1000موقع أثري وتاريخي.. و4 على قائمة «اليونسكو»
تاريخ النشر: 26th, October 2024 GMT
رأس الخيمة: «الخليج»
يفوح عبق الأصالة والتاريخ من مناطق عدة، عبر الامتداد الجُغرافي لرأس الخيمة، وسط اعتزازٍ بالغ، شعبي ورسمي، واحتفاءٍ لافت بالهوية التراثية والثقافية الوطنية للإمارة، الأمر، الذي يتجلى في جهود حماية المواقع الأثرية والتاريخية، التي تعكف عليها حُكومة رأس الخيمة، مُمثلةً بدائرة الآثار والمتاحف العامة، بتوجيهات من صاحب السمو الشيخ سعود بن صقر القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم رأس الخيمة، بجانب العدد الكبير من «المتاحف المنزلية»، التي أنشأها المواطنون في بيوتهم ومُنشآتهم الخاصة، بصورةٍ تُؤكد «عشق الموروث» والاعتزاز الكبير بما خلّفه الآباء والأجداد، والذي يسري في دماء أبناء الإمارات إجمالاً، وبشكلٍ يكشف عن الوجه الحضاري الوطني لمُواطني الدولة.
تحتضن الإمارة 4 مواقع أثرية مُدرجة على القائمة التمهيدية لمواقع التراث العالمي، التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو». واستضافت دائرة الآثار والمتاحف في رأس الخيمة مجموعةً من الخبراء، التابعين للمنظمة العالمية، لإجراء تقييم لتلك المواقع، بهدف إضافتها لاحقاً وبشكل نهائي إلى قائمة اليونسكو الدائمة لمواقع التراث العالمي. الصورة
«جلفار» و«مجان» و«الصير»
عُرفت رأس الخيمة في الماضي بأسماء عدة، منها «جلفار» و«مجان» و«الصير»، ويعود تاريخ الإمارة إلى العصر الحجري الحديث، وهي بذلك من المناطق القليلة في العالم، التي استوطنها البشر منذ أكثر من 7 آلاف عام.
هوية ثقافية
خلال المراحل الماضية، تصاعد اهتمام أبناء رأس الخيمة بالحفاظ على تُراثهم وثقافتهم وتقاليدهم وهويتهم، الوطنية والشعبية والحضارية، التي تتجلى في الموروث الشعبي والفنون والرياضات الشعبية، كالفروسية وسباقات الهجن، وتحتضن رأس الخيمة، اليوم، العديد من المراكز والأندية والمؤسسات الثقافية، والجمعيات الخاصة بالفنون الشعبية والحرف اليدوية التراثية، والمسارح، والمكتبات، التي تُسهم في الحفاظ على تقاليد الإمارة وتحتفي بموروثها.
نماذج حية
ويعدّ «مهرجان فن رأس الخيمة» السنوي وفعاليات «حي التراث» الموسمية أمثلة حية ومشرقة، تعكس حرص الإمارة على الحفاظ على تقاليدها وإرثها الثقافي، وجعلها في متناول الجميع.
الأُسرة الحاكمة
وتُمثل أسرة القواسم الحكام التاريخيين لإمارتي الشارقة ورأس الخيمة، حيث حكمت الأسرة إمارة رأس الخيمة منذ القرن الميلادي ال 18، وعُرفت بأنها القوة البحرية لهذه المنطقة.
إحياء «الأصالة»
وتُعد «الجزيرة الحمرا»، التي تمتلك تُراثاً عُمرانياً عريقاً، حيث تضم قرية الصيد والغوص بحثاً عن اللؤلؤ، الوحيدة من نوعها، التي لا تزال تُحافظ على طبيعتها في منطقة الخليج العربي. وباعتبارها «جزيرة» تكوّنت بفعل المد والجزر، فهي مكونة من الأحجار المرجانية، فيما هجر سكانها الجزيرة عام 1968، وجرى العمل على مشروع ضخم، خلال الأعوام الماضية، لاستعادة طابعها القديم وإحياء رونقها التراثي الأصيل، وفتح أبوابها أمام الزوار والسياح، حيث انتهت بالفعل عمليات ترميم العديد من المواقع فيها.
