لجريدة عمان:
2025-04-10@08:38:31 GMT

خمسة عوامل تؤثر في مستقبل مجتمعاتنا

تاريخ النشر: 26th, October 2024 GMT

عصب المجتمعات هو تحقيق النمو المتوازن، وهي الحالة التي تستطيع من خلالها السياسات الاجتماعية تحقيق أربعة معطيات أساسية: الأول تحقيق التوزيع العادل للموارد والثروة، والثاني: تحسين وتمكين الوصول العادل للخدمات الأساسية بكفاءة، والثالث: تحقيق الإدماج الاجتماعي الكامل والفعال، والرابع: جعل المجتمع مشاركًا فـي التنمية ومستفـيدًا منها على حد سواء.

هذه المعطيات هي مؤشرات النجاح فـي تقديرنا بالنسبة لأي سياسة اجتماعية تنشد أن ينمو المجتمع بطريقة متوازنة، وحياة المجتمعات فـي عمومها هي اختبار لكفاءة السياسات الاجتماعية، فعلى طول خط تنفـيذ وتحقيق السياسة الاجتماعية يظهر من العوارض ما يمكن أن يقوض كفاءة تلك السياسة، ويحيدها عن تحقيق أهدافها، وقد تكون تلك العوارض سياسية، وقد تكون مرتبطة برخاء المجتمع والدولة، وقد تكون تلك العوارض مرتبطة بالموارد وفعالية المؤسسات الاجتماعية أو مؤسسات الدولة القائمة على السياسة الاجتماعية. وفـي كل الأحوال يمكن القول: إن السياسة الاجتماعية الناجعة ترتكز على ثلاث خصائص أساسية: أولها الشمولية، حيث تغطي كافة أشكال القضية الاجتماعية، وثانيها: الخصوصية، حيث تتعامل مع المجتمع بخصوصية ثقافته وتاريخيته وأسباب نموه وتطوره ونشأته وخصوصية تكوينه، أما ثالث تلك الخصائص فهي التكاملية، حيث إن كافة السياسات العامة الأخرى تستوعب تلك السياسة الاجتماعية ولا تحيد عن مقاصدها، ولا تؤثر على مرتكزاتها، ولا تؤثر على ديمومتها.

اليوم تواجه السياسات الاجتماعية فـي العالم مآزق شتى، وهذه المآزق ناتجة عن حركة الدول والمجتمعات عمومًا، ومن تلك المآزق صراعها مع السياسة الاقتصادية، ومأزق التوزيع غير العادل للثروات، ومأزق تأثير الاتجاهات الثقافـية والإعلامية الناشئة على توجيه مقاصد السياسة الاجتماعية، كما تعيش مأزقًا نوعيًا منشأه تآكل دور المؤسسات الاجتماعية الفعال فـي تحقيق مقاصد السياسة الاجتماعية، وتعيش صراعًا حول دور المكونات الرئيسية للسياسة الاجتماعية وأثره فـي تمكينها وأهم تلك المكونات عنصر التعليم والتعلم والاكتساب، ومن المآزق التي تعيشها السياسات الاجتماعية اليوم هو عدم قدرتها على السيطرة على حاجيات الفئات الأكثر احتياجًا نتيجة توسع تلك الفئات بسبب عدم كفاءة السياسات الاقتصادية، ومن المآزق كذلك تحول السياسة الاجتماعية لمجرد (كارت) سياسي فـي أوقات الانتخابات والمناسبات السياسية دون وجود أجندة حقيقة تضطلع بتحقيق مقاصد تلك السياسة أو أجندتها.

