إسرائيل تزعزع بأفعالها النظام العالمي الليبرالي حتى النخاع
تاريخ النشر: 26th, October 2024 GMT
ترجمة: أحمد شافعي -
في حين أن مقتل يحيى السنوار زعيم حماس كان يمكن أن يوفر مخرجا من الصراع في غزة، فإن تعهدات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المستمرة بـ "نصر كامل" تجعل هذا يبدو بعيد الاحتمال.
فمفهوم "النصر الكامل" إشكالي للغاية. ففي كل مرة تعلن فيها إسرائيل عن إخلاء منطقة من حماس ثم تنسحب منها، تسارع حماس، التي نفذت الهجوم المروع على جنوب إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023، بالرجوع لإعادة فرض السيطرة على المكان.
ونتيجة لهذا، شهدنا تصعيدا إسرائيليا ملحوظا في شمال غزة في الأيام الأخيرة، كما شهدنا مناقشات كثيرة حول ما يعرف بـ"خطة الجنرال" التي يروجها بعض اليمينيين في حكومة نتنياهو.
جوهر الخطة التي أعدها الجنرال الإسرائيلي السابق جيورا إيلاند هو العدول عن المفاوضات، وتقسيم القطاع، وتخيير سكان شمال غزة البالغ عددهم أربعمئة ألف نسمة بين الرحيل والموت.
لا نعلم إن كان نتنياهو سوف يقر هذه الخطة رسميا. لكن يتردد أن القادة الإسرائيليين أبلغوا وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن هذا الأسبوع أنهم لن ينفذوها. ومع ذلك، فإنها تحظى بدعم واسع النطاق في أوساط النخبة السياسية والعسكرية في إسرائيل.
وقد أصدر الجيش الإسرائيلي بالفعل أوامر طرد لسكان شمال غزة. وقالت الحكومة إن من يبقى سوف يعد هدفا عسكريا ويُحرم من الطعام والماء.
في الوقت الذي تنفي فيه إسرائيل عرقلة المساعدات الإنسانية، قال برنامج الغذاء العالمي إنه المساعدات الغذائية لم تدخل شمال غزة لمدة أسبوعين في أوائل أكتوبر. وفي حين أن بعض المساعدات دخلت منذ ذلك الحين، فلا يزال الآلاف معرضين لخطر المجاعة وتفشي الأمراض التي يمكن الوقاية منها.
علاوة على ذلك، فإن العديد من الفلسطينيين، ومنهم المرضى وكبار السن والجرحى، غير قادرين على التحرك وما من مكان لديهم يذهبون إليه. ووجود مدن الخيام المكتظة غير المحمية في الجنوب ليس بالأمر المغري على الإطلاق.
تقول جماعات حقوق الإنسان الإسرائيلية إن الجيش تعمد منع المساعدات لإرغام السكان على مغادرة شمال غزة. وقد تتراجع إسرائيل الآن بضغط من الولايات المتحدة، التي أعطت حكومة نتنياهو مهلة ثلاثين يوما لزيادة كمية المساعدات التي تسمح بدخولها إلى غزة أو المخاطرة بفقدان تمويل الأسلحة الأمريكي
تقويض القواعد والأعراف الدولية
لقد شكلت حرب إسرائيل على غزة، والآن على لبنان، تحديا متكررا لأسس النظام الدولي الليبرالي القائم على القواعد الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، فضلا عن مبادئ القانون الدولي والدبلوماسية المتعددة الأطراف والديمقراطية والإنسانية.
وتتجلى معايير النظام العالمي الليبرالي في مؤسسات مختلفة، من قبيل:
• ميثاق الأمم المتحدة
• مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بقراراته الملزمة قانونا
• محكمة العدل الدولية في لاهاي
• اتفاقيات جنيف الحاكمة لقواعد الحرب
• الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
• نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وغير ذلك الكثير
في الآونة الأخيرة، قضت محكمة العدل الدولية بأن احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية غير قانوني وأمرت إسرائيل بالانسحاب. وردا على ذلك، قال نتنياهو إن المحكمة اتخذت "قرار الأكاذيب".
وفي قضية منفصلة، تقدمت جنوب إفريقيا بشكوى إلى محكمة العدل الدولية، زاعمة فيها أن إسرائيل قد ارتكبت إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني على مدار العام الماضي. وحكمت المحكمة العليا في العالم بشكل أولي بوجود قضية "معقولة" لإدانة الإبادة الجماعية، وقالت إن إسرائيل يجب أن تتخذ التدابير اللازمة لضمان منعها.
