نخطئ كثيراً عندما يقتصر فهمنا للواقع الاجتماعي مجزأً ودون علاقات بينية، ولعل أولى دروس الوعي هي أنه لا يوجد مجتمع بدون سياق، والمجتمع الإنساني هو في الحقيقة مجتمعات، فضاء واسع من الناس، نعم يشتركون في كونهم ينتمون إلى الكوكب ذاته، لكنهم يعبرون عن حقيقة تعدد هذا الوجود، ومن هنا تنبع أهمية محاكمة اللغة قبل الفعل في السياق الاجتماعي الراهن، والذي تعيش فيه أمم وقوميات مختلفة بل ومتباينة لكنها أُخضعت لتركيب مُخل جعلها تنتظم في مقولة، هي الأكبر زيفاً، مقولة: "المجتمع الدولي"، حيث يراد أن نصدق بأننا متساوون في الحق والواجب كنا أصغر أو أكبر، لكننا في الحقيقة خانة مسددة بالملأ لا الفاعلية، ولا نملك الحق في تغيير موقعنا.

إن التناقض واقع في عبارة "المجتمع الدولي" إذ أنه وبالضرورة أن العالم يتكون من دول وقوميات وهو حالة من تنوع مثير لا يصح القول بدمجه هكذا "مجتمع" و "دولي" قفزاً على هذه الحقائق البدهية التي تشير إلى عالم واسع؛ واسع في تكوينه الإثني والثقافي والهوياتي، وبطبيعة الحال السياسي، لكن عبارة "المجتمع الدولي" بتناقضها الصارخ تم تعميمها بالصورة التي اندرجت في الذهن ولم يعد بالإمكان مساءلتها على ضوء قانون التناقض. وأكبر مظاهر هذا التناقض لا يتعلق باللغة فقط، بل هو إلزامنا أن نضع مصالحنا وكل مدخراتنا من الوعي في أيدي المجتمع الأم (=المجتمع الدولي) أي أن نتنازل عن أية خصوصية نملكها، أن نُختَزل في العالم، أن ينبع ولاؤنا ليس من حقنا أو لنقل حقوقنا السياسية والاقتصادية، أن ينبع من فقداننا عقدنا الاجتماعي الخاص والمعبر عن حقيقتنا، وأن نُسلم بكل ما يقول هذا المجتمع المصنوع بعناية القوة لا بحق الإرادة. فإذا قال "المجتمع الدولي" أن القوة فوق الحق، سلمنا بذلك ولو تخرَّبت منظومتنا القيمية، وتفككت عقيدتنا الاجتماعية، بل لو دفعنا دماؤنا مقابل خطله هذا، وهنا لا يحق أن نشتكي من ظلم الأقوياء طالما أننا أعضاء في جمعية لا تعترف بحقنا في الاختلاف، فقط لأن أعلامنا وُضِعت على سارية الأمم المتحدة حيث يُفرض علينا التصفيق الملقن، ومن فرط إنسانية هذا المجتمع الدولي أنه منحنا حق الشكوى التي لا تصبح سارية المفعول إلا إذ أخضعت لمعايير ليست لنا، معايير مخاتلة لا تستقر إلا في الهاوية، فإذا أهينت الإنسانية وسحقت الطفولة في غزة فإن الأمر لا يعدو أثر جانبي لمقولات القوة والعنف المحروس بالقانون الدولي، وهنا لا تحدثني عن إدانة المجرم، فتعريف الجريمة قد تم تمييعه منذ أن أُغلق الباب أمام الخصوصية الثقافية، واستبدلت الحقوق الثقافية بمفهومي "العولمة" و"الفضاء الإنساني".

