الحرب على لبنان تفقد «بعلبك» روادها وسكانها
تاريخ النشر: 27th, October 2024 GMT
لبنان «أ.ف.ب»: منذ نحو شهر، فرغ فندق بالميرا في مدينة بعلبك، في شرق لبنان، من زواره تمامًا على وقع دوي غارات إسرائيلية لا تهدأ من حوله، لكن ربيع سليقة، الموظف منذ 24 عامًا، يرفض المغادرة.
في الفندق التاريخي الحجري المطلّ على قلعة بعلبك الأثرية، يزاول ربيع (45 عامًا) عمله رغم الحرب، فيمسح الغبار عن أثاثه القديم ومراياه، ويزيل الزجاج المتناثر من عصف غارات تضرب في الجوار.
ويقول الرجل المتحدّر من سوريا: «لم يقفل الفندق أبوابه منذ 150 عامًا حتى اليوم»، مضيفًا: «إن أصحابه يريدون له أن يبقى مفتوحًا».
في المدينة الملقبة بـ«مدينة الشمس»، والتي تعدّ السياحة مصدر دخلها الأساسي، ألقت الحرب بظلالها على كلّ شيء، خصوصًا في الشهر الأخير مع ازدياد وتيرة القصف الإسرائيلي على المدينة ومحيطها على وقع اتساع التصعيد بين حزب الله وإسرائيل.
وتبدو الحياة فيها شبه متوقفة؛ إذ تغلق المتاجر أبوابها باكرًا، ويتسوّق من تبقى من السكان سريعًا خلال النهار، ونادرًا ما يخرجون بعد الظهر.
يتذكر سليقة بحنين الزمن الماضي حين كان الزوار من سياح ومشاهير يتدفقون إلى الفندق، لكن «اليوم لم نعد نقدم حتى فنجان قهوة واحد... لا نزلاء والفندق خالٍ تمامًا».
حين يحدّق بالقاعات الشاسعة الفارغة من حوله، يقول سليقة إنه يشعر «بغصّة كبيرة في القلب».
لكنه، رغم ذلك، لم تراوده فكرة العودة إلى مسقط رأسه في السويداء في جنوب سوريا إلى حين انتهاء الحرب.
ويؤكد الرجل الذي غزا الشيب رأسه: «لا أستطيع أن أترك الفندق، لقد تربيت هنا وتعلقت بالمكان كثيرًا».
إلى ذلك، تُعد بعلبك من كبرى مدن البقاع، المنطقة الحدودية مع سوريا والتي تعتبر من معاقل حزب الله.
وبعدما بقيت طيلة نحو عام بمنأى عن التصعيد بين حزب الله وإسرائيل، إلا أن غارات استهدفتها ومحيطها خلال الأسابيع القليلة الماضية.
ويقول رئيس البلدية مصطفى الشل لفرانس برس: إن الغارات استهدفت «أماكن تجارية وسكنية».
ويضيف: «السوق التجاري تقريبًا شبه مقفل، يفتح أبوابه ساعة في اليوم، وأحيانًا لا يفتح».
أما المتبقون في بعلبك، وهم «نحو أربعين في المائة من سكانها البالغ عددهم 250 ألف نسمة»، فيتركزون خصوصًا في أحياء تقطنها غالبية من المسلمين السنة في المدينة المتنوعة طائفيًا ومذهبيًا.
ويحاول آخر المتبقين في بعلبك مع ذلك «ألا يتواجدوا في الطرقات خوفًا من أي غارة قد تسقط في أية لحظة»، وفق الشل.
وبعدما خرج أحد مستشفيات المدينة من الخدمة تمامًا، إثر أضرار نجمت عن غارة إسرائيلية قربه، لا تزال خمسة مستشفيات أخرى عاملة، وفق رئيس البلدية.