ولكن في هذه المرحلة، زعمت جماعات حقوق الإنسان وجماعات أخرى أن إسرائيل لم تمتثل لهذا الأمر، فقوضت بذلك إحدى المؤسسات الرئيسية في النظام العالمي الليبرالي.
يتعاظم هذا الأمر بحقيقة أن قليلا من الدول الديمقراطية الكبرى هي التي أبدت استعدادا لإدانة عدم امتثال إسرائيل للقانون الدولي في غزة ـ أو فعلت ذلك متأخرة ـ ناهيك عن التدخل بأي شكل ملموس.
فضلا عن ذلك، عجز مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ـ وذلك في المقام الأول بسبب حق النقض الذي تستعمله الولايات المتحدة ـ عن اتخاذ أي تدابير ملموسة لفرض قراراته ضد إسرائيل، وكذلك أحكام محكمة العدل الدولية.
وهذا هو الذي يؤكد التصورات واسعة النطاق للنفاق في ما يتصل بمحاسبة الدول الديمقراطية على مزاعم انتهاكات القانون الإنساني، مقارنة بالدول الأخرى التي لا تحظى برعاية القوى العظمى.
ففي أوائل تسعينيات القرن العشرين على سبيل المثال، أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإجماع قرارات عدة ضد غزو العراق للكويت، ثم أعقبت ذلك ـ بعد عقد من الزمن ـ قرارات تطالب نظام صدام حسين بالامتثال لتفويضات التفتيش على الأسلحة.
استخدمت الولايات المتحدة وحلفاؤها هذه القرارات ذريعة قانونية لغزو العراق. وفي نهاية المطاف، لم يتم العثور على أي أسلحة دمار شامل. ثم قال الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان في وقت لاحق إن غزو العراق كان غير قانوني ومخالفا لميثاق الأمم المتحدة.
ومع ذلك، فقد صدرت عشرات القرارات عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشأن إسرائيل ولم يتم تنفيذها. فضلا عن الولايات المتحدة استخدمت حق النقض ضد العديد من القرارات الأخرى.
وقد طلب المدعون العموميون في المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات اعتقال لنتنياهو ووزير الدفاع يوآف جالانت بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية (بالإضافة إلى العديد من قادة حماس، الذين ماتوا الآن).
لقد قوبلت مذكرات اعتقال نتنياهو وجالانت بالاستياء من بعض الساسة الغربيين. ومع ذلك، أشاد الغرب على نطاق واسع بأمر الاعتقال الذي أصدرته المحكمة الجنائية الدولية ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتن.
وعلاوة على ذلك، حاول الكونجرس الأمريكي فرض عقوبات على المحكمة بسبب مذكرة اعتقال نتنياهو، مما يؤكد مرة أخرى الطريقة الانتقائية التي تطبق بها الدول القومية القانون الدولي في كثير من الأحيان.
واقع الأمر هو أن إسرائيل وأنصارها غالبا ما يصفون أعمالها العسكرية بأنها دفاع متقدم عن العالم الديمقراطي في مواجهة قوى الاستبدادية، وبوصفها وسيلة لحماية نفسها من خصوم يريدون تدميرها. لكن المشكلة هي أن أفعال إسرائيل تناقض في كثير من الأحيان النظام العالمي الليبرالي الذي تدعي أنها تدافع عنه مناقضة صارخة، وبالتالي تقوض شرعيته.
لقد أدى عدم كبح جماح إسرائيل إلى اتهامات "بازدواج المعايير" فيما يتعلق بالقانون الدولي. وتوفر الولايات المتحدة وألمانيا لإسرائيل 99٪ من وارداتها من الأسلحة والغطاء الدبلوماسي. وبرغم أن ألمانيا توقفت عن الموافقة على صادرات أسلحة جديدة إلى إسرائيل، لكن البلدين يحظيان قطعا بمزيد من النفوذ الكفيل بوقف المذبحة في غزة إذا ما رغبا في ذلك.
