تغير مجتمعنا كثيرا فـي العقود الثلاثة الأخيرة، وهو تغير لا نستطيع أن نصفه بالسلبي دون دراسة حقيقية لمساراته وأسبابها الداخلية والخارجية وحجم التأثير القادم من تحولات العالم وطفراته التكنولوجية والمعلوماتية ومسارات العولمة التي وصلت إلى عمق قرانا المتوارية تحت سفوح الجبال الشاهقة.. لكن التغير، على أية حال، أثر كثيرا فـي بنية المجتمع وتفاعله اليومي مع الأحداث وأثر على بعض العادات والتقاليد، وكاد أن يمس ببعض القيم والمبادئ أو مس بعضها بالفعل.

لم تعد القرى العمانية تضج بالحياة التي كنا نعرفها حتى تسعينيات القرن الماضي، خفت ذلك التفاعل الاجتماعي الذي كان يبنينا فـي جوهرنا ويزيد من صلابة المجتمع وقوته ومنعته دون أن نشعر فـي غمرة الفعل البنائي والتطوري.

ومن بين أهم أسباب ذلك الخفوت أو البطء فـي التفاعل الاجتماعي/ الحياتي اليومي ما يمكن أن نسميه، تجاوزا، «الهجرة الداخلية» التي شهدتها الكثير من القرى العمانية للعاصمة بحثا عن الوظائف والعمل وطلبا للرزق. اجتذبت العاصمة مسقط العدد الأكبر من السكان بسبب تمركز الوظائف فـيها سواء الوظائف الحكومية أم وظائف القطاع الخاص أو حتى بسبب تمركز أكثر المؤسسات الجامعية فـيها وكذلك مركزية المؤسسات الثقافـية والترفـيهية. وإذا كانت العاصمة قد اجتذبت العدد الأكبر فإنها، أيضا، اجتذبت خلال ذلك النخب، مثقفـين وسياسيين ودبلوماسيين وإعلاميين واقتصاديين ومؤثرين اجتماعيين وأطباء.. إلخ. وتكاد القرى العمانية البعيدة عن محافظة مسقط تكون شبه خالية من مساء السبت وحتى مساء الخميس إلا من القلة القليلة من السكان، وخالية تماما تقريبا من التفاعل الحياتي. يوم الجمعة يكون، عادة، اليوم الوحيد الذي تستعيد فـيه القرى بعض نشاطها رغم أن الكثير من الأسر مع تعقد حركتها وارتباطها بالمكان لا تستطيع العودة إلى القرية بشكل أسبوعي. على المستوى الشخصي كنت أذهب إلى «البلاد» أسبوعيا ثم تحول الأمر نتيجة لظروف الأسرة وتعقيدات العمل الوظيفـي إلى الذهاب مرة كل أسبوعين أو مرة كل ثلاثة أسابيع، وهذا شأن الكثيرين الذين تتباعد فترات عودتهم إلى قراهم مع تعقد وضعهم الأسري والوظيفـي.

وهذا الأمر يحتاج إلى دراسة اجتماعية واقتصادية، أيضا، لفهم تأثيراته فـي الولايات وفـي القرى من الناحية الاجتماعية والاقتصادية وكذلك من ناحية البناء الحضاري العميق للمجتمع على المدى البعيد. فالمجتمع لا ينمو من تلقاء نفسه، إنما بناء الوعي فـيه هو الذي يجعله مجتمعا حيا وقادرا على النمو، وهذا الوعي يحتاج إلى عمل كبير من بينه الاجتماع والتفاعل البشري حتى يستطيع الوعي أن يطور المجتمع وينهض به. والحياة فـي العواصم، كل العواصم تقريبا، تختلف تماما عن الحياة فـي القرى التي تقوم على فكرة التفاعل الاجتماعي اليومي عكس المدن التي يذهب سكانها نحو الانكفاء الذاتي وهذا مفهوم نتيجة تعدد الأماكن التي أتى منها سكان العاصمة. وهذا لا ينطبق على السكان الأصليين للعاصمة الذين يستوطنون فـي الغالب القرى القديمة وليست المخططات السكانية الحديثة فـي العاصمة.

