإيرانيين للأبد وهي لم تكف في الأربعة عقود ونصف الماضية عن تجنيد المعارضين للنظام ودعمهم وتأليب كل حراك اجتماعي مضاد للنظام.. في حسابات واشنطن أيضا أن الصين وروسيا اللتين كان دورهما شديد التواضع في الحرب عندما يتعلق الأمر بحرب إبادة إسرائيلية على بلدين عربيَّيْن هما فلسطين ولبنان -ربما لأن لهما رأيا أن أمتهم العربية الأَولى بنصرتهم قد خذلتهم- لن يقفوا ساكنين إذا تهدد الوجود الإيراني بعمل عسكري جامح إسرائيليا. إيران بالنسبة لبكين وموسكو تقع في منزلة الحليف الاستراتيجي الموثوق في عدائه للإمبريالية الأمريكية. وهو طرف مستقل في قراراته بصورة غير متاحة لتركيا الناتوية بشكل كامل وغير متاح بالقطع للعرب الذين يعلم الصينيون والروس منذ سبعينيات القرن الماضي أنهم باعوا هذا الاستقلال ومنحوا تفويضا على بياض للولايات المتحدة تفعل به وبهم ما تشاء.

هنا قيدت واشنطن الرد الإسرائيلي بضرب أهداف عسكرية وتجنب الأهداف النفطية والنووية، وفرضت مصالحها العليا في تجنب حرب واسعة في الشرق الأوسط في هذا الوقت على مؤسسة الحرب الإسرائيلية. هنا تجلت حقيقة أن إسرائيل ما هي إلا أداة وظيفية أمريكية وأنه عندما يجدّ الجد فإن واشنطن تأمر وإسرائيل تطيع. هنا تجلت خدعة بايدن في مطلع هذا الشهر التي زعم فيها أن واشنطن لم تعد قادرة على لجم إسرائيل واتضح أنها مجرد خدعة للسماح لإسرائيل بتنفيذ كل الاغتيالات واستباحة السماوات والأراضي العربية. كتبت على هذه الصفحة قبل شهور عديدة أن الحرب الإقليمية مؤجلة ولكنها قادمة حتما إذا ظلت عوامل الصراع بين المشروعين قائمة وإذا ظل العرب مستسلمين لحالة الخروج من التاريخ.

حسين عبد الغني إعلامي وكاتب

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الضربة الإسرائیلیة من أکتوبر

إقرأ أيضاً:

الجونة.. ليست سينما ولا فساتين!

مشهد صعود الأخوين نجيب وسميح ساويرس مؤسسى مهرجان الجونة السينمائى، إلى مسرح حفل افتتاح الدورة السابعة وإلقاء كلمة مشتركة.. ليس مشهدًا تمثيليًا ولا استعراضًا سينمائيًا، ولا محاولة لسرقة الكاميرا من النجمات الجميلات والنجوم الكبار المصريين والعالميين.. ولكنه إعلان لما يفعلانه عن قناعة وحب!

الجونة هى المنتجع الوحيد من بين جميع المنتجعات فى مصر التى تحولت من مجرد مكان على البحر وكراسى وشمسية فى الصيف أو الشتاء إلى بقعة خضراء للفن والإبداع والجمال.. مثلها فى ذلك مثل مدينة «كان» الفرنسية التى ارتبط اسمها بواحد من أشهر وأقدم مهرجانات السينما فى العالم.. ولولا مهرجانها السينمائى ربما كان العالم لا يعرف عن هذه المدينة الفرنسية شيئًا سوى الأثرياء فقط الذين يقدرون على تكاليف السفر إليها!

ومهرجان الجونة السينمائى أعطى للجونة كمنتجع على البحر الأحمر معنى أكبر من مساحته، وأوسع حجمًا من شاليهاته، وأعمق من البحر الذى يطل عليه.. واستقرت صورته الذهنية لدى جميع الفئات بأنه مكان محترم يصلح للسفر إليه طول السنة مع العائلة أو بدونها، حيث يعتبر نموذجًا لما يجب أن تكون عليه المنتجعات فى مصر.. فلا تكون مجرد مكان لقضاء إجازة الصيف ومضيعة للوقت، وإن كان ذلك ليس سيئًا على مستوى الأفراد بالطبع، ولكن ما أعنيه هو القيمة الثقافية أو الفنية التى يمكن أن تضيفها المنتجعات فى مصر، بدلاً من أن تكون مصدر إزعاج واستفزاز مثل ما يسمى بالساحل الشرير، والذى تحول من منتجع للصفوة فى أذهان الناس إلى منتجع للمستهترين والتافهين والمستغلين.. وحتى البلطجية، ويعطى انطباعًا اجتماعيًا سيئًا عن رجال الأعمال وأبناء الأغنياء!

