كيف تسلل البلاستيك لأكثر الأسماك التونسية استهلاكا؟
تاريخ النشر: 27th, October 2024 GMT
كشفت دراسة تونسية غير مسبوقة عن مستويات مثيرة للقلق من التلوث بالجسيمات البلاستيكية الدقيقة في أحد أكثر أنواع الأسماك استهلاكا في تونس، وهو السردين، مما أثار مخاوف جدية بشأن تأثير التلوث البلاستيكي على النظم البيئية البحرية والصحة العامة.
ويمثل البحث، الذي أجري على طول الساحل الشمالي لتونس، ونشرت نتائجه في دورية " إيكوهيدرولوجي وهيدروبيولوجي"، أول تحقيق شامل في وجود جسيمات البلاستيك الدقيقة في هذه الأسماك الشعبية، التي تشكل جزءا كبيرا من النظام الغذائي للبلاد.
وجسيمات البلاستيك، هي جزيئات صغيرة يقل حجمها عن 5 ملليمترات، وتنشأ من تحلل المواد البلاستيكية الأكبر حجما أو يتم تصنيعها في شكل جزيئات صغيرة للاستخدام الصناعي، وأصبحت منتشرة في المحيطات والأنهار والبحيرات في جميع أنحاء العالم، مما يشكل مخاطر كبيرة على الحياة المائية، وقد تنتقل إلى سلسلة الغذاء عند استهلاكها من قبل البشر.
ومع تزايد القلق العالمي بشأن هذه الجزيئات الصغيرة، سعت هذه الدراسة التي أجراها فريق بحثي من مختبر الرصد البيئي بكلية العلوم ببنزرت جامعة قرطاج، إلى استكشاف وجود هذه المشكلة في تونس، واستهدفوا على وجه التحديد السردين، بسبب معدلات استهلاكه المرتفعة في البلاد.
ولإجراء البحث، تم جمع 40 سمكة من 4 مواقع رئيسية على طول الساحل الشمالي لتونس: طبرقة وبنزرت وحلق الوادي وقليبية.
وفي كل من هذه المناطق، تم اختيار 10 عينات من السردين للتحليل، مما سمح للباحثين بتقييم تلوث البلاستيك الدقيق في كل من الجهاز الهضمي (حيث يمر الطعام) والخياشيم (التي تستخدمها الأسماك للتنفس) لكل سمكة على حدة.
كانت النتائج مذهلة، إذ كان 92.5% من الأسماك التي تم فحصها تحتوي على بلاستيك دقيق في أجهزتها الهضمية، و 72.5% منها تحتوي على بلاستيك دقيق عالق في خياشيمها.
وتباينت تركيزات البلاستيك الدقيق في هذه الأعضاء، حيث تم العثور على أعلى المستويات المسجلة في السردين الذي تم جمعه من منطقة بنزرت، وفي بعض الأسماك، تم الكشف عما يصل إلى 5.86 جزيئات بلاستيكية في الجهاز الهضمي، بينما تم العثور على ما يصل إلى 4.00 جزيئات في الخياشيم.
وبالإضافة إلى تحديد كمية البلاستيك الموجودة، فحصت الدراسة أيضا أنواع البلاستيك الدقيق، وتم تصنيف الجزيئات التي عثر عليها إلى 3 أنواع رئيسية، وهي الألياف والشظايا والأغشية، وظهرت في مجموعة من الألوان، بما في ذلك الأسود والشفاف والأزرق والأحمر والأخضر والأبيض.
ومن بين الأنواع المختلفة، كانت الألياف هي أكثر أنواع البلاستيك الدقيقة شيوعا في كل من الجهاز الهضمي والخياشيم، وكانت غالبية الجسيمات المكتشفة صغيرة بشكل لا يصدق، حيث تراوحت أحجامها من 0.033 ملم إلى 0.5 ملم فقط، مما يعني أنه يمكن للكائنات البحرية تناولها بسهولة.
