سرّي للغاية: البحث عن الذات وسط صراعات لا تنتهي وأهداف خاطئة
تاريخ النشر: 27th, October 2024 GMT
لا شك أن أساليب الإنتاج السينمائي صارت تتجه نحو إيجاد أكثر العناصر والمؤثرات والموضوعات جذبا للجمهور وبما في ذلك المزج بين أنواع سينمائية متعددة في نطاق الفيلم الواحد كالمزج بين ثيمة الرعب مع العنف والجريمة والخيال العلمي أو المزج بين الحركة والجريمة وأفلام التحري والأفلام البوليسية وغيرها.
وفي هذا الإطار يمكن النظر إلى هذا الفيلم المعروض حديثا للمخرج رويل ريني انه يتجه إلى مزج عنصر الحركة مع الجريمة مع التحري مع المزج العاطفي والرومانسي على صعيد واحد فهل يحقق فيلم من هذا النوع النجاح المنتظر؟
قبل الإجابة النهائية لا بد لنا من فهم المعالجة السينمائية التي لجأ إليها المخرج ومعه كاتب السيناريو بوب دي روسا من منطلق أساس يمكن الوصول إليه مباشرة وهو ما يعرف بسينما الممثل بمعنى أن النمط التجاري يستوجب في بعض الأحيان التشبث بممثل يرتبط في أذهان المشاهدين بالنجاح من جهة وكونه يرتبط أيضا بنوع فيلمي محدد وهنا سنكون مع الممثل آرون ايكهارت الذي ارتبط اسمه وحضوره غالبا بأفلام الحركة وأفلام التجسس والمخابرات حتى كوّن صورة نمطية له وكأنه خليفة للممثل البريطاني الشهير ليام نيسون في مثل هذا النوع من الأفلام.
هنا يؤدي ايكهارت دور القاتل المأجور ايفان شو المكلف بمهام الاغتيالات وملاحقة الأشرار من عصابة إلى أخرى فمن نيويورك إلى روما إلى مالطا إلى عموم أوروبا هو الفضاء الذي يتحرك فيه بسلاسة وبتكليف من قسم مختص في المخابرات المركزية الأمريكية لملاحقة أولئك الأشرار والقضاء عليهم.
ها هو يعبر عن ثوابته في العمل، انه يدعي وبمجرد وصوله إلى الفندق الذي يسكن فيه انه نسي حقيبة سفره في مرة سابقة وفي كل مرة سوف يجد حقيبة سفر بانتظاره وهي محشوة بالأسلحة ثم يقرأ الصحيفة اليومية ويجد إعلانا يبدأ بفك طلاسمه من خلال الرسم التخطيطي فيظهر أمامه الهدف المنشود.
هذه الأرضية هي التي سوف تتأسس عليها أحداث هذا الفيلم على وفق خط سردي يجمع ما بين شو وبين رئيسه في العامل كيفن - يؤدي الدور الممثل تم روث وحيث تربط بينهما أبعد من علاقة العمل إلى صداقة عميقة وثقة متبادلة لكن السؤال ماذا لو كان هذا القاتل المحنك وشديد الذكاء الذي يحسب لكل شيء حسابه مجرد قاتل مأجور تعرض للخداع وانه يستدرج لتنفيذ مهام ليست مخابراتية بل تصفية حسابات بين عصابات؟
هذا التحول الدرامي سوف يتجلى مع ظهور الفتاة كيسي - الممثلة ابيجال بريسلن على أساس أنها تعمل لصالح المخابرات البريطانية وأنها ورأفة به جاءت لتخبره بأنه قد تعرض للخداع ثم وبعد مرور مزيد من الوقت وبعد معارك طاحنة تقع في مالطا نكتشف أن تلك الفتاة لا علاقة لها بالمخابرات البريطانية وإنما هي ابنة شو نفسه، وتلك صدمة أخرى وتحول آخر في حياة هذا الضابط المحنك وشديد الذكاء.
بالطبع سوف نتساءل من وجهة نظر سردية ودرامية تتعلق ببناء هذه الشخصية الرئيسية، يا ترى هل هي حقا تحمل مواصفات البطل الدرامي بلا منافس أم أنها شخصية مبالغ فيها، والدليل تعرضه للخداع وظنه انه كان يعمل مع جهة حكومية ليتضح انه يعمل لصالح عصابة ثم انه لا يعلم أن عنده ابنة بمثل تلك السن وهو ما سوف ينقلنا بعد ذلك إلى المواجهات الخطيرة مع عصابة تقتفي اثره في نوع عجيب من القدرة على عدم الإصابة بالرصاص الذي كان يتهاطل كالمطر عليه وعلى ابنته.