لقد أصبح التفوق الأخلاقي الذي تخلى عنه الغرب في حالة يرثى لها بلا شك مع استمراره في تقويض مبادئ النظام العالمي الليبرالي. والسؤال هو: إذا سقط هذا النظام العالمي، فكيف سيبدو النظام العالمي الجديد؟
• تريستان دونينج أكاديمي متفرغ في كلية العلوم الاجتماعية بجامعة ماكواري
• مارتن كير محاضر متفرغ في قسم الحكومة والعلاقات الدولية بجامعة سيدني
• شانون برينكات محاضر أول في السياسة والعلاقات الدولية بجامعة صن شاين كوست.
** عن موقع آسيا تايمز
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة محکمة العدل الدولیة الولایات المتحدة أن إسرائیل شمال غزة
إقرأ أيضاً:
عودة الكاظمي: الأمل الكاذب الذي لا يحتاجه العراق
آخر تحديث: 9 مارس 2025 - 10:46 صبقلم: ياسين فواز ربما بدا رجوع مصطفى الكاظمي إلى بغداد في 25 فبراير 2025 عودة ظافرة. لكن هذه الحقيقة أقرب إلى الوهم السياسي. حان الوقت لكي يُعيد أولئك الذين يأملون أن ينقذ الكاظمي العراق النظر في تصوراتهم لأن عودته التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة تمثل محاولة يائسة من نخبة سياسية منقسمة من أجل إحياء إستراتيجية فاشلة، وسوف تفشل مرة أخرى. هُمّش الكاظمي لمدة عامين بعد أن استهدفت غارة بطائرة دون طيار منزله في عام 2021. وضمن أعداؤه السياسيون، بدعم من الدولة العميقة، انتهاء فترة ولايته بشكل مخز. وقررت الفصائل السياسية العراقية الآن إعادته بعد إزاحته في السابق. وتأمل أن يتمكن الكاظمي من إصلاح النظام السياسي العراقي المكسور وتحسين العلاقات مع واشنطن المعادية. لكن هذه الآمال لم تعد سليمة في عصر الرئيس الأميركي الحالي ترامب، ويمكن اعتبارها ساذجة. القضية لا تتعلق فقط بعدم أهمية الكاظمي سياسيا، بل لأن العراق الذي يعود إليه يعاني من تدهور عميق. وأصبح وضع العراق العالمي أكثر خطورة من أيّ وقت مضى. وتكافح حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني للحفاظ على مصداقيتها في التعامل مع واشنطن أو المنطقة. وتتفاقم الفوضى السياسية بسبب الأزمة الاقتصادية المستمرة. ويأمل الإطار التنسيقي، الذي همّش الكاظمي سابقا، أن يتمكن الآن من إحياء علاقات العراق مع الولايات المتحدة واستعادة بعض الاستقرار. لكن من الواضح أن الكاظمي لم يكن أبدا مهندس استقرار العراق، وكانت السياسة الخارجية العراقية بلا بوصلة تحت قيادته، حيث كانت واشنطن وطهران تتحكمان في البلاد. وكان حارسا أكثر منه قائدا. وربما تكون إدارته قد حققت بعض النجاحات الدبلوماسية، لكن التحولات الإقليمية الكبرى كانت خارجة عن سيطرته. صعود الفساد يجسد صعود الكاظمي النظام الفاسد في العراق. وكانت الصورة التي أبرزته شخصية مؤيدة للغرب مصطنعة، باستغلال خلفيته كصحافي غير معروف. ولم يكن الغرض من هذه الصورة تحقيق إصلاح ذي معنى. وكانت تلك في الحقيقة خطوة محسوبة لكسب تأييد الغرب. وكان خطابه في مجال حقوق الإنسان ووعوده الديمقراطية أدوات اعتمدها لتأمين السلطة. وعندما أصبح رئيسا للمخابرات العراقية في 2016 لم يكن ذلك بسبب قيادته الحكيمة ولكن لأنه كان ماهرا في التعامل مع المشهد السياسي العراقي الممزق. وبحلول 2020، أي خلال الاحتجاجات واسعة النطاق، تقرر اختيار الكاظمي رئيسا للوزراء للحفاظ على الوضع القائم، حيث لم يكن الهدف تغييره. وأكدت فترة ولايته أنه من نفس النظام الفاسد الذي ادّعى أنه يعارضه. وأصبحت