ويضيف أن جلّ ما تستطيع البلدية القيام به، مع غياب أي تمويل رسمي في بلد غارق في انهيار اقتصادي منذ عام 2019، هو «فتح الطرقات وتنظيفها بعد القصف» و«تقديم بعض المساعدات العينية» لعدد قليل من النازحين في مراكز الإيواء.
إضافة إلى قلعتها الأثرية، تضم المدينة مقام السيدة خولة الذي يحظى برمزية دينية ويستقطب، وفق الشل، «بحدود المليون زائر» سنويًا.
بحسب تقديرات البلدية، دخل المدينة العام الماضي ستون ألف سائح أجنبي، وما بين ستة إلى ثمانية آلاف سائح عربي، إضافة إلى مائة ألف من لبنان، أما هذا العام فقد سجّلت نسبة السياحة خمسة في المائة مقارنة مع عام 2023.
في السادس من أكتوبر، تصاعدت سحب دخان جراء قصف إسرائيلي خلف الأعمدة الرومانية الأثرية في قلعة بعلبك، المدرجة على قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو) للتراث العالمي منذ عام 1984.
حينها، حذّر محافظ بعلبك بشير الخضر من أن لغارات مماثلة «أثرًا سلبيًا» على القلعة، «سواء من الدخان الأسود الذي يؤثر على الحجارة، أو من قوة الانفجار» الذي قد تؤثر ارتجاجاته على الموقع.
وأكّدت اليونسكو لفرانس برس أنها «تتابع عن كثب تأثير الأزمة الجارية في لبنان على مواقع التراث الثقافي، بما في ذلك مواقع التراث العالمي».
لم يكن حسين الجمّال (37 عامًا) يخال يومًا أن حياته ستنقلب «180 درجة»، على حد قوله، يتذكر الشاب الذي بقي مع والديه في بعلبك كيف «كانت الطرقات تضج بالحياة، القلعة تستقبل زوارها، والمطاعم مفتوحة، والأسواق مزدحمة» قبل الحرب. أما «الآن فلا يوجد أحد».
ويشير الصيدلي الذي يعمل في الجمعية اللبنانية للدراسات والتدريب، وهي منظمة غير حكومية، إلى أن بقاءه مرتبط فعليًا بمساعدة الباقين من أهالي المدينة، أو من نزحوا داخلها، فيما غادرت زوجته وطفلاه (5 و8 سنوات).
ويقول: «أعمل في المجال الاجتماعي والإنساني، لا أستطيع المغادرة، ولو غادر الجميع»، مضيفًا إن في حيه «أربعة بيوت مأهولة بالسكان، معظمهم كبار في السن» يتفقدهم صباح كل يوم «لمعرفة متطلباتهم».
على غرار الجمّال، بقيت رشا الرفاعي (45 عامًا) في المدينة مع والديها المسنين، وتتذكر كيف أن «الحياة قبل الحرب كانت عادية جدًا، عمل، نادٍ رياضي، سهر، أصدقاء... لم يكن لدينا الكثير لنفكر به».
أما اليوم «تغير كل شيء، نعمل عن بعد، لا نرى أحدًا».
وتروي الرفاعي، العاملة في مجال الدعم النفسي لنساء معرضات للعنف القائم على النوع الاجتماعي، أنه منذ أن بدأت الحرب، انقطع تواصلها مع العديد منهن بسبب فرارهن.
ورغم ذلك، تلازم العائلة منزلها لئلا تتكرر معاناة عاشوها خلال حرب مدمرة بين حزب الله وإسرائيل صيف 2006.
وتقول: «تهجرنا حينها من بيت إلى بيت وعشنا تجربة صعبة لا نريد أن نكررها، طالما الوضع مقبول، نحن باقون هنا».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: حزب الله
إقرأ أيضاً:
الانتخابات البلدية في جنوب لبنان.. صناديق اقتراع فوق الركام
جنوب لبنان- بعد تأجيل متكرر فرضته الأزمات السياسية والاقتصادية والصحية المتلاحقة، تعود الانتخابات البلدية والاختيارية هذا العام إلى الواجهة في لبنان، لكنها لم تعد مجرد محطة لتنمية محلية، بل تحولت إلى ساحة اختبار سياسي في ظل واقع يثقل كاهل البلاد بين عدوان إسرائيلي وأزمات معيشية وإنمائية متفاقمة.