وفي هذا الصدد يقول الناقد ديفيد فوريجسون في موقع ريد كاربت كراش
" لقد شاهدنا العديد من مشاهد إطلاق النار ربما بما لا يمكن إحصاؤه، كل واحد منها أصعب من الآخر - وهذا يدل على أن إيفان هو بطل خارق ولا يصاب بطلقة لكن ذلك لم يتحقق فعليا إذ يظهر لاحقا انه إنسان عادي من لحم ودم، مما يدحض نظرية البطل الخارق.
انه فيلم تجسسي مع الكثير من إطلاق النار يستجيب لأولئك الذين يبحثون عن المزيد من الانفجارات والضجيج. أما بالنسبة لأولئك الذين يبحثون عن حبكة تجسس متعددة الأوجه منسوجة بذكاء، فمن الأفضل على الأرجح أن يستمروا في البحث عن فيلم آخر".
هذا التعليق الطريف يقودنا إلى التساؤل حول جدوى الإغراق بمشاهد المواجهات والرصاص الذي لا يقتل سوى الخصم، وعلما أن شو لم يظهر في مظهر ذلك المقاتل الشرس سريع الحركة والمتميز في القتال الفردي الذي يخطف البصر.
من جهة أخرى وفيما يتعلق بشخصية البطل الذي يواجه بشراسة مجموعات مسلحة هنالك الكثير من مشاهد المطاردات في شوارع وأزقة ضيقة وعلى الرغم من شراسة المواجهات وكون الضابط شو المتجهم الوجه لا يظهر عاطفته أو أفكاره إلا انه لا ينقطع عن استذكار صورة زوجته وحبيبته المتوفاة التي تتجلى أمامه في كثير من الأماكن التي يجلس فيها وهو اختلاف آخر في مسار الشخصية في كونها ذات وجهين مختلفين إلا أن ما يقويها هو ظهور الابنة بشكل مباغت مما احدث تحولا دراميا ملفتا في مسار الشخصية.
تقول الناقدة ماري كاسيل من موقع سكرين رانت " في نظري أن الممثلين بريزلن وإيكهارت لم يكونا في أحسن أدوارهما، في بعض المشاهد يبدوان وكأنهما قرآ السيناريو للتو. يقدمان حوارهما كما لو كانا قد اطلعا على السيناريو قبل لحظات فقط رغم انهما سبق وعملا معًا منذ سنوات عديدة في الفيلم الكوميدي الرومانسي لا حجوزات الذي يعود إلى عام 2007، إلا أن هذا الانسجام لم يستمر".
بالطبع كان الأمر قد تطور بينهما إلى درجة تقديم الممثلة ابيجال شكوى ضد ايكهارت بأنه متسلط وعدواني وما إلى ذلك، ويبد أن هنالك ثغرة ما في هذا المجال إذ إن السؤال هو، هل كان اختيار ابيجال لذلك الدور موفقا وناجحا بما فيه الكفاية؟
في الواقع أن التكامل بين الشخصيتين الدراميتين الرئيسيتين ضروري للغاية في مثل هذا النوع من الأفلام لكننا وجدنا أن كثرة مشاهد الحركة والمطاردات كانت تستوجب في المقابل أداء تمثيليا موازيا على درجة من التمكن في ردود الأفعال والمواجهة إلا أن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة إلى كيسي في بطء ردود أفعالها وِعدم قدرتها على استخدام السلاح لمؤازرة والدها في مواجهاته التي لا تكاد تنتهي.
على أن المشاهد الأخيرة التي تلفت النظر هي مشاهد اللقاء الحتمي بين شو وبين مديره وصاحبه كيفن، والذي هو أيضا سوف يعجز عن مواجهة المسلحين على الطرف الآخر فيتساقط حراسه تباعا وتنتهي حياته هو الآخر دون تبرير للخديعة التي مررها على صديقه شو مع أن تلك المواجهة الأخيرة وقعت في سياق من الحركة والتشويق.
..