جهود مكافحة الفساد في العراق تحت قيادته أدوات للتمكين السياسي. وكشفت المداهمات الليلية التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة أواخر 2020، التي نفذتها لجنة الأمر الديواني رقم 29، المعروفة باسم لجنة “أبورغيف”، عن أولوياته الحقيقية. واستهدفت المداهمات التي قادها الفريق أحمد طه هاشم، المعروف باسم أبورغيف، شخصيات عامة ومسؤولين ورجال أعمال متهمين بالفساد. ومع ذلك، كان الواقع أكثر قتامة. واندثر الخط الفاصل بين التحقيقات المشروعة والثأر السياسي. وبدت الاعتقالات أحيانا مصممة للقضاء على المنافسين أكثر من محاربة الفساد، حيث يهدد بعض المعتقلين المرتبطين بفصائل الداعمين الرئيسيين للكاظمي، وخاصة الزعيم الشيعي مقتدى الصدر. وأشعلت سرية اللجنة والإجراءات القانونية الغامضة الشكوك مع تشويه نزاهة الحملة. وأصبحت ادعاءات التعذيب والعنف الجنسي والاعتقال التعسفي شائعة. وتحوّل ما كان من المفترض أن يكون معركة ضد الفساد إلى أداة للسيطرة السياسية، مع تبني قوات الأمن العراقية الأساليب الوحشية. وشهد العراق بذلك إحياء الانتهاكات التي وعد الكاظمي بإنهائها تحت إشرافه. وأصبح المشهد واضحا، حيث لم يكن رئيس مجلس الوزراء يقود حركة إصلاحية بل يلعب نفس اللعبة القديمة. وتدهور الوضع عندما بدا أن الأمور لا يمكن أن تسوء أكثر. وفشل الكاظمي في معالجة أخطر الجرائم المالية في العراق. وشهدت البلاد تحت قيادته واحدة من أكبر عمليات السرقة، حيث اختفى مبلغ 2.5 مليار دولار. وأطلق على هذه الحادثة اسم “سرقة القرن”، حيث كان حجمها كبيرا، وكشفت عن تواطؤ النظام الذي وعد الكاظمي بإصلاحه. وكشف هذا الاختلاس الضخم، الذي سهّلته شركات وهمية وشارك في تغطيته مسؤولون رفيعو المستوى، عن الفساد الذي ادعى الكاظمي أنه يحاربه. ومهد إلغاء عملية تدقيق حسابات لجنة الضرائب، التي أذن بها مسؤولون مقربون من إدارته، الطريق لسرقة المليارات من عائدات الضرائب. وبرز اسم علي علاوي المتمتع بامتيازات سياسية. وتخرّج علاوي من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وحصل على ماجستير في إدارة الأعمال من جامعة هارفارد، وشغل منصب نائب رئيس الوزراء العراقي ووزير المالية في عهد الكاظمي. وعلى الرغم من هذه المسيرة، إلا أن الفترة التي قضاها في السلطة اتسمت بسوء الإدارة المالية. وبصفته وزيرا للمالية، كان علاوي مسؤولا عن حماية الموارد المالية العراقية. ولكن سرقة 2.5 مليار دولار حدثت تحت إشرافه، مما كشف عن الفساد الذي كان من المفترض أن يتصدى له. وتشير استقالته قبل انتشار الفضيحة كاملة إلى أنه كان يعرف ما سيأتي وقرّر حماية نفسه. مكّنت علاقاته بالنخبة العراقية من حمايته من المساءلة. وسمح له دوره في إدارة الشؤون المالية العراقية وعلاقاته السياسية بتجنب الاتهامات. وفي نظام تحمي فيه السلطة نفسها، تظهر حصانة علاوي أن النظام القضائي العراقي مصمم للسماح للأقوياء بالإفلات من العقاب بينما يعاني عامة الناس. وبينما شملت لائحة الاتهام آخرين أو حكم عليهم غيابيا، بقي علاوي سليما، مما يثبت أن الفساد في العراق متجذر ومحمي. وتبدو محاكمة المسؤولين من المستوى المتوسط محاولة لصرف الأنظار عن الجناة الفعليين. وبينما تقرر معاقبة المسؤولين ذوي الرتب الأدنى، لا تزال شخصيات قوية تتهرب من العدالة. ويؤكد هذا النظام المعيب أنه يحمي النخب على حساب تحقيق العدالة.