معالم تاريخيّة
كما تضم قائمة المعالم التاريخية الأخرى في إمارة رأس الخيمة «قلعة ضاية»، التي يعود تاريخها إلى أواخر العصر البرونزي، وتشكل الحصن الوحيد، الذي مازال مُتربعاً على قمة «تل» في دولة الإمارات، و«قلعة الفلية»، أحد المواقع التاريخية، التي جرى فيها توقيع معاهدة سلام بين شيوخ ساحل الخليج والحكومة البريطانية، عام 1820، ومتحف رأس الخيمة الوطني، الذي كان منزلاً للأسرة الحاكمة حتى مطلع ستينات القرن الماضي. وفي رأس الخيمة، بالتحديد عام 1421 م، وُلد الملاح الشهير أحمد بن ماجد، الذي اشتُهر بلقب «أسد البحار»، وكانت الإمارة في ذلك الوقت تُعرف باسم «جلفار».
علاقات تاريخيّة
وتتعاون دائرة الآثار والمتاحف في رأس الخيمة مع متحف القصر الإمبراطوري في بكين، وعدد من المتاحف الرئيسية في جمهورية الصين الشعبية، لدراسة مجموعة من المواقع الأثرية في الإمارة، وفي ضوء هذا التعاون، اكتُشفت العديد من المقتنيات الأثرية، التي عُرضت في معارض الآثار، في مدن صينية مختلفة.
وتكشف تلك الآثار والمُكتشفات، التي يعود تاريخها إلى عهد أسرة يوان، من 1271-1368 ميلادية، وجود علاقات تجارية تاريخية بين المنطقة وجمهورية الصين الشعبية، وتمّ العثور على قطع عدة من الخزف الصيني، ذي اللونين الأزرق والأبيض النادرين، والتي ترجع بتاريخها إلى عهد أسرة يوان، ويؤكد أستاذ في متحف القصر أنه لا يوجد سوى 300 قطعة تقريباً من هذا النوع في العالم.
العصر البرونزي
كما تتعاون الدائرة بشكل رئيسي مع جامعتي «جنوب ألاباما» و«كوينيبياك» الأمريكيتين، لدراسة عظام بشرية تعود إلى 4 آلاف عام، اكتُشفت في مقابر تعود إلى عصر ما قبل التاريخ، بمنطقة شمل في رأس الخيمة، التي تحتضن أكبر مقبرة من العصر البرونزي في شبه الجزيرة العربية.
20 ألف قطعة أثرية
وسُجلت 20 ألف قطعة أثرية، تتنوع ما بين المقتنيات، التي تتعلق بالثقافة الإماراتية، والفخار والعملات والمعدات القتالية، ضمن قاعدة البيانات، التابعة لدائرة الآثار والمتاحف في رأس الخيمة، خلال ال 30 عاماً الماضية، وأُجريت عملية «رقمنة» لجميع سجلات الحفريات والوثائق الأثرية بحلول العام 2022.
رقمنة أثرية
تعمل دائرة الآثار والمتاحف في رأس الخيمة على إنشاء نظام يختص بأفضل الممارسات، الُمتبعة للحفاظ على الآثار، ومن خلال تعاونها مع وزارة الثقافة والشباب في أبوظبي، تعمل الدائرة على رقمنة حوالي 100 قطعة أثرية من رأس الخيمة، وتجري إضافتها إلى خدمة تسجيل القطع والمواقع الأثرية.
معارض دولية
جرى تسليط الضوء على تاريخ رأس الخيمة العريق، خلال العديد من المعارض الدولية، مثل معرض الحضارات الآسيوية في بكين، والمعارض الدورية للآثار لدول مجلس التعاون الخليجي، في دولة الكويت. وأُعيرت العديد من القطع الأثرية، الُمكتشفة في رأس الخيمة، لمتحفي زايد الوطني، واللوفر- أبوظبي.