ويتجلى التحدي الأكبر في الجنوب اللبناني، حيث خلفت الحرب دمارا واسعا في القرى الحدودية الأمامية، كما طالت الأضرار البنى التحتية في بلدات الخط الثاني، مما يجعل من تنظيم الانتخابات هناك مهمة شاقة وسط مشهد إنساني مأزوم.
إداريا، يتوزع لبنان على 8 محافظات تضم 25 قضاء وهي بيروت، وجبل لبنان، والشمال، وعكار، والبقاع، وبعلبك-الهرمل، والجنوب، والنبطية. ويضم 1080 بلدية تتولى إدارة الشؤون المحلية وتقديم الخدمات الأساسية للسكان، وتشكل ركيزة رئيسية في العمل الإداري والإنمائي.
ومن المقرر أن تنطلق الانتخابات البلدية في 4 مايو/أيار المقبل، وفق جدول زمني يمتد لـ4 أسابيع موزعة على المحافظات كما يلي:
4 مايو/أيار: محافظة جبل لبنان. 11 مايو/أيار: محافظتا الشمال وعكار. 18 مايو/أيار: بيروت، والبقاع، وبعلبك-الهرمل. 24 مايو/أيار: الجنوب والنبطية.في بلدة ميس الجبل الحدودية التي نكبت جراء العدوان الإسرائيلي الأخير، تتقاطع مشاعر القهر والإصرار بين سكانها العائدين إلى ركام المنازل وغياب مقومات الحياة.
إعلانعاد حسين حمادة، أحد أبنائها، ليجدها على حد وصفه "منكوبة لا أثر للحياة فيها، المحل الذي كنت أملكه بات ركاما، ولا طرقات مفتوحة، والمنازل مدمرة، تكاد لا تطيق النظر إلى بلدتك بهذا الشكل وتشعر بالقهر والعجز".
ورغم هذا الواقع المؤلم، فلا يخفي حمادة عزمه على المشاركة في الانتخابات البلدية المقبلة، مؤكدا أنه لطالما مارس هذا الحق، ويدعو الآخرين إلى الاقتداء به والوقوف صفا واحدا خلف البلدية المقبلة من أجل النهوض بميس الجبل، ويقول للجزيرة نت "هذه المرة نحن مع الجميع، سواء حزب الله أو حركة أمل، لا يهم من يفوز، المهم أن يعمل من أجل ميس الجبل، نريد أن نعيش كما كنا قبل الحرب".
أما خليل، الذي فقد منزله ومصدر رزقه، فاختار العودة إلى ميس الجبل حاملا معه رسالة صمود وإصرار على البقاء، ويعتبر مشاركته في الانتخابات تعبيرا عن تمسكه بالأرض وبحقوقه كمواطن، وخطوة نحو استعادة الحياة تدريجيا في بلدة دمرتها الحرب.
ويعرب للجزيرة نت عن أمله في أن يتمكن المجلس البلدي الجديد من إعادة تأهيل البنية التحتية، وإحياء المرافق الحيوية، مؤكدا أن المهمة لن تكون سهلة في ظل الخراب الواسع الذي خلفه العدوان الإسرائيلي، و"أعاد البلدة سنوات إلى الوراء".
مهمة صعبةمن جهته، ينتظر المهندس حسن طه الانتخابات بفارغ الصبر، آملا في ولادة مجلس بلدي فاعل يضم كفاءات قادرة على تنفيذ مشاريع تنموية تتناسب مع حجم الكارثة، ويؤكد للجزيرة نت أن البلدة بحاجة ماسة إلى إعادة تأهيل المستشفيات والمدارس، وشبكتي الكهرباء والمياه، فالمقومات الأساسية للحياة باتت شبه معدومة، ومن الضروري الإسراع بإطلاق ورش العمل لإعادة الحد الأدنى من الخدمات.