إن المجتمع بطبيعته يتشكل مستقلاً حتى عن إرادة أعضائه، يتشكل دون مشاركتهم المعلنة، وفي أي مجموعة بشرية يعتبر المعتقد الثقافي (الديني والسلوكي والأخلاقي) فيها هو المؤثر الأكبر على هوية الأفراد وتماسكهم، إن هذا هو ما نتعلمه من دروس الاجتماع الإنساني فحتى المجموعات التاريخية، أو مجتمعات الأقليات، أو المجتمعات القائمة على مشترك طائفي أو عقدي، فإنها تقف بقوة ضد فرضية وجود مجتمع عالمي، أو دولي يراد به أن يكون التعبير عن الإنسان في أي مكان من هذا الكوكب، وليس من كذبة أكبر من هذا الإدعاء، فلم يعرف التاريخ البشري قفزاً على حقائقه مثل الذي يجري اليوم، ولذا فإن ما يصيبنا نحن العرب من مأسي، بالذات في قضيتنا الأم "فلسطين" هو نتاج طبيعي للتخريب الذي يعيشه العالم جراء القولبة المعبر عنها بكونية القيم، وإنسانية المفاهيم...إلخ، هكذا دون أدنى اعتبار للحقائق الاجتماعية التي تشير إلى حق الجميع في الاختلاف مع إمكانية الشراكة، لكنها شراكة الأنداد، لا الأضداد.

إن السجال مستمر حول طبيعة المجتمع، وموقع الأفراد فيه، ففي الوقت الذي لا تزال إطروحة إيميل دوركايم Émile Durkheim حاضرة حول طبيعة الارتباط داخل المجتمع، وهي عنده ذات طابع "ميكانيكي" وهذا يشير إلى غياب أية سانحة لاستقلالية الأفراد، إذ يتم تحديد هوية أعضاء أي جمعية بشكل مثالي (=مفرط التحديد) من خلال العضوية والانتظام فقط، وليس طبيعة وشكل هذه العضوية. وفي مواجهة طرح دوركايم وهو الذي تقوم عليه الآن مؤسسات المجتمع الدولي، فإن العقيدة السياسية في "المجتمع الدولي" القول بالرابط الادماجي بين الأفراد، والحكم على الاختلاف بالموت طالما أن عضوية الفرد تتأسس داخل المجموعة وليس خارجها، تتأسس بموقعه في المجموعة لا على هويته الخاصة، بل تقوم وتنشأ بمجرد وجوده داخلها، فهذا يعني أن كل أزمات العالم العربي لن تجد أدنى استجابة طالما أننا فاقدو الأهلية ومنتسبون إلى عالم لا يعترف بنا إلا جملة اعتراضية في السياق.

الحقيقة أن علم الاجتماع رمى بهذه الأطروحة في الخلفية، وبات يشدد على ضرورة الارتباط العضوي بين أفراد أي مجموعة، فإذا كان دوركايم انتهى إلى القول بميكانيكية الارتباط بين الأفراد بصورة تجريدية مطلقة، فعل ذلك اعتماداً على وجود التشابه بين الأفراد، لكن اطروحة التضامن كأساس تعترف بالتنوع داخل المجموعة، التنوع الذي يمنح الحق في الاختلاف، لا القول بأن الأفراد (=الدول في النظام الدولي) مجرد "علامات" يتم تعريفها على أساس ترابطي غير جدلي، وهذا ما يجعل المؤسسات الدولية مجرد واجهات يستثمر فيها الأقوى؛ الأقوى معرفياً ومادياً، وليس للضعفاء إلا الشكوى والمظلومية.

وهنا فإنه من الضرورة إعادة النظر في مفهوم "المجتمع الدولي" والبحث في كيفية استخدام هذا المصطلح والعمل على تطوير سياسات ثقافية محلية لمواجهة وفضح هذا المفهوم عبر إعادة بناء الجبهات الداخلية، لكنها ليست تلك التي تكتفي بالتظاهر وحمل اللافتات، بل عبر مواجهة الطرح العالمي في قضية تعريف الجريمة، وأسس العدالة، والحق الثقافي، وحق الشعوب المضطهدة في الثورة على مفاهيم السوق، وهذا كفيل بمواجهة أكبر أزمات الراهن السياسي، وهي "أزمة الأنظمة التمثيلية"، والإشارة هنا إلى المؤسسات الدولية التي ودون قيود تضع لنا تعريفها للحق والخير المشترك، إننا نملك الحق في الاختلاف، نملك أن نُعَري المفاهيم المؤذية للإنسانية ونستبدلها بالحقيقة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: المجتمع الدولی فی الاختلاف

إقرأ أيضاً:

عمرو سعد: أرفض مصطلح الأخلاقية في مشاهدة الأفلام

أقيمت منذ قليل ندوة للفنان عمرو سعد، ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الـ45, والتي من المقرر أن تستمر حتى 22 نوفمبر الجاري، ويدير الجلسة الناقد رامي عبد الرازق، يقدم عمرو من خلالها شهادة حول مسيرته المهنية المليئة بالعديد من الأعمال الفنية وإنجازاته وتأثيره على الصناعة.
 

