جرائم المحتل «العادلة» في زيف مصطلح «المجتمع الدولي»
تاريخ النشر: 26th, October 2024 GMT
نخطئ كثيراً عندما يقتصر فهمنا للواقع الاجتماعي مجزأً ودون علاقات بينية، ولعل أولى دروس الوعي هي أنه لا يوجد مجتمع بدون سياق، والمجتمع الإنساني هو في الحقيقة مجتمعات، فضاء واسع من الناس، نعم يشتركون في كونهم ينتمون إلى الكوكب ذاته، لكنهم يعبرون عن حقيقة تعدد هذا الوجود، ومن هنا تنبع أهمية محاكمة اللغة قبل الفعل في السياق الاجتماعي الراهن، والذي تعيش فيه أمم وقوميات مختلفة بل ومتباينة لكنها أُخضعت لتركيب مُخل جعلها تنتظم في مقولة، هي الأكبر زيفاً، مقولة: "المجتمع الدولي"، حيث يراد أن نصدق بأننا متساوون في الحق والواجب كنا أصغر أو أكبر، لكننا في الحقيقة خانة مسددة بالملأ لا الفاعلية، ولا نملك الحق في تغيير موقعنا.
إن التناقض واقع في عبارة "المجتمع الدولي" إذ أنه وبالضرورة أن العالم يتكون من دول وقوميات وهو حالة من تنوع مثير لا يصح القول بدمجه هكذا "مجتمع" و "دولي" قفزاً على هذه الحقائق البدهية التي تشير إلى عالم واسع؛ واسع في تكوينه الإثني والثقافي والهوياتي، وبطبيعة الحال السياسي، لكن عبارة "المجتمع الدولي" بتناقضها الصارخ تم تعميمها بالصورة التي اندرجت في الذهن ولم يعد بالإمكان مساءلتها على ضوء قانون التناقض. وأكبر مظاهر هذا التناقض لا يتعلق باللغة فقط، بل هو إلزامنا أن نضع مصالحنا وكل مدخراتنا من الوعي في أيدي المجتمع الأم (=المجتمع الدولي) أي أن نتنازل عن أية خصوصية نملكها، أن نُختَزل في العالم، أن ينبع ولاؤنا ليس من حقنا أو لنقل حقوقنا السياسية والاقتصادية، أن ينبع من فقداننا عقدنا الاجتماعي الخاص والمعبر عن حقيقتنا، وأن نُسلم بكل ما يقول هذا المجتمع المصنوع بعناية القوة لا بحق الإرادة. فإذا قال "المجتمع الدولي" أن القوة فوق الحق، سلمنا بذلك ولو تخرَّبت منظومتنا القيمية، وتفككت عقيدتنا الاجتماعية، بل لو دفعنا دماؤنا مقابل خطله هذا، وهنا لا يحق أن نشتكي من ظلم الأقوياء طالما أننا أعضاء في جمعية لا تعترف بحقنا في الاختلاف، فقط لأن أعلامنا وُضِعت على سارية الأمم المتحدة حيث يُفرض علينا التصفيق الملقن، ومن فرط إنسانية هذا المجتمع الدولي أنه منحنا حق الشكوى التي لا تصبح سارية المفعول إلا إذ أخضعت لمعايير ليست لنا، معايير مخاتلة لا تستقر إلا في الهاوية، فإذا أهينت الإنسانية وسحقت الطفولة في غزة فإن الأمر لا يعدو أثر جانبي لمقولات القوة والعنف المحروس بالقانون الدولي، وهنا لا تحدثني عن إدانة المجرم، فتعريف الجريمة قد تم تمييعه منذ أن أُغلق الباب أمام الخصوصية الثقافية، واستبدلت الحقوق الثقافية بمفهومي "العولمة" و"الفضاء الإنساني".