وفي بلدة حولا الجنوبية التي أنهكها الدمار وأثقلها الخراب، عاد علي حمدان ليقف على أطلال بيته الذي كان يوما يعج بالحياة، ويقول بمرارة للجزيرة نت "كل زاوية في هذا البيت تحمل ذكرى والآن لم يبقَ منها إلا الجدران المحروقة، رغم الخراب عدتُ إلى حولا لأن الانتماء للأرض أقوى من الحرب".
إعلانويؤكد حمدان أنه سيتوجه إلى صناديق الاقتراع في الانتخابات المقبلة "لأنها بداية الطريق نحو استعادة بلدتنا، وعلى المجلس الجديد أن يكون بمستوى آلام الناس وتطلعاتهم، ما نحتاجه ليس فقط إعادة إعمار الحجر بل إعادة بناء الثقة والأمل، فحولا ليست مجرد بلدة، إنها بيت كبير علينا جميعا أن نعيد إليه نبض الحياة".
بدوره، يتهيأ أحمد عواضة، أحد أبناء البلدة العائدين حديثا، للمشاركة في السباق الانتخابي القادم حاملا معه قائمة طويلة من المطالب والآمال، ويوضح للجزيرة نت "الانتخابات هذه المرة ليست مجرد استحقاق بلدية بل معركة من أجل البقاء، نريد مجلسا بلديا يعكس وجع الناس ويبدأ فورا بورش العمل لإعادة تأهيل ما دمرته الحرب".
ويشدد عواضة على ضرورة أن يضم المجلس الجديد شخصيات كفؤة ونزيهة قادرة على التعامل مع حجم الكارثة التي لحقت بالبنية التحتية والخدمات الأساسية، ويتابع "نحتاج إلى خطط سريعة لإصلاح شبكات الكهرباء والمياه، وإعادة فتح الطرق والمدارس، وتأمين الدعم للعائلات المتضررة".
ويؤكد أن أبناء حولا اليوم لا يطلبون ترفا بل الحد الأدنى من مقومات الحياة. وبالنسبة له، الاقتراع هذا العام هو فعل صمود، وممارسة ديمقراطية تحمل في طياتها نداء لإنقاذ بلدة أرهقتها الحروب وأحيتها الإرادة.
رسالة صمودمن جانبه، قال رئيس بلدية حولا شكيب قطيش للجزيرة نت إن الوضع في البلدة بالغ الصعوبة وتفتقر إلى أبسط مقومات الحياة ومع ذلك ستُجرى الانتخابات البلدية، وهذه المرة تأتي محملة بأبعاد تنموية وإنمائية ووطنية، وتحمل في الجنوب اللبناني رسالة صمود وإرادة حياة فوق الركام والدمار.
وأضاف أن البلدية تواجه اليوم تحديات جسيمة في وقت تعد فيه ميزانيتها ضئيلة حتى في الظروف العادية. متسائلا "فكيف الحال في ظل ما نمر به من أوضاع استثنائية؟ نحن بحاجة إلى كل شيء، من إعادة إعمار إلى ترميم المدارس والمستشفيات والمساجد".
إعلانوحسب قطيش، فإن معظم مباني البلديات إما مدمرة أو متضررة، لكن هذه الانتخابات تحمل بعدا وطنيا يؤكد أن أهل الجنوب رغم الدمار والعدوانية الإسرائيلية التي طالت بلداتهم، لا يزالون متمسكين بأرضهم وحقهم في الحياة.
وختم بدعوة الأهالي إلى المشاركة في الانتخابات، قائلا "صوتكم اليوم ليس مجرد خيار إداري، بل فعل صمود ومقاومة، عبر الاقتراع نثبت أننا شعب لا تكسره الحروب ولا تهزم إرادته".