وهذا الاكتشاف مثير للقلق بشكل خاص، نظرا لدور السردين في النظام الغذائي التونسي، فهو مصدر غني بالعناصر الغذائية، بما في ذلك البروتينات عالية الجودة والكالسيوم وفيتامين "د" والحديد وأحماض "أوميغا 3" الدهنية، وكلها توفر فوائد صحية مهمة.
ومع ذلك، فإن تراكم البلاستيك الدقيق فيه يمثل مخاطر محتملة ليس على الأسماك فحسب، بل قد تكون هناك آثار ضارة على المستهلكين من البشر أيضا، وهو أمر لا يزال موضع دراسة.
وتؤكد هذه النتائج على الحاجة إلى مزيد من التحقيق في الآثار الصحية المحتملة لتناول البلاستيك الدقيق من خلال استهلاك الأسماك.
كما تسلط نتائج الدراسة الضوء على المخاطر البيئية التي يشكلها البلاستيك الدقيق على الكائنات البحرية، إذ يمكن أن تسد الجسيمات البلاستيكية الدقيقة القناة الهضمية للأسماك، مما يؤدي إلى سوء التغذية أو حتى المجاعة، وقد تلحق الضرر بخياشيمها، مما يؤثر على قدرتها على التنفس.
بالإضافة إلى ذلك، ثبت أن بعض الجسيمات البلاستيكية الدقيقة تحمل مواد كيميائية ضارة، بما في ذلك المواد المضافة المستخدمة في أثناء تصنيع البلاستيك (مثل الفثالات ومثبطات اللهب) والملوثات الممتصة من البيئة البحرية (مثل المعادن الثقيلة ومركبات ثنائي الفينيل متعدد الكلور أو ثنائي الفينيل متعدد الكلور)، عندما تبتلع الأسماك هذه الجزيئات، يمكن أن تتراكم السموم في أنسجتها، وقد تنتقل إلى البشر عند استهلاكها.
مؤشر بيولوجي مهمويعيش 64% من السكان على طول الساحل الشمالي لتونس، حيث أجريت الدراسة، ويرجع اختيار السردين محورا لهذه الدراسة إلى أهميته الاقتصادية والثقافية في تونس، حيث يمثل 25% من إجمالي صيد الأسماك في تونس، كما يعد منتجا رئيسيا في صناعة التعليب في البلاد، التي تشكل أكثر من 30% من صيد الأسماك السنوي.
وتوضح هذه النتائج، لأول مرة، مدى تلوث البلاستيك الدقيق على طول الساحل الشمالي لتونس، وتشير إلى أنه يمكن استخدام السردين مؤشرات بيولوجية لمراقبة تلوث البلاستيك البحري.
ومع تصدي العالم لمشكلة النفايات البلاستيكية المتنامية، يسلط هذا البحث الضوء على الحاجة الملحة إلى معالجة تلوث البلاستيك الدقيق لحماية الحياة البحرية وضمان سلامة الموارد الغذائية.
وتقدم هذه الدراسة نقطة مرجعية حاسمة لفهم شدة تلوث البلاستيك الدقيق في البيئة البحرية في تونس، وتدعو إلى زيادة الجهود لمكافحة هذه المشكلة على المستويين الوطني والدولي.
وفي المستقبل، يؤكد فريق البحث على أهمية رفع مستوى الوعي العام بالمخاطر الصحية المحتملة للبلاستيك الدقيق والحاجة إلى حلول مستدامة للحد من النفايات البلاستيكية في المجاري المائية.
دعوة لدراسات مماثلةولا تبدو نتائج هذه الدراسة مفاجئة في تقدير الدكتور مجدي علام، مستشار مرفق البيئة العالمي، وأمين عام اتحاد خبراء البيئة العرب، رغم أن نسبة التلوث التي رصدتها كبيرة.
ويقول علام للجزيرة نت: "إذا قارنا نتائج هذه الدراسة بنتائج دراسات سابقة أجريت في أماكن أخرى من العالم، فلن يبدو الأمر مفاجئا"، وأشار إلى أن "المفاجأة ربما تأتي من جرأة وواقعية الباحثين في هذه الدراسة".
