حنتوب ما اجمل واحلي ذكراك وناقوسك يدق في عالم نسايننا … لن ننسي أياما مضت لن ننسي ذكراها … لن ننسي أياما مضت مرحا قضيناها
تاريخ النشر: 27th, October 2024 GMT
عندما يأت ذكر حنتوب يستيقظ الهدهد من سباته الذي طال ويبدأ في بعثرة الأسئلة يميناً وشمال من غير كلل أو ملل ولسان حاله يقول :
( يا هؤلاء الذين الذين طعنتم رئة البلاد واوقفتم الأوكسجين بل منعتم تدفق الدم في الأوردة والشرايين ظنا منكم أن حنتوب ستفارق الحياة ولكن هيهات فإن هذا الصرح التعليمي منقوش في قلوب الملايين يطوفون به أرجاء العالم الفسيح هذه الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس وقد تخرج فيها الافذاذ علي يد علماء كانوا يواصلون الليل بالنهار لتصل الرسالة الي العناوين العطشي الي حب الوطن والسهر علي خدمته في كافة الظروف والاحوال وتقلد المسؤولية برباطة جأش واقدام لا يقبل الانهزام ولا التقهقر وفي ميادين التنافس الشريف رفعت شامة النيل والهدهد جالس علي هامتها كاسات التفوق في منصات بريطانيا وامريكا وكل العواصم التي تفسح الفرص وتوفر الكراسي لاهل البحث والاستزادة من المعارف والقيم والنبالة من أجل إسعاد البشرية كلها دون تردد أو شعور بالرهق أو الضجر فالقضية معها كل شيء يهون ولابد من صنعاء ولو طال السفر .
سعدت برسالتك أخانا محمد المحسي ابن الأستاذ عبد الحليم صالح اسماعيل الذي دخل التاريخ من أوسع أبوابه كونه نال الشرف ودخل موسوعة الأساتذة بمدرستنا الأم الرؤوم وتنورت به شعبتي الرياضيات واللغة الانجليزية ...
وبهذه المناسبة الغالية ونحن في معرض الرجوع للجذور والماضي التليد وذكري ناقوس عمنا مصطفى ( جرس ) الذي كان لايحتاج الي ساعة ( رولكس أو جوفيال ) ليضبط سير الحصص والدخول والخروج و ( فسحة الافطار وفسحة الساعة ١٢ لشرب الماء واخذ قسط من الراحة ) ومن ثمن معاودة الانكباب علي الكتب والإصغاء لما تجود به قريحة أهل العلم وهم ينفحون الطلاب بعصارة جهدهم وغاية رغبتهم في أن تكون لنا أجيال نفخر بها علي مدي الشهور والدهور والايام والسنين ... عمنا مصطفى ( جرس ) كان أحد عجائب حنتوب يقرع الجرس في مواعيده المحددة بإشارة هاتفية تأتيه هكذا عفو الخاطر من اعماق نفسه الشفافة وكما قلنا فهو لا ينظر إلي ساعة حائطية أو ساعة ( جيب ) أو ساعة ( معصم ) ...
نحن معشر طلاب دفعة ١٩٦٤ وصلنا الداخليات عصر الجمعة ١٩٦٤/٦/٣٠ وفي المساء اخطرنا العم مصطفي عن طريق ناقوسه الشهير أن نتجه الي الفصول لنستلم الادوات المدرسية من كتب وكراسات وخلافه والشيء المذهل أنه في اليوم التالي يوم السبت الموافق الاول من يوليو ١٩٦٤ توجه المعلمون كل الي فصله وبدأوا عملية التدريس وكان المدرسة قد فتحت أبوابها قبل شهر وشهرين ( اين نحن الآن من تعطيل في فتح المدارس وتراكم الدفعات التي تنتظر امتحانات الشهادة السودانية ) ...
في الصف الأول ( نيوتن ) من وزع لنا الادوات المدرسية وعرفنا بنفسه أنه الأستاذ محمد عثمان محمد الامين وكان يرتدي شورت طويل وقميص وله لحية كثيفة ومن البداية لمسنا فيه الزهد والصلاح وجاءنا صبيحة السبت موعد ضربة البداية للعام الجديد معلما للرياضيات والعلوم وكان يتميز بخط غاية في الدقة والجمال ...
شعبة الرياضيات كان يترأسها مستر ( ماكنزي ) وهو من اب هندي وام إنجليزية وكان معه بالشعبة الأستاذ لبيب المصري وسمعنا أنه أضاف نظرية جديدة في الهندسة وكان هنالك أيضا نابغة الرياضيات ابن المسلمية الأستاذ بخيت عثمان وكان الأستاذ بخيت في فترة من الفترات قد ابتعث الي امريكا وبما أنه سوداني قح مابرضي الحقارة لم تعجبه عنصرية اليانكي فزهد في بعثتهم وقفل راجعا الي أرض أجداده أرض النيلين معززا مكرما ...