إن المجتمع بطبيعته يتشكل مستقلاً حتى عن إرادة أعضائه، يتشكل دون مشاركتهم المعلنة، وفي أي مجموعة بشرية يعتبر المعتقد الثقافي (الديني والسلوكي والأخلاقي) فيها هو المؤثر الأكبر على هوية الأفراد وتماسكهم، إن هذا هو ما نتعلمه من دروس الاجتماع الإنساني فحتى المجموعات التاريخية، أو مجتمعات الأقليات، أو المجتمعات القائمة على مشترك طائفي أو عقدي، فإنها تقف بقوة ضد فرضية وجود مجتمع عالمي، أو دولي يراد به أن يكون التعبير عن الإنسان في أي مكان من هذا الكوكب، وليس من كذبة أكبر من هذا الإدعاء، فلم يعرف التاريخ البشري قفزاً على حقائقه مثل الذي يجري اليوم، ولذا فإن ما يصيبنا نحن العرب من مأسي، بالذات في قضيتنا الأم "فلسطين" هو نتاج طبيعي للتخريب الذي يعيشه العالم جراء القولبة المعبر عنها بكونية القيم، وإنسانية المفاهيم...إلخ، هكذا دون أدنى اعتبار للحقائق الاجتماعية التي تشير إلى حق الجميع في الاختلاف مع إمكانية الشراكة، لكنها شراكة الأنداد، لا الأضداد.
إن السجال مستمر حول طبيعة المجتمع، وموقع الأفراد فيه، ففي الوقت الذي لا تزال إطروحة إيميل دوركايم Émile Durkheim حاضرة حول طبيعة الارتباط داخل المجتمع، وهي عنده ذات طابع "ميكانيكي" وهذا يشير إلى غياب أية سانحة لاستقلالية الأفراد، إذ يتم تحديد هوية أعضاء أي جمعية بشكل مثالي (=مفرط التحديد) من خلال العضوية والانتظام فقط، وليس طبيعة وشكل هذه العضوية. وفي مواجهة طرح دوركايم وهو الذي تقوم عليه الآن مؤسسات المجتمع الدولي، فإن العقيدة السياسية في "المجتمع الدولي" القول بالرابط الادماجي بين الأفراد، والحكم على الاختلاف بالموت طالما أن عضوية الفرد تتأسس داخل المجموعة وليس خارجها، تتأسس بموقعه في المجموعة لا على هويته الخاصة، بل تقوم وتنشأ بمجرد وجوده داخلها، فهذا يعني أن كل أزمات العالم العربي لن تجد أدنى استجابة طالما أننا فاقدو الأهلية ومنتسبون إلى عالم لا يعترف بنا إلا جملة اعتراضية في السياق.
الحقيقة أن علم الاجتماع رمى بهذه الأطروحة في الخلفية، وبات يشدد على ضرورة الارتباط العضوي بين أفراد أي مجموعة، فإذا كان دوركايم انتهى إلى القول بميكانيكية الارتباط بين الأفراد بصورة تجريدية مطلقة، فعل ذلك اعتماداً على وجود التشابه بين الأفراد، لكن اطروحة التضامن كأساس تعترف بالتنوع داخل المجموعة، التنوع الذي يمنح الحق في الاختلاف، لا القول بأن الأفراد (=الدول في النظام الدولي) مجرد "علامات" يتم تعريفها على أساس ترابطي غير جدلي، وهذا ما يجعل المؤسسات الدولية مجرد واجهات يستثمر فيها الأقوى؛ الأقوى معرفياً ومادياً، وليس للضعفاء إلا الشكوى والمظلومية.
وهنا فإنه من الضرورة إعادة النظر في مفهوم "المجتمع الدولي" والبحث في كيفية استخدام هذا المصطلح والعمل على تطوير سياسات ثقافية محلية لمواجهة وفضح هذا المفهوم عبر إعادة بناء الجبهات الداخلية، لكنها ليست تلك التي تكتفي بالتظاهر وحمل اللافتات، بل عبر مواجهة الطرح العالمي في قضية تعريف الجريمة، وأسس العدالة، والحق الثقافي، وحق الشعوب المضطهدة في الثورة على مفاهيم السوق، وهذا كفيل بمواجهة أكبر أزمات الراهن السياسي، وهي "أزمة الأنظمة التمثيلية"، والإشارة هنا إلى المؤسسات الدولية التي ودون قيود تضع لنا تعريفها للحق والخير المشترك، إننا نملك الحق في الاختلاف، نملك أن نُعَري المفاهيم المؤذية للإنسانية ونستبدلها بالحقيقة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المجتمع الدولی فی الاختلاف
إقرأ أيضاً:
الوضع “مخزٍ” في غزة.. البابا فرنسيس يدعو المجتمع الدولي للعمل من أجل السلام والعدالة بالشرق الأوسط
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
وصف البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، أمس الأربعاء، الوضع في غزة بأنه “مخز” في إشارة إلى الأوضاع الإنسانية المتدهورة هناك.