إخراج/ رويل ريني
سيناريو/ بوب دي روسا
مدير التصوير/ رويل ريني
تمثيل/ ارون ايكهارت - ايفان شو، تم روث- كيفن، ابيجال بريسلن - كيسي
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الكاتب محمد الشحري: السّرد أبلغ من الفنّ في استنطاق الشّخوص والأمكنة والانتقال بين الأزمنة
"العُمانية": (إن الكاتب لا يمكنه الهروب من طفولته ومراحل حياته الأولى، مهما حاول التنكر لماضيه أو الابتعاد عن محيط الذات)، بهذه العبارة يتحدث الكاتب والروائي محمد الشحري عن تداول أفكار الكتابة وعلاقته بالبدايات معها، وتأثير التنشئة في كتاباته الإبداعية.
في هذا السياق يشير الشحري الذي بدأ مشواره مع الكتابة إلى فترة تمتد إلى 30 سنة وصدرت له أعمال أدبية متعددة من بينها الأحقافي الأخير 2020، وموشكا 2015، والطرف المرتحل 2013، وبذور البوار 2010، إلى أن الإنسان إذا توغل في العمر تسِمُه التجارب بوسوم الحلاوة والمرارة، وتترك آثارها اللامرئية في ذاتية الإنسان. وبعد رحلة شاقة في دروب الفشل المتلاحقة، يصل الكاتب إلى قاعدة مفادها بأن كسب ثقة الذات تعني خسارة الآخرين ولا بأس في ذلك إن كان المقابل إنجازًا ثقافيًّا، كما يكمن جوهر كسب الذات في استقلال الفرد عن سطوة المؤسسة الجمعية التي تهيمن وتصادر حقهم في التعبير والتساؤل والتفكير.
ويؤكد على أن هذه الحقيقة لا يمكن نيلها بسهولة بل تتطلب التضحية وتقديم قربان في سبيل الحصول على ناموس الكتابة الذي يوجِد الوعي قبل الكتابة وقبل نضوج النصوص، ويعني ذلك محاولة إنقاذ الكتابة من الخواء والتكرار والدوران في حلقة مفرغة، وأن الكاتب لا يمكنه الهروب من طفولته ومراحل حياته الأولى مهما حاول التنكر لماضيه أو الابتعاد عن محيط الذات، هذا الأمر سحبه على ذاته إذ لا ينكر أن ثقافة معاطن الإبل تهيمن على طبع الانتقال والحنين والتخلي عن كل ما يعيق الترحال، لأن عكس ذلك يعني التبلد والاستقرار وكلها حالات تبعث السأم في النفس، وأثناء حياة الترحال والتنقل بين بيئات ظفار المختلفة، يلوذ بمعاطن أو مبارك الإبل يصلحها وينظفها من الأحجار والحشائش، وحين يصبح المعطن جاهزا للإقامة يهجره إلى معطن آخر وهكذا دواليك، فكسب من ذلك التخلي عن التعلق بالأمكنة فلا امتلك الأشياء ولا تملكها، فكل شيء يتخلى عنه وهو بدوره يتخلى عنه.
ويوضح الشحري أن الكتابة منحته مهمة القول ومهنة التعبير عن ثقافة مهددة بالانقراض ويقول: رغم الصعوبات والعراقيل التي وقفت في الطريق كان أولها عامل اللغة وثانيها مهمة الاكتشاف والكتابة في حقل أدبي غير مطروق في ظفار وأقصد "الفن الروائي"، فكانت عبارة المهاتما غاندي ملهمتي في بداية المشوار حيث يقول " في البدء يتجاهلونك، ثم يسخرون منك، ثم يحاربونك، وفي الأخير تنتصر"، وأنا أشعر بالانتصار لأني كتبت ما أودّ كتابته وما زلت أكتب، لأن الكتابة عشق لا يخذل صاحبه أبدا.