ورغم اننى لم أزُر الجونة من قبل، ولم أحضر المهرجان منذ انطلاق دورته الأولى حيث يتصادف سفرى خارج مصر دائمًا فى نفس التوقيت، ومع ذلك أعرفه جيدًا كقيمة ومعنى.. ولو أن كل منتجع فى مصر فكر بطريقة علمية مثلما فعل نجيب وسميح ساويرس، فى استثمار المنتجع ثقافيًا وفنيًا وليس ماديًا فقط لكان عندنا أكثر من جونة وأكثر من مهرجان!

 وعمومًا الأماكن والمدن تأخذ شهرتها ومكانتها غالبًا من تاريخها السياسى والثقافى.. فمن كان سيعرف فى العالم أن هناك مدينة اسمها الأقصر فى أقصى جنوب مصر ما لم يكن فيها هذه الآثار الفرعونية العظيمة؟!

و«العلمين» من الأماكن الواعدة فى مصر كمدينة ومنتجع، وهى مدينة فريدة لا تشبهها مدينة أخرى حتى ولو أن شكل أبراجها تشابهت مع مدن أخرى.. لأن «العلمين» مدينة لها تاريخ عالمى بينما المدن الأخرى بلا تاريخ.. وذلك لارتباطها بأعظم الحروب التى غيرت من شكل العالم فى العصر الحديث، وهى الحرب العالمية الثانية.. فالعالم قبل هذه الحرب ليس هو نفس العالم بعدها.. وكانت الحد الفاصل بين انهيار عالم قديم بقواه الدولية ومستعمراتها، وعالم جديد بقوى دولية مختلفة ودول مستقلة وحرة.. و«العلمين» كانت وما زالت جزءًا من كل ذلك، ومسرحًا لأهم المعارك والقادة التاريخيين لهذه الحرب.. فكيف لا نستغل هذه القيمة وهذا التاريخ ونكتفى بحفلات غنائية كل عام بينما يمكن أن تكون مسرحًا دوليًا لمؤتمر سياسى عالمى يحضره سياسيون ومؤرخون وقدامى المحاربين، ومعرضًا للكتب التى تناولت هذه الحرب، وآخر للأسلحة القديمة والحديثة، ومهرجانًا سينمائيًا لأفلام الحرب.. وندوات ومحاضرات وورش عمل وتدريب سياسى وتاريخى.. أشياء كثيرة يمكن أن تجعل من «العلمين» فيها فعلًا «العالم علمين».. فقط نحتاج التفكير بطريقة علمية ومبتكرة لا بطريقة وكيل الفنانين القديم فى السبعينيات لتنظيم الحفلات!

 

[email protected]

 

 

 

مقالات مشابهة

  • أستاذ دولي: إيران تريد الرد على الهجمات الإسرائيلية عن طريق أذرعها في المنطقة
  • هدنة مدتها 60 يومًا.. واشنطن تقترح خطة لوقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل
  • كيف تتحول "الضربة الإسرائيلية" إلى فرصة لعزل إيران دولياً؟
  • د. هدى رؤوف تكتب: هل انتهت الضربات المتبادلة بين إيران وإسرائيل؟
  • أمريكا توضح لـCNN ما ستفعله إذا ردت إيران على الضربة الإسرائيلية
  • لا يفعلون ما يكفي..واشنطن: إسرائيل لا ترد على مخاوفنا بعد الضربة المروعة في غزة
  • الجونة.. ليست سينما ولا فساتين!
  • حلف شمال الأطلسي وكوريا الجنوبية يبديان قلقهما.. وكندا وفلندا تحذران من تصعيد الصراع
  • مع اقتراب الرد الإيراني.. تحذيرات أمريكية واستعدادات في تل أبيب لتلقي الضربة
  • بماذا قايضت إيران تخفيف الضربة الإسرائيلية ؟