وفـي ظل توجه سلطنة عمان بفضل الفكر الجديد لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- لإرساء سياسة اللامركزية فـي البناء الإداري للدولة يمكن ضمن هذا الإطار العمل بشكل مدروس على تفكيك مركزية الموظفـين ذكورا وإناثا فـي العاصمة مسقط، وإعادة الكثرة الكاثرة منهم إلى المحافظات، والولايات وبالتالي إلى القرى حتى تستعيد القرى حيويتها ودورها فـي البناء الاجتماعي وتكريس القيم والمبادئ. ورغم أهمية الجانب الاجتماعي والبناء الحضاري فـي الفكرة إلا أن لها جوانب إدارية وثقافـية مهمة أيضا؛ فالمحافظات التي أعطيت صلاحيات جديدة تحتاج إلى موظفـين من أصحاب الكفاءات العالية التي تستأثر بهم المراكز فـي الغالب، كما تحتاج إلى أصحاب الفكر وإلى المثقفـين الذين يمكن أن ينشطوا العمل الثقافـي فـي المحافظات ويثروا الأنشطة وإلى المبدعين فـي مختلف المجالات. وهذا الطرح لا يستنقص من أحد أبدا، فأنا أتحدث عن الكثرة وليس عن الاستثناءات الموجودة فـي كل مكان. وهذا الأمر من شأنه أن يحدث تأثيرا عميقا على كل الأصعدة. وفـي ظل توفر وسائل التكنولوجيا الحديثة وما صاحبها من ثورة معلومات فإن الأمر يبدو أسهل للتطبيق مما كان عليه الأمر قبل عقد أو عقدين من الزمن. فمكتب الموظف فـي الكثير من الوظائف لم يعد تلك الغرفة المغلقة المحددة بجدران وموقع جغرافـي، يمكن الآن أن يكون مكتب الموظف فـي أي مكان يؤدي منه عمله كما لو كان فـي ديوان عام الوزارة. وأعرف أن وزارة الإعلام تطبق، فـي بعض مديرياتها، شيئا من هذا بشكل ناجح جدا. وهناك الآن توجه عالمي نحو العمل «عن بعد» وهذا النوع من العمل لا يعترف أصلا بفكرة أن المؤسسة هي فـي الأساس «مبنى» إنه يتجاوز هذا الأمر لتتحول المؤسسة إلى عمل وإنتاج بغض النظر عن المكان. هذا الأمر قادم لا مفر منه ولكن نحتاج إلى قوانين وأنظمة تضبطه وتحكمه حتى لا يتحول إلى مسار للتسيب.

إن الفكرة الأساسية التي أود طرحها تكمن فـي إعادة الحياة بشكل يومي إلى القرى العمانية حتى يعود إليها ذلك التفاعل الاجتماعي بمعناه العميق الذي ساهم عبر التاريخ فـي إنتاج القيم والمبادئ وتكريسها وفـي تربية أجيال هي امتداد لمن سبقها ليس بالمعنى البيولوجي ولكن بالمعنى الحضاري والأخلاقي.

عاصم الشيدي كاتب ورئيس تحرير جريدة «عمان»

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التفاعل الاجتماعی هذا الأمر

إقرأ أيضاً:

هدايا تقدمها السفن لشط العرب

بقلم: كمال فتاح حيدر ..