وكانت دراسة أميركية، نشرتها دورية "بلوس وان" عام 2014، قدرت أن أكثر من 5.25 تريليونات جزيء بلاستيكي يطفو في محيطات العالم.
ووثقت دراسة لباحثين من جامعة بليموث البريطانية -نشرت عام 2013 بدورية "مارين بوليوشن بوليتن"- وجود هذه المشكلة في الأسماك التي تم اصطيادها قبالة الساحل الجنوبي الغربي لإنجلترا، فمن بين 504 سمكات تم فحصها، وجد أن أكثر من ثلثها تحتوي على قطع صغيرة من البلاستيك يقل حجمها عن 1 مم، ويأتي أغلبها من المنتجات الصحية وأكياس حمل المنتجات.
وفي تطور خطير، عثر باحثون من جامعة فريجي أمستردام بهولندا -في دراسة نشرت بدورية "إنفيرومينت إنترناشونال" عام 2022- على البلاستيك الدقيق في دم الإنسان لأول مرة، مما يشير إلى أن البلاستيك المتناول من خلال الطعام يمكن أن ينتشر في جميع أنحاء جسم الإنسان، وقد اكتشفت دراسات أخرى وجود البلاستيك الدقيق في الأعضاء البشرية مثل القلب، مما يدق ناقوس الخطر بشأن قدرته على التسبب في ضرر بالغ على صحة الإنسان.
وحيث إن أكثر من 3 مليارات من سكان العالم يستهلكون الأسماك ضمن نظامهم الغذائي المعتاد، وفقا لتقارير دولية، فإن التعرض طويل الأمد للبلاستيك الدقيق، من شأنه أن يسبب مشاكل صحية عالمية، منها إثارة الاستجابات الالتهابية، والإجهاد التأكسدي، وحتى التدخل في تنظيم الهرمونات.
ويقول علام: "نحيي الباحثين التونسيين على مشاركتهم في التوجه العالمي نحو التوعية بهذا الخطر، وندعو أقرانهم من الباحثين العرب إلى إجراء دراسات مماثلة".
ويضيف أن "مثل هذه الدراسات من شأنها أن تدعم توجه العديد من الهيئات، بما في ذلك الأمم المتحدة، إلى فرض لوائح أكثر صرامة للحد من تلوث البلاستيك".
كما أن هذه الدراسة دعوة لمزيد من الحرص في أثناء طهي الأسماك، ويقول علام: "نصيحتي هي التخلص من بطن السمكة أثناء الطهي، وإذا كان المستهلك لا يود التخلص منها، فيجب تنظيفها جيدا والتخلص من النقاط البيضاء التي توجد بها، والتي يظن البعض أنها ملح، لكنها في الحقيقة جسيمات بلاستيكية دقيقة ضارة بالصحة".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات هذه المشکلة هذه الدراسة بما فی ذلک فی تونس أکثر من
إقرأ أيضاً:
البلاستيك يغزو حياتنا وبيئتنا وخلايا أدمغتنا
يعد التلوث البلاستيكي أحد أكبر التحديات البيئية في القرن الحادي والعشرين، فالاستخدام المتزايد للمواد البلاستيكية في الوقت الحاضر والتخلص منها بشكل فوضوي لا يشكل عبئا خطيرا على البيئة فقط، بل أيضا على صحة الإنسان.
وأشارت دراسة علمية جديدة إلى أن أصغر أجزاء النفايات البلاستيكية التي نستعملها في حياتنا اليومية أو ما يعرف بـ"البلاستيك النانوي" تجد طريقها إلى أعمق أجزاء أجسامنا، بما في ذلك خلايا أدمغتنا وحليب الأمهات.
وحسب غارديان البريطانية، تمكن العلماء الآن من التقاط أول دليل مرئي على وجود هذه الجزيئات داخل الخلايا البشرية، مما أثار تساؤلات ملحة حول تأثيرها على صحتنا، من الطعام الذي نتناوله إلى الهواء الذي نتنفسه.