على مستوى مجتمعاتنا يرتهن مستقبل السياسة الاجتماعية بكفاءة خمسة عوامل أساسية: التعليم ودوره فـي السياسة الاجتماعية، وكفاءة نظم الحماية والأمان الاجتماعية، وكفاءة النظم الثقافـية ودور المؤسسات الثقافـية، وتمكين وإدماج الشباب، ودور الاقتصاد فـي تحقيق مقاصد السياسة الاجتماعية. فإذا ما تناولنا التعليم اليوم كأحد هذه العوامل فإن الأدوار التي يلعبها التعليم فـي قلب السياسة الاجتماعية تتعدى كونه صانعًا للكفاءات المهنية وناقلًا للمعارف، فالتعليم أداة فاعلة لتقليل فجوات الدخل بين الأفراد والأسر، وهو ناقل للتركيبة الثقافـية للمجتمع بقيمها وعاداتها ومبادئها، وهو مساهم فـي تحسين قدرة الأفراد فـي الوصول لأدوات التنمية المختلفة، وعنصر رئيس فـي تحقيق الحد الأدنى من المستوى المعيشي اللائق للأفراد المتعلمين وأسرهم، و«تشير منظمة اليونسكو إلى أن كل سنة إضافـية فـي التعليم الثانوي يمكن» أن تزيد دخل الفرد بنسبة تتراوح بين 10% إلى 20% فـي بعض الدول النامية.

أما العامل الثاني وهو عامل كفاءة نظم الحماية والأمان الاجتماعية، فوجود منظومات كفؤة وعادلة للحماية الاجتماعية، وقادرة على استهداف دورة الحياة للفئات الأكثر احتياجًا، وموجهة بشكل واضح ومباشر للاستثمار المبكر فـي جودة الحياة والتقليل من مخاطر دورة الحياة يضمن أن يكون للمجتمع قاعدة مناسبة للحد من المخاطر الاجتماعية المحتملة، أو تأثير تلك المخاطر على السياسات العامة الأخرى، كما أن ما يصنعه المجتمع فـي حركته وتفاعل أفراده من نظم للأمان الاجتماعي والتكافل غير الرسمي يسند تلك القاعدة من ناحية، ويقوي البعد الرمزي فـي العلاقات والتفاعل الاجتماعي من ناحية أخرى. أما العامل الثالث والمرتبط بالنظم الثقافـية فـيؤثر بشكل كبير فـي ثلاث جوانب أساسية: كفاءة نقل القيم بوصفها ضابطًا لحركة المجتمع، والحد من تأثير الاتجاهات الثقافـية الناشئة على استقرار وحيوية المجتمع، وفتح مساحة للحوار الجاد والفاعل حول قضايا المجتمع. إن وجود نظم ومؤسسات ثقافـية فاعلة من شأنه الحفاظ على بعض مكونات النسيج الثقافـي للمجتمع، فـي وقت يتصاعد فـيه دور الفاعلين الثقافـيين غير الرسميين عبر الحدود، عبر نشر قيم واتجاهات جديدة وغمر المجتمعات بها دون مساءلة، وفقًا للدراسات والتحليلات التي تقدمها Gallup حول حالة القيم العالمية فإنها «تشير إلى أن المجتمعات التي تعاني من تغييرات سريعة فـي القيم والثقافات تكون أكثر عرضة للنزاعات الاجتماعية والسياسية».

أما تمكين وإدماج الشباب فـيعني صنع سياسات اجتماعية تتوافق مع اتجاهاتهم وتلبي تفضيلاتهم وتوقعاتهم وتتسق مع نموهم فـي قلب الهرم السكاني كوحدة ديموغرافـية وتنموية لها استحقاقاتها ومتطلباتها، فكلما كانت المجتمعات أكثر استيعابًا لفعل شبابها، وكلما كانت السياسات أكثر إدماجًا لمنظوراتهم ساهم ذلك فـي خلق نوع من الانسجام والتوازن الاجتماعي لكافة مكونات المجتمع. ويبقى العامل الأخير المتصل بدور الاقتصاد فـي تحقيق العدالة الاجتماعية، فاليوم لا يمكن بحال فصل السياسات الاقتصادية عن السياسات الاجتماعية، فكلما كانت السياسات الاقتصادية والتنموية موجهة لتعزيز الخدمات العامة، وتحقيق الاستثمار الأمثل فـي العنصر البشري، وإيصال التنمية مكانيًا وقطاعيًا بشكل عادل، وتحسين جودة الحياة ورفاه المجتمع كلما كان المجتمعات أكثر اتزانًا وكلما تقلصت الفوارق الاجتماعية التي يمكن أن تكون مصدرًا لعدم التوازن الاجتماعي. إن النظر إلى تلك العوامل يقتضي اليوم دراسات تقييمية وتفصيلية لقناعتنا بأن مستقبل مجتمعاتنا إنما مرهون بفعل تلك العوامل، وكلما كانت تلك العوامل تتحرك فـي إطار تكاملي كلما كان ذلك ضامنًا لنمو اجتماعي متوازن، ولمجتمعات مستقرة وعادلة.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عُمان

