بين أنظمة الأسلحة الآلية وخوارزميات الذكاء الاصطناعي: أمريكا ليست مستعدة لحروب المستقبل
تاريخ النشر: 27th, October 2024 GMT
ترجمة: نهى مصطفى -
في ساحات القتال في أوكرانيا، يتحول مستقبل الحرب بسرعة إلى حاضرها. تملأ آلاف المسيّرات (الطائرات دون طيار). وتستخدم هذه ومشغلوها أنظمة الذكاء الاصطناعي لتجنب العوائق وتحديد الأهداف المحتملة. كما تساعد نماذج الذكاء الاصطناعي أوكرانيا في التنبؤ بالمكان الذي يجب أن تضربه. وبفضل هذه الأنظمة، يتمكن الجنود الأوكرانيون من تدمير الدبابات وإسقاط الطائرات بفعالية.
الحرب في أوكرانيا ليست الصراع الوحيد الذي تعمل فيه التكنولوجيا الجديدة على تحويل طبيعة الحرب. ففي ميانمار والسودان، يستخدم المتمردون والحكومة مركبات من دون قائد وخوارزميات أثناء القتال. وفي عام 2020، ضربت المسيّرات تركية الصنع أطلقتها قوات مدعومة من الحكومة الليبية مقاتلين منسحبين -ربما كان أول هجوم بطائرة دون طيار يتم تنفيذه دون تدخل بشري. في العام نفسه، استخدم الجيش الأذربيجاني مسيّرات تركية وإسرائيلية الصنع، إلى جانب ذخائر متسكعة (متفجرات مصممة للتحليق فوق هدف)، في محاولة للاستيلاء على جيب ناجورنو كاراباخ المتنازع عليه. وفي غزة، نشرت إسرائيل آلاف المسيّرات المتصلة بخوارزميات الذكاء الاصطناعي.
وتيرة هذه التحولات ليست مفاجئة؛ فالحروب لطالما كانت محفزة للابتكار. لكن التطور الحالي سريع للغاية وله أثر حاسم، إذ يتغيّر مفهوم القوة العسكرية من التركيز على الحشود البشرية وتجهيز الطائرات والدبابات، إلى السيادة في استخدام أنظمة الأسلحة الذاتية التحكم والخوارزميات المتقدمة.
رغم التقدم الذي تحرزه قوى عالمية في هذا المجال، تبدو الولايات المتحدة متأخرة. فلا تزال قواتها غير مستعدة تمامًا للقتال في بيئة تندر فيها فرص المفاجأة، كما أن طائراتها وسفنها ودباباتها تفتقر إلى القدرات اللازمة للدفاع ضد هجمات الطائرات المسيّرة. كذلك لم يطبق الجيش الأمريكي الذكاء الاصطناعي بشكل واسع، وتتحرك مبادرات البنتاجون ببطء شديد لمعالجة هذه الفجوة. وفي المقابل، نشر الجيش الروسي بالفعل عدة أنواع من المسيّرات الذكية في أوكرانيا، بينما أجرت الصين في أبريل الماضي أكبر عملية إعادة هيكلة عسكرية منذ نحو عقد، مع التركيز على بناء قوات معتمدة على التكنولوجيا.
لتتمكن الولايات المتحدة من الحفاظ على تفوقها العالمي، عليها التحرك بسرعة. حيث يجب إعادة هيكلة قواتها، وتحديث تكتيكاتها، وإصلاح نظام القيادة. كذلك ينبغي عليها تحسين طرق شراء المعدات واعتماد أنواع جديدة، مع تدريب الجنود على التعامل مع الطائرات المسيّرة واستخدام الذكاء الاصطناعي.
بينما يتغيّر شكل الحروب، تبقى بعض الحقائق ثابتة، إذ تسعى الأطراف المتصارعة في كل نزاع إلى فرض إرادتها السياسية عبر العنف المنظم، وسط نقص في المعلومات، وضغوطات داخلية وخارجية، وظروف تشمل الخوف والموت. ومع أن الروبوتات قد تسهم في تغيير بعض جوانب الحروب، إلا أن هذه الحقائق الأساسية قد لا تتغير.