وتعد سرقة 2.5 مليار دولار مثالا آخر على تاريخ الفساد الطويل في العراق، فهي تجسّد قضية أعمق داخل النظامين السياسي والقضائي اللذين يحميان الأقوياء بينما يهمشان الباقين. ولا تعالج المحاكمات العلنية والأحكام الصادرة بحق المسؤولين من المستوى الأدنى أسباب الفساد الجذرية أو تحاسب النخبة. وأصبحت ثقافة الإفلات من العقاب واضحة للشعب الذي يتزايد إحباطه. وتلقّى مسؤولون من مصلحة الضرائب أحكاما بالسجن، في حين أفلت مهندسو السرقة من العدالة، وكشفوا عن نظام مصمّم لحماية من هم في القمة. وليس هذا نظاما يسعى إلى تحقيق العدالة، فهو يحمي الأقوياء، حتى عندما تكون جرائمهم كبيرة مثل سرقة 2.5 مليار دولار.وإذا لم يصلح العراق نظامه السياسي والقضائي فستستمر هذه الفضائح. وسيفلت الأقوياء من العدالة، وسيعاني الشعب، وسيستمر الفساد. ولن تسود العدالة الحقيقية إلا عندما يواجه العراق فساده المتجذر ويحاسب من هم في السلطة على ما اقترفوه وعلى ما سيخلّف إجرامهم مستقبلا. وفي النهاية، كان الكاظمي أداة لإيران وحلفائها في بغداد. ووصل إلى السلطة لخداع الولايات المتحدة والقوى الغربية. وكانت صورته المصقولة التي برز من خلالها صديقا للغرب مجرد واجهة. وكان الكاظمي مجرّد دمية تخدم مصالح أولئك الذين يحركون خيوطها، فما الذي يستطيع أن يفعله الآن؟ ترى النخبة السياسية العراقية أن قيمته تكمن في قدرته على سحر واشنطن وإحياء العلاقات مع وسطاء السلطة الأميركيين. ولكن تحول المشهد السياسي في واشنطن يعني أن صيغة الكاظمي السابقة للتوازن بين الولايات المتحدة وإيران لن تكون مناسبة. ولا يعتبر فريق ترامب العراق حليفا، ولا الكاظمي شريكا موثوقا به. وأصبحت فكرة العودة إلى الوضع القائم القديم غير واقعية وتجاوزها الزمن.وشهدت الفترة التي سبقت عودة الكاظمي كشف تقرير مفاجئ أن العراق خسر قدرته على التعامل بفاعلية مع واشنطن وشركائها الإقليميين. وترك رحيل الشخصيات الديمقراطية الرئيسية من وزارة الخارجية الأميركية رئيس الوزراء محمد شياع السوداني غير قادر على العثور على مسؤولين جمهوريين مستعدين للانخراط معه. وفشل الفريق المكلف بإحياء العلاقات مع إدارة ترامب في إقامة اتصالات موثوقة، باستثناء الاجتماعات الاحتفالية مع المسؤولين غير المهتمين.وكانت “خسارة الاتصال” بارزة خلال فبراير حين حضر السوداني مؤتمر ميونيخ الأمني دون تأمين أيّ محادثات مهمة مع كبار المسؤولين الأميركيين، بما في ذلك نائب الرئيس جي دي فانس. عامل ترامب تأتي عودة الكاظمي خلال فترة صعبة. ومع رجوع دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ترتفع المخاطر بالنسبة إلى العراق. واتسمت سياسة ترامب الخارجية بالتشكيك في التحالفات التقليدية وتفضيل العمل أحادي الجانب. ولن تحابي إدارته بغداد. ومن غير المرجح أن تمنح الولايات المتحدة للعراق في عهد ترامب راحة من أزماته الاقتصادية والجيوسياسية. وليست إدارة ترامب الثانية مهتمة بالتعامل مع نظام سياسي عراقي متشابك مع إيران. أما فكرة كون الكاظمي يُشكّل حاجزا بين واشنطن وطهران، فهي مثيرة للضحك.