اذكر من منسوبي شعبة الرياضيات الأستاذ عبد العزيز محي الدين الذي صار فيما بعد مديرا لشعبة امتحانات السودان وقد تميز بالحزم والعمل الجاد ...
وفي شعبة الرياضيات وغيرها وفد لحنتوب طلاب من الفرقة الثالثة بمعهد المعلمين العالي للتدريب وبعد التخرج جاء عدد منهم لحنتوب للعمل فيها وكان منهم علامة اللغة الإنجليزية الأستاذ السر محجوب الذي اختاره الصادق المهدي ليكون علي رأس الخطوط الجوية السودانية وكان قد نال دكتوراه في القوي العاملة من النرويج وعمل أيضا مترجما وسكرتيرا خاصا للكابتن احمد مطر مدير عام الخطوط الجوية السعودية ... وعمل مسؤولا عن صندوق دعم الولايات ثم وزيرا للعمل وختم حياته سفيرا في نيجيريا حيث وافته المنية هنالك ( نسأل الله سبحانه وتعالى له الرحمة والمغفرة والرضوان واعالي الجنان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ) ...
الأستاذ السر محجوب وهو من أبناء الجموعية بالرهد كان الأستاذ المقيم بداخليتنا ( أبو عنجة ) هذه الداخلية التي سمعنا بأن ثلاثة من أخطر العناصر السودانية أقاموا فيها وهم حسن الترابي ومحمد ابراهيم نقد وجعفر نميري كما أقام فيها الدكتور النابه اخصائي زراعة الكلي كمال ابوسن الذي كان يجري عمليات نقل الكلي لأهله بالسودان مجانا معترفا بفضلهم في أنهم ساهموا في تعليمه في كافة المراحل والإقامة بالداخليات حتي الحصول علي الدكتوراه من بريطانيا .
في شعبة اللغة الانجليزية كان الأستاذ القامة الشامخ الضليع حمدالنيل الفاضل وقد تشرفنا به معلما لنا ونحن في الصف الأول ( نيوتن ) وفي الصف الرابع ( فارادي ) في العام ١٩٦٨ حظينا به مرة أخري أستاذا لمادة الأدب الإنجليزي وكم صال بنا وجال مع كتاب ( The Gun ) وحقيقة هذا ليس بكتاب بل ( Volume ) وحفظنا كثيرا من مقاطعه مثل ( The gun went on fighting against the French ) وتمتعنا بكتاب ( The Importance of being Earnest ) مع هذا الكاتب المجنون ( اوسكار وايلد ) وجنونه يتمثل في هذا التعبير كمثال علي استهتاره وخروجه عن المألوف ( Families are a tedious pack of people who haven't got the remotest Idea of how to live and when to die ) . ( منتهي الهلوسة ) .
أما هذا النرويجي (ابسن) فقد تفوق علي الإنجليز في لغتهم ومسرحهم وكانت له عدة قصص بين دفتي كتاب واحد اختاروا لنا منها قصة ( The Pillars of the community ) . ونلتقط لكم منها تعبير يقرأ ( Old Friendship Doesn't Rust ) .
للاسف حصة الادب الإنجليزي اليوم تحولت إلي لغة عربية والترجمة علي الشريط والطالب يريد ذلك لأنه لايريد أن يتعب أو أن يفهم بل يريد النجاح بالمذكرات والدروس الخصوصية والمعسكرات وأستاذ فلان ملك الكيمياء وأستاذ علان الذي تضعه الاعلانات في مرتبة اعلي من شكسبير ... مع أن الكتب المقررة مبسطة غاية التبسيط لا تستعصي علي تلميذ الصف الأول الابتدائي .
