كيفية إنقاذ السودان من الحرب القبلية الشاملة
تاريخ النشر: 27th, October 2024 GMT
ليس هناك أدنى شك في أن ما يجري الآن في السودان يمثل آخر تمظهرات المشروع الحضاري في تعقيد المشاكل التاريخية للبلاد. مسارات الحرب لا تنفصل كما حركة التاريخ. فكل حدث يدفع نحو آخر. لا يمكن تجاوز النظر للانتهاكات التي يدفع المواطنون غالب ثمنها الآن هنا وهناك دون بحث الفاعل الأساسي الذي يحرك الأحداث بعد قيام ثورة ديسمبر المجيدة.
تحديداً، وبكل الوضوح، عزمت الحركة الإسلامية ممثلة في المؤتمر الوطني، وبعض أجنحتها على عرقلة مراحل الثورة بكل المكر والخداع، وتوظيف التناقضات البينية وسط القوى السياسية من جهة، وبقية مكونات الحراك السياسي والعسكري في البلاد.
وسط هذه السيولة الأمنية، والعسكرية، والانهيار التام للخدمات الإنسانية، وغياب الحقائق المجردة حول يوميات الحرب، أصبحنا ننظر لكل حدث بقليل من المعلومات عنه. فالطرفان يحاولان بقدر الإمكان اختطاف الرأي العام من خلال كوادرهم النشطة. ولما كان إعلامنا الحر المستقل قد فشل في تبني منابر محايدة لنشر حقيقة الأحداث اليومية فإن الروايات المدنية تظل الوسيلة الوحيدة لمعرفة ما يجري على الأرض. ولكن هذه الروايات نفسها تحتاج إلى التحقق حتى لا نقع في مصيدة تزييف الحقائق لصالح أيٍ من الطرفين.
الانتهاكات التي طلت تطال المدنيين بسبب القصف الجوي المكثف المنسوب للجيش، وكذلك الانتهاكات المنسوبة للدعم السريع، مدانة بأغلظ العبارات لدى كل ضمير الإنساني. ولا يستطيع أحد أن يزايد، أو يبتز دعاة لا للحرب على الانحياز لهذا الطرف، أو ذاك. فمنذ اليوم الأول للحرب أصدرت أحزابنا المركزية جميعها بيانات تندد بالحرب برغم علو صوت البلابسة وسط الميديا الحديثة. وبخلاف الأحزاب نشطت كل منظمات المجتمع المدني بخلفياتها كافة في إدانة استمرارية الحرب بوصف أنها أكثر من عبثية، وتقود البلاد إلى حافة الاقتتال القبلي. ذلك انطلاقاً من تأثير المكونات الحاملة للسلاح في الحرب، وقدرة أي مكون على نصرة ذاته بالقبيلة، أو الجهة الجغرافية. وهذا التوجه الإجرامي يتصاعد بين كل تحول وآخر في مسار الحرب. فجميع المشاركين في الاقتتال حريصون على تجييش أرضياتهم الاجتماعية أو الجغرافية، أو الأيديولوجية. على أن خلف هذه المكونات تضطلع جماعات من المؤتمر الوطني متباينة في مواقفها بصب الزيت في النار في كل منعطف عبر نشاط محموم في منصات إعلامية.
ليس هناك ما يمكن قوله في ظل هذا التسارع في إشراك القبائل في صراع الأزمة الوطنية سوى القول إنها طبيعة الحرب الأهلية، والتي أوقدت نيرانها قيادات المؤتمر الوطني في صراعها مع الدعم السريع. ولم تنفع بطبيعة الحال تلك التحذيرات من المكون المركزي السياسية، وعوضاً كان تجريم الناشطين السياسيين القوميين هو من ضمن الخطة الأساسية التي اعتمد عليها المؤتمر الوطني لجني انتصارين: تحييد هذه المكونات بخلط فكرة الحرب الأهلية بالكرامة الإنسانية، وإفشال الحراك القومي الجمعي المنادي بإيقاف الحرب لاستئناف مسار ثورة ديسمبر. وهناك أهداف أخرى فرعية لهذه الخطة الكيزانية تمثلت في ابتزاز المدنيين والعسكريين، وحملهم على الاستجابة لخطة المؤتمر الوطني التي تغذيها الغرف الإعلامية في كل ثانية، واستعادة الروح للخطاب الإسلاموي، وتمهيد المجال لكوادر الحركة الإسلامية للتحرك بحرية وسط مؤيدي الحرب، وتحويل الصراع السوداني من سياسي إلى مناطقي، وهذا ما يرفع عن كاهل الإسلاميين عبء الرفض العام لوجودهم في المشهد السياسي.