عمرو سعدعمرو سعد يرفض مصطلح الأخلاقية

رفض الفنان عمرو سعد مصطلح الأخلاقية في مشاهدة الأفلام، وتقيم الفيلم على انه جيد أو لا فليس هناك عمل سيء وليس هناك أشخاص بذلوا مجهود على عمل فني ويقال أنه غير أخلاقي ويشجع على العنف والبلطجة.
 

قال عمرو سعد :"مشاهدة الفيلم على أنه اخلاقي مرفوض، بلاش ننتقد ناس عباقرة وعملوا عمل حلو، صناعة فيلم هي بمثابة صراع بين الخير والشر، أي فيلم على أرض غير بلدك وبيتكلم اللهجة المصرية هو شرف وسياحة لبلدك مش بلطجة".

عمرو سعدعمرو سعد: الثقة بالنفس هي مفتاح الوصول للأهداف

كشف الفنان عمرو سعد خلال مستر كلاس بمهرجان القاهرة، أن الثقة بالنفس مثل بطارية الهاتف يجب أن تكون مشحونة دائمًا، وأي شخص يواجه صعوبات في الحياة ولكن القدرة على التحمل والثقة في قدراتك ستوصلك لهدفك.

 

وأوضح عمرو سعد، أن هناك العديد من النجوم عمالقة ولكن ثقته في نفسه دائمًا مشحونة، وكان لدي هدف لابد من تحقيقه، موجهاً نصيحة للجمهور "لازم يكون عندك شغف وثقة في النفس على تحمل الصعوبات، قدراتك هي الجسر اللي هيوصلك لهدفك مفيش حاجة اسمها الزمن هدني انت اللي تهد الدنيا مش الزمن".

عمرو سعد فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي

فعاليات أيام القاهرة لصناعة السينما (CID)، والتي تقام في الفترة من 15 إلى 20 نوفمبر 2024، تمثل منصة حيوية تهدف إلى دعم وتعزيز مشروعات السينما، وتقديم فرص نادرة للتفاعل بين صناع الأفلام من جميع أنحاء العالم، وتشهد هذه الفعالية مشاركة من مخرجين، منتجين، وخبراء في مختلف جوانب الصناعة السينمائية، يجتمعون لاستكشاف أحدث الاتجاهات وتبادل الأفكار والتجارب.

 

تتضمن فعاليات أيام القاهرة لصناعة السينما ورش عمل وجلسات حوارية ونقاشات تتناول تحديات واحتياجات السوق، مما يعزز من فرصة المساهمة في نمو وتطوير مشاريع سينمائية جديدة ويُعيد تأكيد مكانة مصر كمركز إقليمي للإبداع السينمائي.

مقالات مشابهة

  • كيف أثر نجيب محفوظ على مشوار عمرو سعد الفني؟
  • بوتين:لنا الحق بضرب الدول التي تستخدم كييف أسلحتها لمهاجمتنا
  • ما الذي يعنيه قرار الجنائية الدولية ضد نتنياهو؟ وما القادم؟
  • عمرو سعد: أرفض مصطلح الأخلاقية في مشاهدة الأفلام
  • الصفدي: المجتمع الدولي فشل في وقف العدوان على غزة
  • عضو بـ«النواب»: مبادرة بداية خطوة استراتيجية لتعزيز التنمية الشاملة في المجتمع
  • الحرب في السودان: تعزيز فرص الحل السياسي في ظل فشل المجتمع الدولي
  • "التعاون الإسلامي": "الفيتو" الأمريكي يشكّل تحديا لإرادة المجتمع الدولي وإمعانا في حماية الاحتلال
  • محمود الهواري: التدين الحق هو الإصلاح وعمارة الأرض وليس الصلاة في المسجد فقط
  • ملك الأردن يدعو المجتمع الدولي لتعزيز الاستجابة الإنسانية في غزة