وفي شأن علاقته بالتصوير الضوئي مرورا بالكتابة الأدبية، ومدى إسهامه في حياته الخاصة يقول: بدأت مصوّرًا فوتوغرافيًّا أبحث عن أداة معبّرة عن شخصي، فالتصوير والكتابة والرسم كلها محاولات تعبيريّة لانتزاع مكان ومكانة في ساحات الإعلان عن الذات، ولكن حين تعجز الأداة عن حمل المشاعر واستنطاق مكامن البوح نبحث عن وسيلة أخرى. التصوير الفوتوغرافي فن مرئي جميل، لكنه صامت يحبس اللحظات، بينما الكتابة حية تمارس الكلمات فيها سلطة الحركة وتحمل دفقة الأحاسيس، لهذا فإني وجدت الصورة عاجزة عن إعادة الحياة للخيال، أما الكلمة فلديها قدرة الإيجاد والتكوين والانتقال بسهولة بين الأزمنة، الماضي والحاضر والمستقبل، وإعادة توليفة الزمن كلما وجدت الأحداث حاجتها إلى ذلك سبيلا، أي أن السرد أبلغ من الفن في استنطاق الشخوص والأمكنة والانتقال بيُسر بين الأزمنة وتوليف الممكن وغير الممكن. وأجمل ما في السرد الرواية التي تستوعب كل ما يفعله الإنسان ويتخيّله، بالإضافة إلى مساحة البوح الشاسعة التي تتيح اختلاق الأحداث وتطويرها، فالرواية مثلا تحاول الكشف عن الجزء المجهول من الوجود، مثلما يقول الروائي التشيكي ميلان كونديرا، بينما القصة اقتناص لحظة وتكثيفها، والمقال تعبير آني وعابر في الوقت ذاته.
ولأن الشحري مسكون بمفردات البيئة ومفاهيمها يشير إلى مشكلة بيئته والميثولوجيا لتصبح هاجسًا شخصيًّا للكتابة في مشاربه الأدبية فيقول: أي إنسان شاركنا اللحظات الأولى في التنشئة سيعبّر عن تلك الحياة الأولى بطريقته الخاصة، وستسكنه مفردات البيئة المغموسة بثقافة الميثولوجيا التي تهيمن عليّ في اللاوعي، فأنا أشعر بأنني منقاد للميثولوجيا وواقع تحت سحر المعتقدات النبيلة، وتمنح كل شيء قدره من التبجيل والإجلال إلى التحقير والإذلال للمكونات الضنينة بالمعاني التي تحفز النفس على الارتقاء بعظمة الروح الإنسانية القادرة على إشاعة الصلاح والحدّ من الأذى، فأنا نشأت تحت وقع ثقافة شفهية تعتمد على القصص والحكايات والأساطير والمعتقدات في نقل المعارف وصقل السلوك الإنساني، وتحقيق توازنات بين الروح والجسد، ولذلك وجدت في البيئة ساحتي الغَنَاء والاكتفاء بما أعرفه عن معارف أخرى مكتسبة أو دخيلة على ثقافتي.
ويضيف: كتبتُ الرواية الميثولوجية بالاتكاء على الأساطير القديمة، فظهرت "موشكا" وكانت بذلك أول رواية من ظفار تركز على عمليات إنتاج اللُّبان وأسطورة الشجرة التي رُويت حكايتها بمخيال محب، وتحولت الرواية إلى مسرحية نالت استحسان الجمهور وثقة لجان التحكيم، وتضوعت أسطورة اللبان على المسرح. صحيح أن الميثولوجيا عالم واسع تشكل من خوف الإنسان من الطبيعة، وكتابة الميثولوجيا أمر صعب في عالم تجرّأ على التطاول على الطبيعة، فانقلبت عليه وعاقبته بآثارها لكن قليلًا من الكُتّاب من يستشعر ذلك، لأنهم يكتبون بلا فكر ولا جرأة، والكتابة بدون هذين العنصرين عبارة عن هذر لا طائل منه، الكتابة العميقة تنبع من أعماق الفكر أيًّا كانت اتجاهاته، وتحلّق بأجنة الجرأة، وعدم الإذعان للسائد.