تحتفظ بمعالمها الرئيسية ومرافقها المتنوعة
«الجزيرة الحمراء القديمة».. نموذج نادر للتراث
تُجسد قرية الجزيرة الحمراء القديمة في رأس الخيمة نموذجاً مُتكاملاً ونادراً للتراث الإماراتي الأصيل، حيث تشكل قرية إماراتية تاريخية شاملة، لا تزال تحتفظ بمعالمها الرئيسية ومرافقها المتنوعة، وأحيائها «الفرجان»، ودروبها العتيقة «السكيك».
وخضعت «الجزيرة الحمراء القديمة» في رأس الخيمة لعملية صيانة شاملة، خلال الأعوام الماضية، وتُمثل بلدة متكاملة متخصصة في الغوص بحثاً عن اللؤلؤ وتجارته، ممتدة بموازاة ساحل الخليج العربي.
3 فرجان 453 منزلاً
وتضم القرية التراثية، وفقاً لعدد من أبناء قبيلة الزعاب، أهل القرية وقاطنيها سابقاً، 453 منزلاً، تتوزع ضمن 3 فرجان، هي فريج المناخ، وفريج المياني، وفريج الغربي، ويقدرون عمر القرية بنحو 200 عام، حداً أدنى، وفق بعض المعطيات، وتضم القرية حالياً 9 مساجد، ومصلى عيد، ومدرستين، وعيادة طبية.
شغف التُراث
وتضمّ «الجزيرة الحمراء القديمة» مُقومات مختلفة ومعالم ثرية من وجوه الحياة التراثية الإماراتية، والخليجية والعربية إجمالاً، التي يبحث الزائر عنها بشغف وحنين إلى الماضي ضمن قرية متكاملة وفريدة، حيث تضم قلعة، وبرج مراقبة، ومسجداً قديماً، وسوقاً تراثياً، وبيوتاً تقليديّة، بتصاميم متنوعة من الهندسة المعمارية الإماراتية القديمة.
بُيوت إماراتية
وتختلف البيوت في القرية الإماراتية التراثية وتتعدّد تصاميمها، بدءاً من المنازل الصغيرة والبسيطة، إلى البيوت التقليدية الواسعة، المكونة من طابقين، ثم البيوت الفسيحة، التي كان تجّار اللؤلؤ الأغنياء يقطنونها.
تُراث عُمراني
وشُيدت تلك البيوت على الطريقة التقليديّة للعمارة الإماراتية القديمة والأصيلة، باستخدام مواد محليّة، مثل الأحجار المرجانيّة والصخور الشاطئيّة المتحجّرة ومواد التسقيف، وجرى تدعيمها بعوارض خشبيّة مصنوعة من أشجار القرم وجذوع أشجار النخيل، كما زُيّنت بالحُصُر والحبال، واستخدمت طبقات من الأحجار الصدفيّة لتصريف المياه.
قائمة «يونسكو»
وأُدرجت «الجزيرة الحمراء القديمة» على القائمة الإرشادية المؤقتة لمواقع التراث العالمي، الخاصة ب«يونسكو»، إذ تقف شاهداً حياً على الهندسة المعماريّة والتخطيط المدني التقليديَين في الشرق الأوسط.
وجهات سياحية بارزة
حظيت «قلعة ضاية بالإدراج ضمن القائمة الإرشادية المُؤقتة لمواقع التراث العالمي، وهي تُعد آخر القلاع المبنية على التلال في دولة الإمارات. ويعود تاريخها إلى العصر البرونزي المتأخر (1600 - 1300 قبل الميلاد) حين كان السكان المحليون يستخدمونها مستوطنةً وحصناً منيعاً.
بساتين النخيل
وشُيّدت القلعة، ذات القمة المزدوجة والمصنوعة من الطوب الطيني الذهبي، خلال القرن التاسع عشر، وجرى ترميمها أواخر تسعينيات القرن الماضي، وتشكل مَعلماً تاريخياً عريقاً، يتربع على تلّ ارتفاعه 70 متراً، وتحيط بها بساتين نخيل التمر وقمم جبل جيس حيث تشكل المحور المركزي للواحة الخصبة.