عندما وصلنا حنتوب في العام ١٩٦٤ كان يدير المدرسة الأستاذ ونجت برسوم لأن الناظر لم يصل بعد وبعده أدار المدرسة الأستاذ أحمد حسن فضل السيد الي أن وصل المدير العملاق عبد الباقي محمد عبد الباقي ونحن في السنة الثانية وقد اضربت المدرسة في عهده مرتين الأولي بسبب طالب ادعي أن أحد الأساتذة دفع بوالده جانبا وهو بهم بدخول ( الرفاص ) حتي تستطيع زوجته الصعود الي الرفاص اولا مما أوقع الاب في الماء ونتيجة لهذا الحدث توقفنا عن الدراسة لأكثر من شهرين ويوم رجعنا وجدنا جدول الامتحان مسلط علي رقابنا كالصارم الهندي ومن يرسب فما عليه إلا أن يحزم امتعته وييمم شطر أهله ( مفصول ) غير مأسوف عليه وعلي شبابه الغض ) وفيما بعد اتضح أن قصة الطالب كانت ملفقة وان الأستاذ حاول أن يساعد الأب وربما تعثر الاب وحدث ما حدث ... المهم ضاعت منا ستون يوما ومثلها يوم اضربنا للمرة الثانية في رمضان عندما كانت السفرة خالية من التين والزبيب فاوسعنا الترابيز ضربا بالملاعق الغليظة الشبيهة بالكواريك حتي سمعت مدينة ودمدني هذه الثورة الملاعقية الضخمة والتي أعقبها تكسير لمحتويات السفرة ورمي الطعام أرضا في فوضي وجنون لا يليق بأهل العلم وايضا تم طردنا الي اهلنا وعدنا بعد شهرين لنجد جدول الامتحان ينظر إلينا في شماتة وخبث ومن رسب فله الويل والثبور وعظايم الأمور والفصل النهائي من المدرسة .
استطيع ان اقول ان السنة الثانية بالنسبة لدفعتنا مرت كما يمر النسيم ولم ندرس أي شيء ذي بال فقد كانت السنة اقصر من ضل الضحي بسبب الاضرابين الشهيرين في عهد العملاق عبدالباقي محمد عبدالباقي وقد عرفناه إداريا حاذقا قويا لايجامل في ما يختص بالقانون والأمن والنظام وعندما تم نقله من المدرسة دخل كل الفصول مودعا أبناءه الطلاب وقد أحسنوا وداعه بالتصفيق الحاد والاشادة بحزمه وأنه لا تأخذه لومة لائم في تطبيق اللوائح والنظم من أجل أن تسود المسؤولية ويختفي التسيب وتتواري الفوضي وكل ذلك من أجل المجتمع والوطن والإنسانية جمعاء .
توجد لنا بحنتوب ذكريات اثيرة الي النفس وفي هذا الصرح تعلمنا الديمقراطية التي يتمشدق بها البعض في هذا الزمن الذي أصبحت الحروب هي عملته المتداولة وتعلمنا الزمالة الحقة والوطنية واحترام الآخر والحفاظ علي البيئة والمساهمة في مشاريع الخير ولو بالنذر اليسير والمضي قدما في الاستزادة من العلم والتحصيل والبعد عن الغرور وحمل الوطن في حدقات العيون في كافة فجاج الأرض والاعتزاز به والافتخار والعودة من المهاجر بما يضيف للوطن الحبيب ويجعله منارة يري ضؤها الآخرون من بعيد ...
كنا نحتفظ بالصور والمذكرات لحنتوب الجميلة وللاسف وباندلاع الحرب اللعينة العبثية المنسية تركنا دورنا وأهلنا وصورنا وذكرياتنا وراءنا وقد رأينا ماذا فعل الجنجويد بالاوراق والشهادات والأمتعة وقد مزقوا كل شيء ودمروا كل شيء تشفيا وانتقاما ... وكل مانرجوه الآن إن شاء الله سبحانه وتعالى العودة الي بلدنا الحبيب سالمين غانمين سعيدين فرحين مسرورين مستبشرين وصلي الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين .
ودمتم في رعاية الله وحفظه .
اخوكم حمدالنيل فضل المولي عبد الرحمن قرشي
معلم مخضرم . خريج حنتوب سنة ١٩٦٨ .