وتميز ماضي الكاظمي كرجل دولة ورئيس سابق للمخابرات بحذقه لعبة التوازن، حيث نجح في الحفاظ على مسافة حذرة من الولايات المتحدة مع إبقاء إيران راضية عنه في نفس الوقت. لكن إدارة ترامب لن تتسامح مع لعبة التوازن هذه. ولن ينخدع فريق ترامب، المعروف بموقفه المتشدد تجاه إيران وازدرائه لوكلائها العراقيين، بوسيط كان منخرطا سابقا في اللعب على كلا الطرفين. وليست فكرة أن الكاظمي قادر على إحياء العلاقة المعدومة مع واشنطن واقعية ويمكن أن تؤدي إلى اعتماد حسابات خاطئة ذات عواقب وخيمة. ستفشل محاولات الكاظمي لإحياء علاقة العراق مع أميركا. ولا يمكن استرضاء إدارة ترامب بوعود الاستقرار السياسي أو الإشارات التصالحية من زعيم لا يبدو منتميا للنظام الإقليمي الجديد. وقد تراجعت قدرة العراق على التعامل الفعال مع واشنطن بسبب الإخفاقات السياسية التي تكبدها الكاظمي ومحمد شياع السوداني. ويغرق العراق في الفساد والسياسة الطائفية والميليشيات المدعومة من إيران، إضافة إلى معاناته من تعثر اقتصاده. ولا يحفز هذا الولايات المتحدة على التعامل مع بغداد.وعاد الكاظمي بينما يواجه العراق حسابات صعبة مع صعود ترامب من جديد. وسيجد العراق اليوم نفسه مضطرا للاختيار، فإما أن يبتعد عن إيران أو يواجه العواقب. وستكون الميليشيات المدعومة من إيران في العراق نقطة مهمة عند اتخاذ القرار. وتبرز ولاية ترامب الأولى أنه على استعداد لاتخاذ إجراءات حاسمة للقضاء على التهديدات التي يواجهها الأمن الأميركي. ولم تنس إيران ووكلاؤها العراقيون مقتل قاسم سليماني وأبومهدي المهندس خارج مطار بغداد في يناير 2020. وكانت تلك ضربة وافق عليها ترامب. وكان سليماني، الذي اعتُبر ذات يوم مهندس النفوذ الإقليمي الإيراني، هو العمود الفقري الذي أبقى القوات الوكيلة لطهران متماشية مع مصالح بلاده. ويؤكد اغتياله أن الشخصيات الأكثر حماية في إيران لم تكن محصنة من الضربات الأميركية.وخلق اغتيال سليماني فجوة كبيرة في هيكل النفوذ في إيران، وأرسل رسالة واضحة إلى الميليشيات المدعومة من طهران في العراق، مؤكدة لها أن الولايات المتحدة مستعدة لاتخاذ إجراءات حاسمة. وأثبتت الولايات المتحدة قدرتها على توجيه الضربات بدقة بدرجة غير مسبوقة. وأصبح يتعين على الميليشيات العراقية أن تواجه الواقع القاسي المتمثل في أنها قد تكون التالية. ومع ذلك، فإن التهديدات التي تواجهها الميليشيات العراقية تمتد إلى ما هو أبعد من العمل العسكري الأميركي. وقد أدت عمليات القتل الإسرائيلية التي استهدفت قادة حزب الله، بما في ذلك اغتيال زعيمها البارز حسن نصرالله، إلى تعزيز التنسيق بين الولايات المتحدة وإسرائيل. ومن خلال القضاء المنهجي على أهم قادة جماعات المقاومة المتحالفة مع إيران (كان يُعتقد في السابق أنه لا يمكن المساس بها)، قدمت إسرائيل نموذجا من المرجح أن تكرّره واشنطن في العراق.وتكشف الهجمات الإسرائيلية الأخيرة ضد قيادة حزب الله مدى ضعف وكلاء إيران الإقليميين عندما يواجهون حملة عسكرية جيدة التنسيق. وتعدّ هذه الضربات تذكيرا بأن مثل هذه الجماعات ليست محصنة، وأنها مسألة وقت فقط قبل تطبيق هذا النهج على الميليشيات العراقية التي عمل العديد منها لفترة طويلة بنفس الشعور بالحصانة الذي كان يتمتع به حزب الله ذات يوم. وشكلت الميليشيات المدعومة من إيران في العراق تحديا كبيرا للمصالح الأميركية في المنطقة لسنوات. ورغم أن هذه الجماعات ليست قوية مثل حزب الله، إلا أنها تظل خطيرة بنفس القدر. والآن، مع ضعف نفوذ حزب الله إلى حد كبير، أصبحت الميليشيات العراقية (التي تفتقر إلى الانضباط والتنسيق العملياتي) أكثر عرضة للتفكيك.