ثبت أن التكيف التكنولوجي ضروري للنجاح العسكري، كما أثبتت الحرب العالمية الثانية؛ إذ تمكن الجيش الألماني من دمج عدة تقنيات حديثة حينها -مثل الطائرات والدبابات والراديو- في استراتيجيات الحرب الخاطفة، التي أتاحت له السيطرة على معظم أوروبا خلال 18 شهرًا فقط. إلا أن الحلفاء ردّوا بتطوير تكتيكات جديدة، واعتمدوا على «قوة الإبداع» -وهي القدرة على التبني السريع للتقنيات الجديدة- حتى تمكّنوا من بناء جيوش ميكانيكية وضخ كميات هائلة من القوات الجوية، ووصلوا إلى استخدام القنابل النووية. ورغم نجاح الحلفاء، كانت النتيجة غير مضمونة، حيث اقتربت ألمانيا من الانتصار لولا عدم كفاءتها في إدارة مواردها الصناعية واتخاذها لخيارات استراتيجية سيئة.
مع التحول نحو أنظمة آلية، أصبح التنبؤ بتقنيات المعارك المستقبلية أسهل. فاليوم، تنتشر الطائرات المسيّرة، ويزداد اعتماد الجيوش على الروبوتات. وأثبتت النزاعات الأخيرة أن الذكاء الاصطناعي يُحدث بالفعل تغييرًا جذريًّا في أساليب القتال، ومن المتوقع أن تشهد النزاعات المقبلة دمجًا كاملًا للذكاء الاصطناعي في كل مرحلة من مراحل العمليات العسكرية. فعلى سبيل المثال، يمكن لهذه الأنظمة أن تُجري محاكاة لآلاف السيناريوهات التكتيكية في وقت قياسي، مما يختصر الزمن بين التخطيط والتنفيذ.
وفي الصين، قام الجيش بتطوير نظام قيادة يستخدم الذكاء الاصطناعي في محاكاة سيناريوهات واسعة النطاق، مما قد يمنح القادة البشريين رؤى جديدة. وبهذه التطورات، يمكن أن تُدار العمليات الحربية مستقبلًا عن بُعد، حيث يجلس الجنود في مراكز القيادة يراقبون الشاشات، في حين يتولى الذكاء الاصطناعي توجيه المعدات ذاتيًّا.
حتى الآن، تُستخدم أنظمة التحكم الذاتي بشكل رئيسي في القوات البحرية والجوية، لكنها ستنتقل قريبًا إلى المعارك البرية، إذ ستكون الروبوتات البرية هي خط الدفاع والهجوم الأول، مهيأة للاستطلاع والاشتباك المباشر. فقد نشرت روسيا بالفعل مركبات برية ذاتية القيادة في أوكرانيا، في حين تستخدم أوكرانيا الروبوتات لإجلاء المصابين وإزالة الألغام.
استخدام الأسلحة دون قائد/ طيار ضروري لسبب آخر: فهي رخيصة. والمسيّرات هي فئة من الأسلحة أكثر تكلفة بكثير من الطائرات العسكرية التقليدية. على سبيل المثال، تكلّف طائرة دون طيار من طراز MQ-9 Reaper ما يقرب من ربع تكلفة طائرة مقاتلة من طراز F-35 والطائرة MQ-9 هي واحدة من أغلى هذه الأسلحة؛ حيث لا تكلف المسيّرات البسيطة (من منظور الشخص الأول) سوى 500 دولار. ويمكن لفريق مكون من عشر مسيّرات منها شل حركة دبابة روسية بقيمة 10 ملايين دولار في أوكرانيا. (على مدى الأشهر القليلة الماضية، دمّرت مثل هذه المسيّرات أكثر من ثلثي الدبابات الروسية في أوكرانيا). وقد تسمح هذه القدرة على تحمّل التكاليف للدول بإرسال أسراب من المسيرات -بعضها مصمم للمراقبة، وبعضها الآخر للهجوم- دون القلق بشأن الاستنزاف. ومن الممكن أن تطغى هذه الأسراب بعد ذلك على أنظمة الدفاع الجوي التقليدية، والتي لم تُصمم لإسقاط مئات الأجسام في وقت واحد. وحتى عندما تسود أنظمة الدفاع، فإن تكلفة الدفاع ضد الأسراب سوف تتجاوز بكثير تكلفة الهجوم على العدو. لقد كلفت الضربة الجوية الإيرانية الشاملة بالمسيّرات والصواريخ ضد إسرائيل في شهر أبريل الماضي ما لا يزيد على 100 مليون دولار، لكن جهود الاعتراض التي بذلتها الولايات المتحدة وإسرائيل كلفت أكثر من ملياري دولار.