إن هذا التصعيد الجديد في الحرب، وموضعتها ضمن الخلفية الجغرافية المغموسة بالعصبية القبلية، يمثل البداية للفوضى الشاملة التي لن تستثني إقليماً دون آخر. وعوداً إلى بدء ما قلناه بأن الأحداث الاجتماعية تمثل سلسلة مترابطة من بدئها حتى منتهاها، فإن من المؤكد أن الأيام المقبلة ستفرز الكثير من مستجدات الحرب التي قد تشل حركة العقلاء من السودانيين تماماً، وبالتالي نكون تحت رحمة مكيدة المغذين للحرب بشكل مستتر، وظاهر.
لا أدري إلى أي مدى بقيت هناك مساحة وسط المتحاربين للتعقل لتجنيب البلاد من التفتت التام عبر الحرب الاهلية الشاملة، ولا ندري إلى أي مدى تستطيع القوى السياسية والمجتمعية المركزية أن يكون لها فائض قيمة وسط هذا التحشيد القبلي للطرفين، وكذلك لا ندري بشأن توفر إمكانية للمجتمع الدولي حتى يحول مسار الحرب إلى نهاية لكي لا يوثر على الأمن الإقليمي، والدولي. ولكن عموماً ندري أن بلادنا للأسف تتجه بسرعة إلى الهاوية السحيقة إذا لم تنبجس المفاجأة السياسية من رحم الغيب لتفرض إنقاذاً للبلاد، ومواطنيها من مستقبل مخيف.
suanajok@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: المؤتمر الوطنی
إقرأ أيضاً:
عادل الباز يكتب: الخطة (ط): التطويق (1)
1 واهمٌ من يظن أن الحرب ستنتهي بتحرير الخرطوم أو دارفور. هذه الحرب قرر الذين أشعلوها ألَّا تنتهي أبدًا إلا بتحقيق أهدافهم، وهيهات. وبسبب هذه “الهيهات”، يسعون إلى استدامة الحرب، لأنهم يعلمون أن هزيمة الشعب السوداني مستحيلة، كما أنهم لن يستسلموا ، فغايتهم ليست تقسيم السودان، بل الاستيلاء عليه بالكامل، ليصبح نهبًا لأطماع الإمبراطورية الإماراتية.
2
الحرب الجارية الآن ليست حرب الجنجويد، فقد انتهت قوتهم وتبددت، لكن الذين استخدموهم لا يزالون في الميدان، يغيرون خططهم وتكتيكاتهم باستمرار، متنقلين من خطة فاشلة إلى اخرى افشلمنها ، حتى انتهوا الان إلى خطة “التطويق الشامل” طويلة الأمد وستشفل باذن الله..
3
ما هي خطة التطويق الشاملة ؟ وكيف جاءت؟
تقضي الخطة بتطويق السودان ووضعه داخل دائرة عداء مع كل دول الجوار والدول القريبة منها، واستخدام تلك الدول وحدودها ومطاراتها وقواعدها لدعم حرب الإمارات. بدأت الإمارات تنفيذ خطة التطويق عبر الإغراء، والشراء، والاستثمار. وبما أن الرشاوى لا تظهر إلى العلن، ظهر الاستثمار، وهو في جوهره استثمار في تجنيد دول الطوق (تشاد، جمهورية إفريقيا الوسطى، جنوب السودان، إثيوبيا، ، ليبيا “حفتر”، أوغندا، كينيا) لصالح أجندة المشروع الإماراتي في السودان، الهادف إلى ابتلاع موارده بالكامل.