وفيما يتعلق بعلاقات الصداقة الأدبية المغايرة التي يمتلكها الشحري مع أهم الكُتّاب العرب في الوطن العربي وفي المهجر، يشير إلى حدود التأثير والتأثر فيقول: منحني القدر فرصة التنقل والترحال والتعرف على ثقافات أخرى عبر الكتابة، وقادني الشغف إلى التعرف على حُداة الفكر وصايغي الكلمات وصُنّاع المعاني. فتعرفت على بعض الكُتّاب العرب الذين تأثرت بكتاباتهم، أو ممن عاشوا ظروفا شبيهة بالظروف التي مرت بي، أو الذين عجزت لغاتهم الأمّ الشفهية عن البوح بمكنوناتهم فلجأوا إلى اللغات المدوّنة للتعبير عن أفكارهم ورؤاهم. كنتُ إذا أقمتُ بأي مدينة أحاول التعرف على كُتّابها فهم من يمتلكون مفاتيح المدينة ومفاتنها، والافتتان أحيانا قد يقتصر على مقهى عتيق أو زاوية بيع كتب مستعملة هجرها مُلاّكها، أو رصيف لا تزعجه أقدام المارة ولا الذكريات المتلاشية في عباءة الفصول المتلاحقة. ففي ألمانيا مثلا حين كنت أدرس في جامعة هايدلبيرغ تعرفت فيها على أشهر كُتّابها وهما الكاتب والروائي الألماني من أصل سوري رفيق شامي صاحب روايتي "حكواتي الليل" و"صوفيا" اللتين تحكيان معاناة الإنسان المهاجر أثناء العودة إلى بلده، وصراع الحب والايديولوجيا، كما تعرفت على الكاتب الألماني من أصل فلسطيني سليم الأفنيش، راعي الإبل في صحراء النقب الذي تخلى عن دراسة المحاماة لأجل الكتابة والأدب. وفي تونس مثلا تعرفت على الروائي التونسي كمال الرياحي، والكاتب العراقي الراحل عبد الرحمن مجيد الربيعي، كما قابلت هناك الكاتب والروائي الجزائري واسيني الأعرج، والروائي الليبي إبراهيم الكوني، وكنتُ قبل ذلك قد قرأت " شرفات بحر الشمال " لواسيني الأعرج وأعجبتُ بها أيما إعجاب، أما الكوني الذي يتقاطع معي في عدة مشتركات منها أنه يكتب بلغة غير لغته الأم، مثلما أكتبُ بلغة غير لغتي الشحرية الشفهية الأم، فقرأت روايته "التبر"، عثرت فيها على كاتب مسكون بالميثولوجيا إحدى الوصايا التي يحملها الإنسان المرتحل على ظهره كالوشم. ومع كل ذلك لا بد من الاحتفاظ بمسافة بين كاتب وكاتب حتى لا يقع تحت تأثير التقليد، فالاقتراب من الكاتب هو اغتراب عن الذات بشكل أو بآخر.
وفي سياق التطور التكنولوجي، والخشية من تأثير الذكاء الاصطناعي على الكتابة الروائية يقول الشحري أيضا: الذكاء الاصطناعي أحد مخترعات الإنسان الحديث، الذي يصارع التكنولوجيا ويطوّعها لصالحه. فكل اختراع واكتشاف يسهم في رفاهية الإنسان ويساعده على تسارع الإنتاج الثقافي والإبداع، اختراع مرحّب به بلا شك. أما بالنسبة للذكاء الاصطناعي فمهما بلغت قدرته وتفوقه لا يمكنه ترجمة المشاعر، أو "الحياة السرية للمشاعر"، كما يقول الروائي التشيكي ميلان كونديرا، نعم يستطيع برنامج الذكاء محاكاة السرد لكن لن يصل إلى كشف الأحاسيس أو يخترق جهاز الحواس أو يتفوق على المخيلة. لذا فإن أي آلة تنافس العقل البشري على الإبداع ماهي إلا جولة من جولات الصراع التقليدي بين المادة والروح، بين العقل والميكانيكا، إذن نحن في منازلة أخرى مع الآلة، ولذا علينا الانتصار للروح التي تعجز الآلة مهما كانت تقنيتها عن تمثّلها أو تمثيلها.
وعن كتابة الرسائل الأدبية وكونها الوحيدة التي تنشر رسالة كل سنة إلى روح الشاعر الراحل علي حاردان، يشير الشحري إلى الإصرار على كتابة رسائل لن تصل إلى صاحبها ويوضح أن كتابة الرسائل الأدبية في عُمان قليلة جدا، وأنا لما كتبتُ رسائل إلى الشاعر المرحوم علي حاردان، كُنتُ عازفًا منفردًا لأستوعب صدمة الرحيل. ففي لحظة الموت أنكرت أن الصديق الذي كنت بمعيته قبل أيام من رحيله قد غادر الحياة ولن يعود إليها مرة أخرى، فلجأت إلى الكلمات لعلها تنتشلني من هول الصدمة وتجاوزها، ثم اكتشفت قوة الرسائل وقدرتها على إعادة التوازن إلى الذات، خاصة وأن الكتابة إلى صديق راحل هي عملية لجوء إلى الحنين الذي لا يتوقف أبدا. والرسائل الأدبية تختلف عن الرسائل الشخصية المقتصرة على شخصين، لأنها رسائل بوح، نعرف أن الطرف الآخر لن يقرأها ولكن نتخيل أنها ستصل إليه. ففي الذكرى السنوية لرحيل الصديق علي حاردان أكتب له رسالة تختلف موضوعاتها حسب ظرفية اللحظة ومجريات الأحداث والمناسبات الطارئة، فمنذ 2008 وأنا أكتب رسائل لا تصل إلى وجهتها، ولكني واصلت الكتابة أينما كنت في الوطن أو في الغربة. وأتخيل أن الرسائل ستصل وأتخيل أيضا ردّة فعل الصديق الذي عرّفني على الكتابة الصحفية وكان مؤمنا بقلمي، وأسهم في نشر العديد من قصصي ومقالاتي في صحيفة عُمان.