وهذا التصريح، جاء في إطار تصعيد تصريحات البابا بشأن النزاع الإسرائيلي الفلسطيني الذي اندلع منذ أكثر من ثلاثة شهور، حيث اشتدت المعارك بشكل كبير منذ الهجوم الذي شنته حركة حماس في 7 أكتوبر 2023 على إسرائيل.
وأدان البابا فرنسيس، الذي كان دائمًا من دعاة السلام وحل النزاعات بالحوار، في تصريحات سابقة تصاعد العنف في غزة وأكد على ضرورة التوصل إلى حلول سلمية. لكن مع مرور الوقت، ازدادت المأساة الإنسانية في القطاع الفلسطيني نتيجة للغارات الجوية الإسرائيلية والهجمات الصاروخية، مما دفعه إلى التصعيد في تصريحاته.
في هذا السياق، أشار البابا إلى أن الوضع في غزة أصبح “مخز” ليس فقط بسبب عدد الضحايا من المدنيين، ولكن أيضًا بسبب تدمير البنية التحتية الأساسية وحرمان الناس من الغذاء والماء والمستلزمات الطبية.
وصرح البابا ان الدمار اخلف عنه عدة أمور، أولا الدمار الشامل: البابا وصف الوضع في غزة بأنه يتسم بالدمار غير المسبوق، بما في ذلك تدمير المستشفيات والمدارس والمنازل.
المدنيون ضحايا أساسية:
أكد البابا أن المدنيين، بمن فيهم الأطفال والنساء، هم الضحايا الرئيسيون لهذا النزاع، وأن العديد منهم يعانون من قصف عنيف وحصار خانق.
إدانة الانتهاكات:
ودعا البابا إلى وقف العنف والقتل المستمر، مشددًا على ضرورة احترام حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني من قبل جميع الأطراف.
الحاجة الملحة للمساعدات الإنسانية:
البابا طالب بفتح ممرات إنسانية لتقديم المساعدات للأهالي في غزة، مؤكداً أن آلاف الأرواح يمكن إنقاذها إذا تم السماح بالوصول إلى المستشفيات والملاجئ الآمنة.
دعوة للمجتمع الدولي:
دعا البابا المجتمع الدولي، بما في ذلك القوى الكبرى، إلى تحمل المسؤولية واتخاذ خطوات جادة لإنهاء الصراع، مؤكدًا على ضرورة وجود مبادرة سلام حقيقية من أجل التوصل إلى حل دائم للصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
وقد لاقت تصريحات البابا فرنسيس ردود فعل متباينة. من جانب، قوبلت بتقدير من قبل جماعات حقوق الإنسان والمجتمع المدني، الذين أشادوا بموقفه الحازم في مواجهة ما وصفوه بالانتهاكات الإسرائيلية في غزة.
فمن جانب آخر، اتهم بعض مؤيدي إسرائيل البابا بتوجيه اللوم بشكل غير عادل إلى الدولة العبرية في حين لم يوجه نفس الانتقادات لحركة حماس.
ويواصل البابا فرنسيس في تصريحاته الأخيرة، دعوته للمجتمع الدولي للعمل من أجل السلام والعدالة في الشرق الأوسط، ويركز على ضرورة إنهاء دائرة العنف والدمار المستمرة في غزة. إن هذا التصعيد في خطابه يوضح التزامه بالقيم الإنسانية والدينية التي يسعى لتعزيزها في جميع أنحاء العالم.