قد تؤدي القدرة على تحمّل التكاليف أيضًا إلى تعزيز دور الجهات غير الحكومية، إذ استخدم تنظيم داعش في 2016 مسيّرات منخفضة التكلفة لعرقلة تقدم القوات المدعومة من الولايات المتحدة في سوريا والعراق. كذلك، استهدفت جماعات متمردة تدعمها إيران قواعد أمريكية باستخدام مسيّرات رخيصة الثمن.
بالتوازي، تعمل دول عدة على تطوير هذه الأنظمة التكنولوجية. وتشير التوقعات إلى أن نشر هذه التقنيات بأسعار مناسبة سيسهم في دعم الدفاعات الوطنية وتخفيف الأعباء المالية، ومن المتوقع أن تقود الحروب المستقبلية أطرافًا تعتمد بشكل أكبر على المسيّرات والأنظمة ذاتية التشغيل.
لا توجد دولة مستعدة تمامًا للحروب المستقبلية. لم تبدأ أي دولة في إنتاج الأجهزة اللازمة للأسلحة الآلية على نطاق واسع، ولا ابتكرت البرامج اللازمة لتشغيلها بالكامل. ومع ذلك، هناك دول متقدمة أكثر من غيرها، وللأسف، أعداء الولايات المتحدة في المقدمة من عدة نواحٍ. فقد زادت روسيا، التي اكتسبت خبرة في أوكرانيا، من إنتاج المسيّرات وتستخدمها بفعالية كبيرة. كما تهيمن الصين على السوق العالمية للطائرات دون طيار التجارية، حيث تستحوذ شركة DJI الصينية على ما يقرب من 70% من الإنتاج.
أما فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي، فلا تزال الولايات المتحدة تمتلك أفضل الأنظمة وتخصص أكبر قدر من الإنفاق عليها، لكن الصين وروسيا تحققان تقدمًا سريعًا. تمتلك واشنطن الموارد اللازمة لمواصلة الإنفاق على الذكاء الاصطناعي، ولكن قد تواجه تحديات في التغلب على العوائق البيروقراطية والصناعية التي تمنع نشر تقنياتها. نتيجة لذلك، قد يجد الجيش الأمريكي نفسه غير مستعد بشكل كافٍ لمواجهة ساحة معركة مليئة بالتقنيات الجديدة، مثل الطائرات دون طيار التي يمكنها تتبع تحركاته واستهدافه سريعًا، مما يشكل تهديدًا خطيرًا في ساحات المعارك المفتوحة كأوكرانيا وأوروبا الشرقية، وحتى المساحات الواسعة من القطب الشمالي.
حتى في البحر، قد تواجه الولايات المتحدة تحديات من خصومها. على سبيل المثال، قد تغرِق الصواريخ الصينية الأسرع من الصوت حاملات الطائرات الأمريكية قبل أن تغادر موانئها، كما نشرت الصين أنظمة مراقبة وحرب إلكترونية تعمل بالذكاء الاصطناعي، ما يمنحها ميزة دفاعية في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ. وفي الجو، قد تواجه طائرات F-35 صعوبة في التغلب على أسراب الطائرات دون طيار منخفضة التكلفة، ويمكن أن يواجه ذلك أيضًا دبابات أبرامز الثقيلة. ومن الواضح أن المخططين العسكريين الأمريكيين يدركون أن حقبة التفوق العسكري المطلق قد انتهت، وأن الذكاء الاصطناعي قد يعرّض البشرية للخطر.