4
متى بدأ التحول إلى خطة التطويق؟
عندما فشلت خطة الانقلاب في 15 أبريل 2023، تحوَّلوا إلى الحرب. وعندما فشلت الحرب في تحقيق أهدافهم، لجأوا إلى نشر الفوضى، ولم يتركوا مرتزقًا إلا استعانوا به، من كولومبيا إلى تشاد! ثم، بعد أن تكسرت قواتهم وتبعثرت، انتقلوا إلى حرب الطائرات المسيّرة التي تُدار من داخل السودان وخارجه. لكن هذا النمط من الحرب لم يحقق أهدافهم، بينما تمكنت الحكومة من إحراز تقدم ملحوظ في التصدي له، عبر تطوير أساليب مكافحته، وإسقاط الطائرات، وتأمين الأهداف الحيوية. ولا تزال الجهود مستمرة للحصول على أنظمة وقاية تحمي جميع المناطق الاستراتيجية في البلاد.
5
الفخاخ الإنسانية والسياسة كأداة مساندة
عندما فشلت خطط الانقلاب ثم الحرب، لجأوا إلى نصب الفخاخ عبر القضايا الإنسانية كمدخل لوقف الحرب والدخول في متاهات تقاسم السلطة، كما جرى في جنيف. وتزامن ذلك مع تحركات دبلوماسية مكثفة للإمارات في دول الطوق، ثم الاستدارة نحو السياسة عبر مؤتمر “تأسيس” في نيروبي، في محاولة لإسناد المجهود العسكري للمليشيا وإنقاذ وضعها المتدهور، بعدما فقدت أغلب الأراضي التي كانت تسيطر عليها في وسط السودان، ولم يتبقَّ لها سوى جيوب محدودة، وهي في طريقها للخروج التام من العاصمة.
ظن كفيل المليشيا أن التحول إلى السياسة، إلى جانب دعمه للميدان العسكري، سيسهم في إبعاد الأنظار عن الإمدادات المستمرة للمليشيا التي لا تزال ترتكب جرائمها. لذلك، تم حشد مجموعة من الفصائل تحت ما عُرف بـ”تحالف تأسيس” في كينيا، حيث صيغ البيان الأساسي، ثم جرى التوقيع على دستور علماني على هوى “الحلو”. وتبقى الخطوة الأخيرة، وهي إعلان حكومة الجنجويد وحليفهم الحلو.
لكن، قبل اتخاذ هذه الخطوة، فوجئوا برفض إقليمي ودولي قاطع لأي حكومة موازية في السودان، بدءا من الاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي ودول الخليج، مرورًا بالعالم العربي، وصولًا إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة والولايات المتحدة. وهكذا، تعطلت خطة الحكومة الموازية، وأصبح إعلانها يُؤجَّل يومًا بعد يوم إلى أجل غير مسمى.
6
ما هي خطة التطويق؟ وماذا فعلت الإمارات مع دول الطوق؟كيف جرى استقطاب دول الطوق الإفريقية؟
تُظهر الاستثمارات الإماراتية في إفريقيا نموًا ملحوظًا، حيث أصبحت الإمارات أكبر مستثمر في القارة بين عامي 2019 و2023، بإجمالي استثمارات بلغ 110 مليارات دولار، بحسب صحيفة “الغارديان”. غير أن هذه الاستثمارات، التي تهدف إلى بناء إمبراطورية إماراتية في إفريقيا، أُعيد توجيهها لخدمة أهداف الحرب في السودان.
7
بدأت الإمارات ببناء “طوق” في دول جوار السودان، عبر الاستثمار والشراء المباشر للمتنفذين عبر الرشاوى ، مستغلة ضعف هذه الدول وحاجتها إلى الدعم المالي، فماذا فعلت لبناء ذلك الطوق؟.نواصل
عادل الباز
إنضم لقناة النيلين على واتساب