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: السیاسات الاجتماعیة السیاسة الاجتماعیة فـی تحقیق

إقرأ أيضاً:

عوامل الركود وموانع الانعتاق بين الماضي والحاضر

بقلم : أحمد عصيد

يخبرنا المؤرخون المختصون في الفترة الحديثة والقرن التاسع عشر على الخصوص، بأن خروج المغرب من التقليد إلى الدولة الحديثة كان مسلسلا عسيرا وبطيئا، ومليئا بالعقبات والصعوبات، وكان العامل الأكبر في ذلك هو الردّ على التحديات الخارجية بالانكفاء والانطواء على الذات، وتكريس العزلة التي تمنع البلد من الاستفادة من المؤثرات الخارجية، الثقافية ومنها والتقنية، حتى أن أحد المؤرخين أشار إلى أن فقهاء المغرب أفتوا بعدم جواز اقتناء المطبعة لأنها “حرام”، وعندما اقتناها أحد الأعيان الكبار وأهداها للسلطان أغلق عليها في مكان داخل القصر بسبب فتوى التحريم. كما يخبرنا مؤرخ آخر بأن فقهاء المغرب عندما استشارهم أحد السلاطين المغاربة عن مدى جواز مدّ السكك الحديدية واستعمال القطار أفتوا بحرمة ذلك وعدم جوازه دينيا لأنه سيؤدي إلى دخول الأجانب علينا واطلاعهم على أسرارنا. وهكذا تأخرت كل تلك المشاريع إلى أن جاءت فترة الاستعمار، فصارت عملية التحديث “قسرية” و”خارجانية”، أي مفروضة من الخارج، عوض أن تكون مسلسلا تطوريا طبيعيا باختيار ذاتي وقناعة وطنية.

ولعل هذا الانكماش على الذات أمام التحديات الخارجية هو الذي أدّى إلى ضياع عقود طويلة دون أن يحدث فيها أي تغيير في بنيات الدولة وفي العلاقات الاجتماعية التي ظلت راكدة، وفي الفكر الذي ظل يجترّ نفس المتون والحواشي القديمة. ومن أهم المؤشرات لذلك الانغلاق نبذ الطلبة الذين كانوا يتلقون تكوينا في العلوم الحديثة في أوروبا، حيث كان أبناء بعض العائلات الأرستقراطية ينجحون في الخروج من البلد وتعلم مبادئ العلوم الحديثة، لكنهم كانوا عند عودتهم يصطدمون بقوى التقليد التي كانت تدفع بهم نحو العزلة أو العودة إلى أوروبا.

وكان لهذا أثر بالغ السلبية في تأخير مسلسل التحديث الفكري والعلمي بسبب اعتبار الحداثة كلها “نبتة غريبة” عن التربة المحلية طوال عقود القرن العشرين، وحتى بعد الاستقلال السياسي من الوصاية الخارجية، حيث حصل النكوص الكبير مع المدّ الديني “الإخواني” و”السلفي” الذي وجد فيه الناس عزاء نفسيا عن التأخر، وجوابا عن التحدي الغربي في دول ما بعد الاستقلال، خاصة وأن هذه الإيديولوجيات الدينية المتشدّدة اعتمدت خطاب العودة إلى الذات بشكل منحرف عبر النكوص نحو الماضي، معتقدة أن تلك هي العملية الضرورية للتقدم. والحال أن الماضي الذي كانت تتم العودة إليه صار ـ بسبب الانقطاع التاريخي الطويل ـ بعيدا زمنيا بما يكفي لجعل فكرة العودة هذه عملية بدون جدوى، خاصة وأن التحولات المجتمعية الجديدة التي اخترقت كل مناحي الحياة وكذا مؤسسات الدولة الحديثة، جعلت من واقع المغرب مجالا لا يستجيب لفكرة العودة الماضوية، التي سرعان ما تحولت إلى خطاب بدون محتوى، إذ لم تعُد تتعدى مستوى الاستقطاب الإيديولوجي والعزاء النفسي والتخدير الجماعي.