للتكيف مع المستقبل، تحتاج المؤسسة العسكرية الأمريكية إلى إجراء إصلاحات كبيرة، بدءًا من تعديل عمليات شراء البرمجيات والأسلحة. عملية الشراء الحالية شديدة البيروقراطية، وقد تحتاج إلى تغيير مسارها بشكل يناسب التهديدات سريعة التطور. على سبيل المثال، تعتمد الولايات المتحدة على دورات شراء طويلة الأمد تصل إلى عشر سنوات، مما قد يجعلها ملزمة بعقود قديمة بعد تطور التقنيات. وينبغي أن تسعى أيضًا إلى تنويع مصادرها، حيث تلقت خمس شركات دفاعية في عام 2022 أكثر من 30% من ميزانية وزارة الدفاع، بينما لم تتلقَ شركات التكنولوجيا الجديدة تقريبًا أي تمويل. ولتأمين مستقبل أكثر استدامة، قد يتطلب الأمر إصلاح الهياكل التنظيمية وأنظمة التدريب، حيث يجب أن تكون سلسلة القيادة أكثر مرونة، وتمنح الوحدات الصغيرة مزيدًا من الاستقلالية، مما يجعلها أكثر رشاقة وسرعةً في التكيف مع وتيرة الحرب الحديثة.
وبالرغم من المخاطر، يمكن لهذا العصر الجديد من الحرب تحقيق فوائد معيارية؛ فالتكنولوجيا الحديثة قد تقلل من الهجمات العشوائية وتخفّض عدد الضحايا بين الجنود. لكن الارتفاع في عدد الإصابات بين المدنيين في غزة وأوكرانيا يلقي بظلال من الشك على فكرة تقليل الخسائر، خاصة في المعارك الحضرية.
يطرح الذكاء الاصطناعي أيضًا قضايا أخلاقية وقانونية خطيرة، حيث يمكن استخدامه بسهولة لأغراض قمعية من قبل الأنظمة الاستبدادية. فقد ارتبطت شركة DJI بانتهاكات حقوق الإنسان ضد مسلمو الإيغور الصينيين، واستخدمت مجموعة فاجنر شبه العسكرية طائرات دون طيار ضد المدنيين في مالي. حتى أن الجيش الإسرائيلي استخدم الذكاء الاصطناعي في غزة، ببرنامج يتطلب موافقة بشرية لا تتجاوز 20 ثانية لكل هجوم.
في أسوأ الحالات، يمكن أن تؤدي حرب الذكاء الاصطناعي إلى كارثة على البشرية. فقد وجدت نماذج الذكاء الاصطناعي مثل OpenAI وMeta وAnthropic أن هذه النماذج قد تصعد بسهولة إلى حرب شاملة، بما في ذلك حرب نووية. في عام 1983، صنف نظام سوفييتي الضوء المنعكس عن السحب كتهديد نووي، لكن الجندي المسؤول استطاع تمييز التحذير الكاذب. في عصر الذكاء الاصطناعي، قد لا يكون هناك إنسان للتحقق من ذلك.
من حسن الحظ أن هناك إدراكًا متبادلًا لأهمية التعاون بين القوى العظمى. عقب قمتهما في نوفمبر 2023، اتفق الرئيس بايدن والرئيس الصيني شي جين بينج على مناقشة مخاطر الذكاء الاصطناعي، وعقدت الجولة الأولى من المحادثات في جنيف في مايو. قد يشكل هذا التعاون الأساس لتدابير أكبر، مثل تدابير الأمان النووية التي وضعتها الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة.
وفي حال عدم تعاون الصين، يجب على الولايات المتحدة أن تضمن خضوع أنظمة الذكاء الاصطناعي العسكري لضوابط صارمة، بحيث تميز بين الأهداف العسكرية والمدنية، وتبقى تحت إشراف بشري، مع إجراء اختبارات دورية لضمان دقتها. ويجب عليها أيضًا أن تضغط على الدول الأخرى لاعتماد إجراءات مشابهة، وفي حال رفضت تلك الدول، يمكن للولايات المتحدة وشركائها فرض قيود اقتصادية للحد من الوصول إلى هذه التقنيات الخطرة.
مارك ميلي رئيس هيئة الأركان المشتركة السابق للولايات المتحدة.