كيف تتسلل الجسيمات البلاستيكية لأنسجتنا؟على عكس المواد الطبيعية مثل الخشب والورق، لا يتحلل البلاستيك تماما، وعندما ينتهي به المطاف في مكب النفايات، يتفكك إلى تريليونات من القطع والجزيئات المجهرية التي تأخذها الرياح والمياه إلى كل مكان تقريبا، وتسلل هذه الجزيئات إلى الهواء وأنظمة المياه، كما تستهلكها الكائنات الحية التي يتغذى عليها الإنسان".
كما تتسرب تلك الجزيئات الدقيقة من خلال استعمالنا اليومي للمواد البلاستيكية، بما فيها قطع اللباس والأواني والحافظات البلاستيكية وأدوات الطهي، ويؤدي تسخين الأكل في أوعية بلاستيكية في الميكرويف إلى نشر هذه الجزيئات المجهرية أيضا.
إعلانوتؤكد دراسة أجراها صندوق الحياة البرية العالمي عام 2019 أن الشخص العادي يبتلع حوالي 5 غرامات من البلاستيك كل أسبوع، وتشير أبحاث أخرى إلى أنه يبتلع ما لا يقل عن 50 ألف جزيء من البلاستيك سنويا.
وفي عام 2022، وجد باحثون في هولندا الميكروبلاستيك في دم الإنسان لأول مرة، كما اكتشفت الجزيئات المجهرية من البلاستيك في قلوب أشخاص خضعوا لجراحة القلب عام 2023، وعُثر على جزيئات البلاستيك في الأجهزة التناسلية للرجال.
قد يكون من الطبيعي أن تجد جزيئات البلاستيك طريقها إلى تلك الأعضاء. لكن المفاجأة كانت بوجودها في الدماغ، فهو مصمم لإبقاء الأشياء خارجا، من خلال ما يسمى "حاجز الدم" في الدماغ.
وحسب دراسة نشرت في مجلة "طبيعة" (Nature) يمكن للبلاستيك النانوي اختراق الأغشية الخلوية والوصول إلى المخ الذي يحتوي على ما يصل إلى 30 ضعفا من الميكروبلاستيك أكثر من الكبد والكلى.
ويعتقد الباحثون أن الخلايا المناعية تلتهم جزيئات البلاستيك وتنتقل عبر مجرى الدم، لتستقر في النهاية في الأوعية الدموية بالدماغ.
وتؤدي الجسيمات، التي قد تتراكم في الأنسجة الداخلية إلى تأثيرات صحية طويلة الأمد، مثل التهابات أو اضطرابات هرمونية، وغيرها، ووجدت الدراسة أن تركيزات الميكروبلاستيك في الأشخاص الذين ماتوا بسبب الخرف كانت أعلى بنحو 6 أضعاف الموجودة في الأدمغة السليمة.
وحسب موقع "ستاتيستا"، بلغ الإنتاج العالمي من البلاستيك 413.8 مليون طن متري في عام 2023 نظرا للنمو المستمر في الطلب، ومنذ أن بدأت صناعة البلاستيك عام 1907، انتشر تدريجيا وأصبح من أخطر أسباب التلوث.
ووفق تقديرات منظمة "تحرروا من البلاستيك" (Break Free From Plastic) تتم إعادة تدوير 10% فقط من النفايات البلاستيكية. ويستهلك العالم نحو 5 آلاف مليار كيس بلاستيكي سنويا، وفق تقديرات موقع ستاتيستا.
إعلانومن المنتظر أن يصل الإنتاج العالمي من البلاستيك 1.1 مليار طن بحلول عام 2050، وتشير إحصائيات إلى أن 1.8 تريليون قطعة بلاستيكية تطفو على مياه المحيطات والبحار والأنهار.
وفي كل عام، يدخل ما لا يقل عن 14 مليون طن من النفايات البلاستيكية محيطات العالم، وتلحق هذه النفايات أضرارا جسيمة بالحياة البحرية، وتدمر التنوع البيئي.