ghamedalneil@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
"محمد الطيب".. وحيد أمه الذي استشهد تاركًا خلفه وجع لا يندمل
غزة- مدلين خلة - صفا "دوى صوت انفجار هز المكان بأكمله، خرج جميع من في البيت يبحثون عن مصدره لمعرفة من التي ستُفجع بولدها، يرددون بصوت واحد "يكون بعون أمه ويصبر قلبها، شاب طويل بعمر الورد". كان صوت القصف قريب جدًا، تُحاول مداراة إحساسها بالسؤال عن مكان القصف حتى لا تُفجع في استشهاد نجلها الوحيد، متسائلة "عرفتوا وين القصف؟". الجميع هنا انتابه الصمت حين اقترب الرجال وهم يحملون ذلك الشاب ويدخلونه بسرعة كبيرة لأحد سيارات الاسعاف التي ملأت المكان، قطع الصمت صرخة شقيقته، "لا.. مش هو.. والله استنوا هاد محمد". صدمة وكابوس فجأة تحول الصمت لدى الجميع إلى صدمة كبيرة، هل حقًا هذا محمد، خرج قبل دقائق للحصول على بعض الماء الصالح للشرب، طلب من والدته إعداد كوب من الشاي، قائلًا لها: "مش حتأخر، مسافة الطريق، زبطي براد الشاي وباجي قبل ما يغلي". ركضت شقيقته ومن في المنزل للتأكد من جثمان الشهيد، إلا الأم التي لا تريد تصديق أن وحيدها تركها للأبد، تُحاكي نفسها "محمد طلب مني شاي وحيجي يشربه، محمد ما راح يتركني بعرف إني مالي غيره في الدنيا". ورغم ما تُحاور به نفسها، إلا أن القلق أخذ يأكل قلبها، وكأن الصاروخ سقط في جوف صدرها فأخذت تتقدم بخطوات تائهة متثاقلة مصحوبة برجفات قلبها غير المنتظمة، تنظر بعينيها لا تريد أن تُصدق ما تراه تصلبت نظراتها فوحيدها ينام على لوح من "الزينكو"، يفترش جسده الأرض، محمد الذي كان يملأ عليها عالمها قبل لحظات. حلم أم كابوس، تحاول "ريم الطيب" النهوض منه والخروج إلى الحقيقة والواقع، لكنه واقع مؤلم، وليس حلم ذهب محمد وترك نزيف قلبها لا يداويه أطباء العالم. تقول الأم الطيب لوكالة "صفا" وقلبها يعتصر ألمًا : "محمد ما كان ابني، هو أخوي وسندي وملجأي، كان الدنيا كلها خبيته برموش عيني عن العالم والحرب، ولا خطوة خطاها طوال عام من القصف والحرب إلا كانت معي، إلا هاد المشوار ذهب لحاله وضله رايح للأبد". لحظات مؤلمة تروى لحظاتها الأخيرة معه، قائلة: "قبل ما يستشهد بنصف ساعة كان معنا يطلب من شقيقاته ما يقفن على الشبابيك، لأن القذائف بكل مكان وبلاش تيجي شظية لوحدة فيكن، احنا محاصرين، ولا يوجد مشافي ولا دفاع مدني لإنقاذ المصابين". وتضيف "رن جواله وكان صاحبه المتصل سألته ايش فيه رد عليا جاي مي حلوة للشرب بدي أروح أعبي، رفضت إلا أنه أصر متحججًا المكان هيو هان قريب 100 متر بس تخافيش مش حيصير شي". "خوفي عليه كان يُزعجه كتيرًا، كان يقول لي أنا شاب كبير لم أعد صغيرًا، لا تقلقي عليا، قلت له مش بإيدي إنت الوحيد الذي طلعت في من الدنيا مالي غيرك". وتتابع "خرج لتعبئة الماء، دعيت ربنا أن يُبعد عنه أي مكروه، لكن الصواريخ والقذائف طيلة اليوم لم تتوقف، والوضع صعب، ذهب محمد لمناياه، أحب لقاء ربنا وراح عنده". استشهد وحيدها ورحلت معه ابتسامة الأم المكلومة، التي وجدت نفسها تتكأ على ما تبقى لها من ذكريات تمنحها الصبر على فراقه، انقلبت حياتها واسودت، بعدما كانت وردية في وجود وحيدها. تعيش الأم اليوم أكبر صراع مع ذاتها، ترغب كثيرًا بالرحيل إلى جانبه، لكنها تنظر حولها فتجد شقيقات محمد لم يتحملن فراقه، تربط جرحها لتداوي ألم بناتها. تتذكر جيدًا كيف كانت طباعه "كان محمد حنون مطيع مهذب، كل الناس بتحكي بخلقه الحسن، خوفي عليه ما أنجب ولد دلوع، بالعكس كان رجل يُعتمد عليه". وتضيف في حديثها "ما كان يرفض طلب لأخواته، كل الحارة تحبه، كان يساعد الكل بقدر المستطاع، وكان يقول لي في الحرب ما تعملي شي أنا بعمل كل ما بدك إياه بس ارتاحي، أنا بنقل مي حلوة وللاستخدام، وبولع نار للأكل بديش أشوفك تعبانة أبدًا". قطع حديثها صوت شاحنة تعبئة المياه المحلاة، فكأن سهمًا اخترق ذاكرتها التي لم تُشف بعد من هول الصدمة، فكانت دموع الوجع والقهر طريقها للتفريغ عن حزنها. جرح الأم على وحيدها الذي خرجت به من الدنيا بعد 17عامًا من الحرمان لم يندمل، عادت بحياتها إلى لحظاتها قبل مَجِيء محمد إلى الدنيا، لكن كيف لها أن تعتبر أنه لم يوجد، محمد الذي سهرت عليه الليالي وأحاكت له ملابسه بيديها حتى بلغ عمره 20 عامًا رحل دون أن يخبرها برحيله، وعدها أن يعود خلال دقائق لكن مضت أيام ولم يعود، بقي وعده لوالدته دون ايفاء وسيبقى حتى يشاء الله.