إريك شميت رجل أعمال أمريكي ومهندس كمبيوتر سابق
المقال نشر في « Foreign Affairs»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة الذکاء الاصطناعی على سبیل المثال فی أوکرانیا المسی رات دون طیار أکثر من مسی رات
إقرأ أيضاً:
الذكاء الاصطناعي.. أمل اللغات المهددة
بعد عقود من التراجع، تجد لغة الأينو اليابانية القديمة، التي كانت يومًا صوتًا نابضًا لسكان شمال البلاد الأصليين، فرصة جديدة للحياة، لكن هذه المرة عبر الخوارزميات. مشروع بحثي جديد بقيادة جامعة كيوتو يوظّف الذكاء الاصطناعي لتحليل وترميز مئات الساعات من التسجيلات الصوتية النادرة، في محاولة لإعادة بناء هذه اللغة الموشكة على الاندثار.
من الشريط إلى الشيفرة
في غرفة ضيقة داخل أحد المعامل الجامعية، يدير البروفيسور تاتسويا كاواهارا فريقًا من الباحثين وهم يستمعون إلى مقاطع صوتية مهترئة سُجلت قبل عقود على أشرطة كاسيت. تدور البكرات، ويتكرر الطنين، ثم يصدح صوت امرأة مسنة تروي حكاية من التراث الشفهي لشعب الأينو. هذه التسجيلات، التي كانت في طي النسيان، أصبحت اليوم المادة الخام لبناء نظام ذكاء اصطناعي يتعلم كيف «يفهم» لغة الأينو، وينطقها.
يقول كاواهارا: «الكثير من المواد الصوتية تعاني من رداءة واضحة، فهي مسجلة بأجهزة تناظرية قديمة وفي بيئات منزلية مليئة بالتشويش، رغم ذلك استطعنا بفضل أدوات المعالجة الحديثة رقمنة حوالي 400 ساعة من المحتوى وتحويلها إلى بيانات قابلة للتعلم»
بناء نظام لا يعرف اللغة
بخلاف أنظمة التعلم الآلي التقليدية التي تعتمد على قواعد لغوية وهيكل نحوي موثق، يواجه مشروع إحياء لغة الأينو تحديًا فريدًا يتمثل في ندرة البيانات اللغوية وتضاؤل عدد المتحدثين الأصليين.
وبسبب غياب مصادر كافية، اعتمد فريق جامعة كيوتو على نموذج «نهاية إلى نهاية» (end-to-end) يتيح للذكاء الاصطناعي تعلم اللغة مباشرة من التسجيلات الصوتية، دون الحاجة إلى معرفة مسبقة بالبنية اللغوية.
بدأ المشروع بتحليل نحو 40 ساعة من قصص «أويبيكير» النثرية، رواها ثمانية متحدثين وتم الحصول عليها من متحف الأينو الوطني ومؤسسات ثقافية في نيبوتاني. وبحسب كاواهارا، فإن الأرشيف الكامل يضم نحو 700 ساعة من المحتوى الصوتي، معظمها مخزنة على أشرطة كاسيت قديمة.
من التسجيل إلى التحدث
لم يقتصر مشروع جامعة كيوتو على التعرف الآلي على لغة الأينو، بل امتد إلى تطوير نظام لتوليد الكلام، في محاولة لإعادة إحياء النطق الشفهي للغة المهددة بالاندثار.
وباستخدام تسجيلات لأشخاص ناطقين بالأينو قرؤوا نصوصًا بلغتهم لأكثر من عشر ساعات، درّب الباحثون نموذجًا صوتيًا قادرًا على تحويل النصوص إلى كلام منطوق. والنتيجة، بحسب الفريق، كانت صوتًا اصطناعيًا يحاكي نبرة وإيقاع امرأة أينو مسنّة، يروي قصصًا شعبية بإلقاء طبيعي نسبيًا، وإن بدا أسرع من المعتاد.
أكد البروفيسور كاواهارا إن الأطفال أصبحوا قادرين على الاستماع إلى القصص التقليدية بلغة الأينو عبر مساعدين افتراضيين، مضيفًا أن الفريق يسعى لتوسيع نطاق المبادرة لتشمل لهجات مختلفة ومحتوى حديث يعبّر عن الجيل الشاب.