حمل لنا شط العرب شحنات هائلة من الهدايا والعطايا والهبات بكميات ربما لا يعرفها عامة الناس، لكنها معروفة ومألوفة في عموم القرى الساحلية أو الواقعة على ضفاف الانهار. .
بداية نذكر ان طول مجرى شط العرب من جزيرة السندباد إلى رأس البيشة يزيد على 100 كيلومترا، وفي هذا المجرى الطويل ثلاثة موانئ عراقية وثلاثة إيرانية. كانت تتعامل كلها مع شتى أنواع السفن التجارية. ولهذه السفن عادات تشبه الطقوس الموسمية. فالسفن المشحونة بصناديق الموز والبرتقال والتفاح ما ان تغادر موانئ شط العرب نحو البحر حتى تبدأ برمي صناديق الفاكهة، فتنطلق القوارب المحلية من الجهتين (العراقية والإيرانية) وتتسابق في التقاط العدد الأكبر من صناديق الموز. .
اذكر أيضاً ان لجان فحص المنتجات الغذائية رفضت بضاعة سفينة كانت محملة بالبرتقال، ولما أرغموها على مغادرة الميناء نحو البحر قرر ربانها رمي الصناديق كلها في مجرى شط العرب، فاستيقظ الناس صباح اليوم التالي ليجدوا مياه النهر وجداوله ممتلئة بالبرتقال الذي غطى مسطحات واسعة من المنطقة المحصورة بين (الفداغية) و (الفاو) في يوم امتلأت فيه البيوت والسواقي بسلال البرتقال. آخذين بعين الاعتبار أن البرتقال لا يغرق لأن قشرته مليئة بجيوب الهواء الصغيرة التي تساعد على إعطائه كثافة أقل من الماء. .
احيانا تلجأ السفن المغادرة إلى رمي كميات كبيرة من الألواح الخشبية المخصصة للعزل والتستيف، فتهرع القوارب من الضفتين لالتقاط الألواح الخشبية اللازمة لتسييج البساتين. .
واحيانا يدرك ربان السفينة حاجة القرى فيرمي لهم اعداداً من البراميل المغلقة (الفارغة) او الحاويات المطاطية المغلقة. فيلتقطها ابناء القرى القريبة. يستخدمونها لحفظ المياه او لتخزين المنتجات النفطية. .
لكل سفينة فائض من المواد والبضاعة التالفة، لكنها تمثل ثروة للفقراء. فيجود عليهم ربابنة السفن، واحيانا يتعمدون تخفيف سرعة السفينة لكي يوفروا الجهد، ويمنحوا ابناء القرى فرصة الاستحواذ على المواد المفيدة. .
احياناً تضطر السفن إلى الانتظار فترمي مخطافها في (الصنگر) أو (الزيادية)، أو (سيحان) أو (المعامر) فيتجمع القرويون حولها بقواربهم الصغيرة، وهنا تبدأ المقايضة وتبادل المواد. منتجات زراعية أو حيوانية مقابل كميات من الشاي أو السكر او المعلبات أو السجائر الإفرنجية. .
لكن هذه المظاهر اختفت وانحسرت، لم يعد لها أي أثر بسبب توقف الملاحة في امتداد هذا المجرى الملاحي الحيوي. .

د. كمال فتاح حيدر

مقالات مشابهة

  • هدايا تقدمها السفن لشط العرب
  • "الموارد البشرية": 30 يومًا حد أقصى لإبلاغ المتقدمين بنتائج المقابلات الوظيفية
  • عاجل - "الموارد البشرية": 30 يومًا حد أقصى لإبلاغ المتقدمين بنتائج المقابلات الوظيفية
  • تعرّف على أبرز ضوابط الإعلان عن الشواغر وإجراء المقابلات الوظيفية
  • الدبلوماسية العمانية والمفاوضات النووية
  • سوناطراك تناقش تعزيز القدرات الإنتاجية للشركة العمانية الجزائرية للأسمدة
  • استعراض الفرص الوظيفية في الظاهرة وحلول تحديات قطاع العمل
  • البنك الوطني الجزائري يرفع رأسماله الاجتماعي ب100 بالمائة
  • قرارات جديدة للاعتراف بمؤسسات التعليم العالي غير العمانية ومعادلة المؤهلات
  • الفنان القحوم يعبر عن سعادته بعد حفلتين ناجحتين في دار الأوبرا العمانية