تضم قاعدة القلعة 12 مدفناً كبيراً من حقبة وادي سوق، التي يعود تاريخها بين 2000 و1300 قبل الميلاد، والطريق إلى قلعة ضاية صخري وغير متساوٍ.
المصدر: صحيفة الخليج
كلمات دلالية: فيديوهات رأس الخيمة الشيخ سعود بن صقر القاسمي حاكم رأس الخيمة لمواقع التراث العالمی تاریخها إلى العدید من خلال ال التی ت
إقرأ أيضاً:
اليونسكو والفكر التنويري: تراث البشرية في دائرة الخطر
وافقت اليونسكو في اجتماعها الاستثنائي الذي عقدته في باريس يوم الإثنين في 18 نوفمبر، على حماية 34 موقعًا أثريًا لبنانيًا، استجابة لجهود مكثفة بذلتها وزارة الثقافة اللبنانية لإقناع المجتمع الدولي بأهمية حماية التراث الثقافي اللبناني بعد تعرضه للقصف الإسرائيلي المتعمد.حيث تعرضت مدينة بعلبك، التي تعد من أبرز مواقع التراث العالمي، لأضرار كبيرة نتيجة الغارات الجوية الإسرائيلية. فتضرر السور الخارجي للقلعة الأثرية، وسقطت أجزاء من بنيته، بينما تعرضت "قبة دورس"، المعلم الأيوبي الشهير، لأضرار جسيمة أدت إلى تساقط بعض أحجارها التاريخية. كما لحقت أضرار كبيرة بـ"المنشية" العثمانية، التي كانت تمثل مركزًا سياحيًا وثقافيًا هامًا، حيث دُمرت بشكل شبه كامل، مما يعكس خسائر مادية وثقافية فادحة.
أما مدينة صور، المعروفة بتاريخها الفينيقي العريق، فقد كانت هدفًا لسلسلة غارات جوية إسرائيلية دمرت أحياء كاملة تقع قرب مواقع أثرية بارزة مدرجة ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو. كما طال الدمار شارع صور البحري وبعض البيوت الأثرية بالقرب من مينائها العريق، مما أدى إلى تشويه جزء كبير من هويتها الثقافية والتاريخية. ناهيك عن خطر الانهيار الكامل لمواقعها الأثرية على المدى الطويل بحسب تقرير المجلس الدولي للآثار والمواقع (ICOMOS)، نتيجة الاهتزازات المتكررة العنيفة التي تتعرض لها المدينة جراء القصف الإسرائيلي العنيف.
الاعتداءات الإسرائيلية لم تقتصر على بعلبك وصور، بل امتدت لتشمل مواقع أثرية وتاريخية أخرى، مثل سوق النبطية، الذي دُمر بشكل شبه كامل، وهو سوق تاريخي يمتد عمره لأكثر من أربعة قرون، ويُعتبر رمزًا للحركة الاقتصادية والاجتماعية في الجنوب اللبناني. كما استُهدفت منازل تراثية وقُرى تاريخية، منها قرية "رسم الحدث" في سهل البقاع، التي شهدت تدمير بيوتها الحجرية القديمة وأشجارها المعمرة بفعل القصف.
كما طالت الاعتداءات دور العبادة التاريخية، مثل كنائس بعلبك القديمة، ومساجد عدة، منها مسجد "كفر تبنيت" ومسجد النبي شعيب في بليدا، التي تعود للعصر العثماني، وتعرضت مآذنها ومبانيها للتدمير الجزئي أو الكلي.
الهجمات الإسرائيلية على المواقع التراثية اللبنانية ليست مجرد أعمال عسكرية، بل هي انتهاك واضح لاتفاقية لاهاي لعام 1954 التي تنص على أن "أي ضرر يلحق بالممتلكات الثقافية هو ضرر للتراث الإنساني ككل". وهي استراتيجية إسرائيلية ممنهجة تهدف إلى طمس الهوية الثقافية والتاريخية للشعب اللبناني، تحت حجج مفتعلة مثل "الاستخدام العسكري" أو "الدروع البشرية" لتبرير استهداف هذه المواقع.