ولعل أهم درس تعلمه المغاربة من كل نكسات القرن العشرين، هو أن البلدان التي تظل مشدودة إلى ماضيها، لا تجد طريقها نحو المستقبل، ولكن في نفس الوقت، أن البلدان التي تتنكر لإيجابيات ماضيها التاريخي عبر قطيعة نهائية لا تستطيع إثبات ذاتها أمام الغير، لأن التاريخ لا ينفصل عن الهوية التي هي صيرورة تتشكل في التاريخ. وهذا معناه أن المعادلة الصعبة للحداثة والتحديث إنما تتمثل في القدرة على معرفة الماضي معرفة نقدية وتملكه عوض العودة إليه والانخراط الذهني فيه. ومن هنا خطأ الفكرة القائلة بأن إعادة إنتاج الماضي يؤدي إلى تحقيق التفوق الحضاري، حيث أن الشعوب الراقية أثبتت بأنّ قراءة ماضيها كانت فرصة للاستفادة من أخطائها، من أجل تفاديها لا إعادة إنتاجها.

إن الذين يملكون ماضيهم عبر استيعابه ونقده سرعان ما يتجاوزونه نحو آفاق أكثر رحابة، أما الذين يملكهم ماضيهم ويُهيمن عليهم فلن يجدوا أبدا طريقهم نحو المستقبل، لأنهم يعتقدون أن الأهم بقي وراء ظهورهم.

ومن هذا المنطلق صار من البديهي أنّ كل فكر لم يعُد يفسر الظواهر الجديدة ويُجيب على أسئلة المرحلة الراهنة، يُعدّ فكرا متجاوزا، ولا يمكن الحفاظ عليه لا منهجيا ولا حتى معجميا.

وقد تبين منذ عقود بأنّ ثمة قاعدتان تجعلان بلدان منطقتنا ملزمة بإعادة النظر في وجودها: 1) أن منظومة الفكر الموروث في أزمة بسبب عدم تلاؤمها مع واقع الدولة الحديثة.

2) أن هذه المنظومة متأزمة بسبب منطقها الداخلي، ما يقتضي إما إلغاؤها التام أو إبداع منطق جديد لها.

مقالات مشابهة

  • معلومات الوزراء يستعرض أهمية الاستثمار في تعليم الفتيات لتحقيق النمو المستدام
  • الاحتفال بإطلاق السياسة الصحية الوطنية لسلطنة عُمان ضمن جهود تحقيق "رؤية 2040"
  • "القومي للمرأة" يصدر تقريرًا حول صورة النساء في الدراما الرمضانية.. زيادة ملحوظة بمشاهد العنف وصلت لـ 633 مشهدًا.. وأستاذ علم اجتماع: الأعمال تؤثر سلبًا على المجتمع
  • عوامل الركود وموانع الانعتاق بين الماضي والحاضر
  • غدا.. تدشين السياسة الصحية الوطنية في سلطنة عمان
  • وزيرة البيئة: مشاركة الشباب في وضع وتنفيذ السياسات المناخية ضرورة لتحقيق الاستدامة
  • وزير الإسكان يُتابع معدلات تسويق عدد من مشروعات هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة
  • شباب ليبيا يبحثون مع البعثة الأممية كيفية «الحد من العنف داخل المجتمعات»
  • توتر بين ترامب وماسك على خلفية السياسات التجارية وتحذيرات من أزمة عالمية
  • عوامل خفية وراء تراجع الخصوبة حول العالم