وفيما يتعلق بالكتابة السردية الخاصة بالأدب العربي وتقاطعها مع الواقع المعاش يصفها الشحري قائلا: الكتابة السردية في الوطن العربي حسب رأيي لا تزال تراوح مكانها شكلا ومضمونا إلا في بعض الحالات النادرة، والسبب في ذلك يعود إلى أن الكتابة تراوح مكانها بسبب الرقابة وهي تمارس هيمنتها على الكاتب، فتزرع فيه الخوف وتفرض عليه أقصى درجات الرقابة الذاتية، قبل وصول النص إلى عتبة الرقيب بتوجهاته المختلفة، فماذا ننتظر من كتابة لا تُعبّر عن واقع مؤلم ولا تناقش أفكارًا ومعتقدات كبّلت الإنسان وأرهقته ماديًّا ومعنويًّا. لذا أقول إن الكتابة غير الجريئة ستلد كتابة مشوّهة لواقع يحتاج قبل كل شيء إلى الاعتراف بمرارته، ولا يمكن لأي أداة إظهاره إلا بالكتابة التي تزعج الرقيب الذي يخشى الرأي والتصريح به قولًا وتدوينًا. وجزء كبير مما تعانيه المجتمعات العربية هو الخشية من قول الحقيقة والنقد.
ويشير الشحري إلى الإمكانية التي توجدها الرواية في استشراف المستقبل وما تمرّ به الأمة من تطورات وتحولات متعددة، وقدرة الروائي على تقدم حلول للأحداث التي يمر بها أي مجتمع اليوم ويقول: الكتابة مثل التشخيص الموضعي الذي يظهر ويكشف مواطن العلل والمشكلة لكن التشخيص لا يقدم الترياق ولا العلاج. فالرواية المكتوبة بوعي تام تكشف الغطاء عن المسكوت عنه، والنفس الهائمة في المديح لا ترى العثرات في الطريق. وهنا أرى أن الرواية السياسية هي التي تتحمل مسؤولية إظهار مكامن الخلل الاجتماعي والثقافي، وكتابة هذا النوع من الروايات مهمة شاقة ومضنية لأنها تُعرّض كاتبها لوقع النقد والتشويه.
وعن الكيفية التي من الممكن أن تقوم الهُوية الثقافية أن تشكل نمطًا أدبيًّا مبتكرًا مع إعادة صياغة الهُويات الثقافية القديمة يقول الشحري: قبل الدخول إلى التفاصيل لا بد من القول إن الهُوية إلى الآن لا تزال لفظة مُلتبسة رغم الإفراط في تعريفها، وأقول ذلك لأن الهُوية لا تشير إلى الذات، وإنما إلى ضمير مفرد غائب (هو) أي أننا بمجرد الحديث عن الهُوية فإننا ننفي ذات المتكلم من السياق العام ونسعى إلى تعريف الآخر الغائب (هو) وإلباسه ثوب الأنا. فالأحرى بأن نعدل الهُوية إلى (الأناية) لأنها الأقرب إلى التعبير عن الذات والاعتزاز بها، إذن هذا الموضوع متشعّب والإحاطة به يُصعب المهمة. وفي كل الأحوال فإن الهوية الثقافية تظهر ملامحها في الإنتاج الثقافي وخاصة في الكتابة السردية لأنها تمنح الذات الكاتبة التعبير بشكل أوضح عن تمثّلات الهُوية الثقافية التي تظهر التنوع والغنى في الهُوية الوطنية الجامعة، فالتنوع ثراء وإسهام مهمّ في الثقافة الوطنية، لأن الهُويات الثقافية الوطنية مهما أُشيع حولها لا يمكنها أن تكون بديلًا عن روح الأمة وهُويتها الجامعة، خاصة وأن التاريخ يقدم لنا الأدلة بأن الهُوية الثقافية انسجمت مع هُويات أخرى مجاورة ولم تصطدم معها.