بعلبك وصور من قوائم الحماية إلى قوائم الاستهداف الأسرائيلي
بعلبك، مدينة الشمس، أقدم مدن العالم، ليست مجرد مدينة لبنانية، إنها شهادة حية على تعاقب الحضارات التي أسهمت في بناء الهوية الثقافية للبنان. تحولت بعلبك في العصور الرومانية، إلى مركز ديني ضخم، حيث شُيدت معابد مثل معبد جوبيتر وباخوس وفينوس، وهي رموز للهندسة المعمارية المتقدمة في ذلك العصر. لكنها قبل ذلك كانت مدينة فينيقية تجسد التفاعل الحضاري بين الشرق والغرب. احتضنت بعلبك التراث الإسلامي أيضًا، حيث أُضيفت اللمسات الإسلامية إلى معالمها الأثرية، مما جعلها رمزًا للتنوع والتعايش الثقافي. هذا المزج بين الحضارات يجعلها إرثًا إنسانيًا يتجاوز حدود لبنان ليصبح جزءًا من التراث العالمي.
صور: مهد الملاحة وعاصمة الأرجوان
أما صور، سيدة البحار وعروسة المتوسط، فتمتد جذورها إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد.شكلت نقطة التقاء للحضارات المختلفة، من خلال شبكة التجارة الواسعة التي أسسها الفينيقيون، التقت الثقافة الفينيقية بالثقافات المصرية والإغريقية والبابلية والرومانية. هذا التفاعل الثقافي لم يكن مقتصرًا على التجارة فقط، بل امتد إلى الفكر والفن والعلم. استطاع الفينيقيون تحويل مدينة صور، بمهاراتهم الملاحية وابتكاراتهم التجارية، إلى مركز تجاري عالمي. من هذه المدينة انطلقت السفن الأولى التي حملت البضائع والأفكار إلى شمال إفريقيا وجنوب أوروبا. اشتهرت عالميًا بإنتاج صبغة الأرجوان الفريدة، التي استقطبت الملوك والأباطرة من مختلف أنحاء العالم. من صور، أسست أليسار، الأميرة عليسة مدينة قرطاج (تونس اليوم)، التي أصبحت فيما بعد منافسًا تجاريًا وسياسياً للإمبراطورية الرومانية. هذا الامتداد لا يعكس القوة الاقتصادية لصور فحسب، بل قدرتها على التأثير الثقافي عالميًا. استثمرت الحضارة الرومانية في تراث صور وشيدت المعابد والمسارح ومعالم معمارية تاريخية ضخمة، مثل الأعمدة الرومانية والمدرجات التي لا تزال شاهدة على براعة الهندسة الرومانية.
العودة إلى عصور الفوضى
تاريخيًا، كانت هناك حالات عديدة لتدمير التراث الثقافي كوسيلة للسيطرة، حيث دُمرت حضارات كاملة، وتلاشت آثارها بسبب الحروب. في الحربين العالميتين، على سبيل المثال، تعرضت عدة مواقع ثقافية للدمار. والآن، ورغم أن الغرب كان رائدًا في تبني مفاهيم حماية التراث، فإن هذه المبادئ تتعرض للتهديد نتيجة تواطؤ بعض دوله الكبرى والتغاضي على هذه الانتهاكات. إن العودة إلى الأساليب التي تمحو الهوية الثقافية تعني نقضًا كاملًا للمبادئ التي دعمتها المجتمعات الحديثة لسنوات، وتراجعًا إلى عصور الفوضى حيث كانت القوة العسكرية هي المعيار الأساسي، مما يكشف عن بدايات عصر جديد من انعدام القانون تكرسه "الدول المارقة".