الدقة تحت الاختبار
على الرغم من التقدم التقني، تظل التساؤلات قائمة بشأن دقة أنظمة الذكاء الاصطناعي المستخدمة في إحياء لغة الأينو. ويقول الفريق البحثي إن نظام التعرف على الكلام يحقق دقة تصل إلى 85% في التعرف على الكلمات، وأكثر من 95% في تمييز وحدات الصوت «الفونيمات»، إلا أن هذه النسب تنخفض عند التعامل مع لهجات محلية أو متحدثين غير مدرّبين.
مايا سيكينه، شابة من أصول أينو تدير قناة على يوتيوب لتعليم اللغة، تنظر إلى المشروع بعين متحفّظة. وتقول: «التقنية مثيرة للإعجاب، لكن الذكاء الاصطناعي لا يمكنه التقاط التفاصيل الدقيقة في نطق الأينو. هناك أخطاء قد تصبح شائعة إذا لم تُراجع بدقة».
وتشير سيكينه إلى أن بعض أفراد المجتمع أعربوا عن قلقهم من المشروع، في ظل تاريخ طويل من الإهمال والتعامل غير المناسب مع الثقافة.
وتقول سيكينه: «هناك خشية من إساءة استخدام اللغة مجددًا».
وأضافت: «لكن مشاركة مراجعين من الأينو داخل المشروع ساعد على تخفيف هذا القلق جزئيًا».
السياق أهم من النطق
وفي السياق ذاته، تقول سارة هوكر، مديرة مؤسسة «Cohere for AI»: «القلق لا يتوقف عند النطق. إن الخطر الحقيقي في تقنيات اللغة النادرة هو فقدان السياق».
وأضافت هوكر: «اللغة ليست فقط أصواتًا أو نصوصًا، بل بيئة وثقافة. عندما يختفي المتحدثون، تفقد اللغة معناها الحقيقي حتى لو تم توليدها تقنيًا».
ويتفق معها فرانسيس تايرز، مستشار علم اللغة الحاسوبي في مشروع «Common Voice» التابع لمؤسسة موزيلا، مشيرًا إلى أن المستقبل الحقيقي لتقنية اللغة يكمن في أن يقودها المجتمع نفسه. في مناطق مثل إسبانيا، طوّر متحدثو الباسك والكاتالان أدوات الترجمة الخاصة بهم بأنفسهم.
الملكية والشفافية
لا تزال مسألة ملكية البيانات الناتجة عن استخدام الذكاء الاصطناعي في إحياء لغة الأينو مثار جدل. ويؤكد البروفيسور تاتسويا كاواهارا أن التسجيلات الصوتية الأصلية تعود ملكيتها إلى المتحف الوطني للأينو، وقد جُمعت بموافقة عائلات المتحدثين، في حين تحتفظ جامعة كيوتو بحقوق النظام التقني المطوّر.
وقال كاواهارا: «النظام ببساطة لا يعمل بدون البيانات، وفي نهاية المطاف، لا يمكن إحياء لغة بصورة حقيقية من دون المتحدثين الأصليين»
ويرى الباحث ديفيد أديلاني، أستاذ علوم الحاسوب بجامعة ماكغيل الكندية، أن بناء الثقة مع المجتمعات المحلية يجب أن يكون أساس أي مبادرة لغوية.
وقال أديلاني: «غالبًا ما يشعر الناس أن بياناتهم تُؤخذ ثم تُستخدم لتحقيق أرباح، دون إشراكهم الحقيقي في العملية. السبيل الأمثل هو تدريبهم ليكونوا في موقع القيادة بأنفسهم».
في نهاية المطاف، يثبت مشروع جامعة كيوتو أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أداة فعالة في حماية اللغات المهددة، شرط أن يُستخدم بحذر، وأن يرافقه تمكين حقيقي للمجتمعات الناطقة. هكذا تتحول الأصوات القديمة إلى مستقبل حي، يحافظ على الذاكرة الثقافية ويعزز التنوع اللغوي في عالم سريع التغير.