قصف التراث: هجوم على الهوية الجماعية
أشار إدوارد سعيد في كتاباته إلى أن تدمير التراث ليس مجرد تخريب مادي، بل جزء من استراتيجية استعمارية تهدف إلى فرض هيمنة ثقافية مفصولة تمامًا عن جذور الشعب الأصيلة. بيير بورديو من جانبه، يرى أن تدمير التراث ليس مجرد هدم للأبنية، بل هو عملية مدروسة تهدف إلى فصل الشعوب عن ماضيها، وإعادة تشكيل وعيها بما يخدم مصالح المستعمر. في الجزائر، استخدمت فرنسا تدمير التراث كوسيلة لكسر الروح الوطنية للشعب الجزائري. إلا أن هذه الممارسات لم تحقق غاياتها، بل شكلت أداة لتوحيد الجزائريين حول هويتهم الثقافية، مما ساهم في إشعال روح المقاومة.
في العصر الحديث، لجأت داعش إلى تدمير مواقع أثرية كجزء من مشروعها لتفكيك الهويات الثقافية. ومع ذلك، أعاد هذا التدمير تسليط الضوء على أهمية حماية التراث كجزء من الهوية الإنسانية. وفي فلسطين، يمثل تدمير المواقع التراثية جزءًا من سياسة أوسع تهدف إلى محو الذاكرة الفلسطينية.
تعرية الفكر التنويري أمام الحروب الحديثة
الفكر التنويري، الذي اشتغل لقرون على تطوير قيم العدالة والحماية الإنسانية والثقافية، يبدوعاريًا أمام إعتداءات إسرائيل التي تعرض نتاجه للدمار. هذا الفكر الذي أنتج منظمات عالمية كاليونسكو وسَنَّ قوانين لحماية التراث، يظهر عاجزًا عن التصدي للقوى العالمية الكبرى التي تعمد إلى تحويل المنظمات الدولية إلى منابر بروتوكولية معطلة الفعالية.
فاجتماعات اليونسكو والجهود المبذولة لتصنيف المواقع الأثرية وحمايتها تُعتبر إنجازات كبيرة في مجال الحفاظ على التراث. لكن في زمن الحروب، يستخدم العدو الإسرائيلي هذه القوائم كأدلة للقصف والتدمير. وأصبحت المواقع الأثرية التي تحمل تصنيفات الحماية أهدافًا مباشرة لإسرائيل. هذه الديناميكية لا تعكس فقط استضعاف الدول التي تُنتهك آثارها، بل تكشف عن أزمة حقيقيقة لدى الفكر الحضاري العالمي. تلك الحضارة الغربية التي عولت على مفاهيم مثل التراث والحداثة، تُظهر تناقضًا حين تُستخدم أدواتها لتدمير ما أنشأته من قيم ومعانٍ. فهذه الجهود التي استثمرت في حماية التراث تُنسف في لحظة، مما يطرح سؤالًا وجوديًا: كيف يمكن لنظام عالمي يروج للحداثة أن يكون عاجزًا عن حماية ما يدّعي الحفاظ عليه؟
المفكر ميشيل فوكو يرى أن سلطة الحداثة تُعيد تشكيل القوانين لتبريرانتهاكاتها، وهو ما يتجسد في حروب "الإبادة الانسانية والثقافية" الإسرائيلية على غزة ولبنان، ما يحرج فكرالتنوير الذي اعتُبر تقدمًا للبشرية، فيما هو يتحول إلى ذراع أخرى تُستخدم لتقويض القيم التي أُنشئ من أجل حمايتها.
بين التراث والإنسان: الحاجة إلى رؤية شاملة
الحفاظ على التراث الثقافي لا يمكن فصله عن حماية الأرواح التي تُنتجه. البشر هم صانعو الحضارة، وغياب الحماية لهم يجعل أي جهود للحفاظ على التراث مجرد قشرة خاوية. استهداف مواقع مثل بعلبك وصور لا يهدف فقط إلى تدمير الحجر، بل إلى ضرب الروح الإنسانية التي تشكلت عبر قرون من التاريخ. المناشدات الدولية، رغم أهميتها، يجب أن تتحول إلى أدوات فعالة تحمي البشر قبل الحجر. هذه اللحظة الحرجة تتطلب رؤية جديدة تُعيد التفكير في أولويات الفكر الحضاري وتؤكد أن التراث الحقيقي يبدأ بحماية الإنسان.