وعلى النقيض من قيادة حزب الله التي ظلت لفترة طويلة تحمي نفسها في مخابئ شديدة التحصين تحت الأرض (كما كان نصرالله ومساعدوه)، لا يتمتع قادة الميليشيات العراقية بنفس المستوى من الأمن. ويتحركون بشكل أكثر انفتاحا، ما يجعلهم أهدافا أسهل. وإذا نجحت واشنطن وتل أبيب في مواءمة إستراتيجياتهما لتحييد هذه الجماعات، فإن العملية ستكون فعالة ومباشرة. وأصبحت المخاطر بالنسبة إلى الميليشيات العراقية غير مسبوقة. واستغلت عدم الاستقرار داخل الهياكل السياسية والعسكرية في العراق لممارسة أنشطتها دون عواقب تذكر لفترة طويلة. لكنها تواجه الآن جهدا أكثر تنظيما من الولايات المتحدة وإسرائيل الهادفتين إلى تدميرها. وإذا رفضت هذه الجماعات إلقاء أسلحتها، فإنها تخاطر بالإبادة الكاملة. والرسالة واضحة، الولايات المتحدة وإسرائيل عازمتان على تفكيك نفوذ إيران، وقد تجد الميليشيات العراقية نفسها قريبا في خط النار مباشرة.ولم يعد السؤال ما إذا كان سيتم استهداف هذه الميليشيات، بل متى. وعندما تأتي الضربات، فإنها ستكون سريعة ولا ترحم. ولم تعد الولايات المتحدة وإسرائيل تتصرفان بشكل منفصل. ولجهودهما المشتركة القدرة على شل البنية التحتية التي تعتمدها الميليشيات المدعومة من إيران في العراق، مما يترك هذه الجماعات بلا مجال كبير للمناورة. يقترب عصر نشاط الميليشيات غير الخاضع للرقابة من نهايته. وأوضحت الولايات المتحدة وإسرائيل أنهما ستواجهان وكلاء إيران أينما كانوا، ولن تكون الميليشيات العراقية استثناءً. وإذا استمرت هذه الفصائل في استفزاز المصالح الأميركية والإسرائيلية، فإنها ستجد نفسها حتما في صراع عنيف دون طريق للهروب. وتحت قيادة ترامب، لن يُسمح للعراق بعد الآن بالموازنة بين الولايات المتحدة وإيران. وتركز واشنطن بشكل منفرد على القضاء على نفوذ طهران في المنطقة، حيث تعد الميليشيات العراقية من بين أهدافها الرئيسية. وأصبح دور الكاظمي غير حيوي بعد أن كان يُنظر إليه على أنه جسر محتمل لتحسين العلاقات بين الولايات المتحدة والعراق.ولم تعد الولايات المتحدة مهتمة بالمفاوضات الدبلوماسية الدقيقة أو التسوية. وأصبح العراق على نحو متزايد ساحة معركة رئيسية في الصراع الأوسع بين الولايات المتحدة وإيران، وأصبحت إستراتيجية الكاظمي السابقة المتمثلة في تحقيق التوازن بين القوتين من الماضي. ومن غير المرجح أن تنجح محاولاته لاستعادة مكانة العراق لدى واشنطن في هذه البيئة الجيوسياسية المتغيرة.ولا يوجد حل دبلوماسي أو مناورة إستراتيجية يمكنها أن تحمي العراق من الصراع القادم. ولا تمثل عودة الكاظمي إلى بغداد إحياء للسياسة الخارجية العراقية، بل هي جهد يائس لإنقاذ النفوذ الضئيل الذي لا يزال يتمتع به الإطار التنسيقي في المنطقة التي تجاوزت تكتيكاتها القديمة. أسطورة “القبة الفولاذية” يعتقد البعض أن عودة الكاظمي ستكون ضمانة ضد التهديدات الخارجية، ولاسيما خطر العقوبات الأميركية في ظل إدارة ترامب. وقد روّج الكثيرون داخل النخبة السياسية العراقية لهذه الفكرة، وصوروا الكاظمي على أنه “قبة فولاذية” وقائية قادرة على صرف الضغوط الأميركية. لكن الواقع أقل طمأنة بكثير. ولا يقدم وجود الكاظمي أيّ دفاع حقيقي. إن فكرة أنه وحده القادر على منع العقوبات أو تغيير نهج واشنطن تجاه العراق تبقى غير واقعية.والكاظمي، رغم خلفيته الدبلوماسية، يفتقر إلى القوة السياسية اللازمة لإدارة العلاقة المتقلبة بشكل متزايد بين العراق والولايات المتحدة في ظل إدارة ترامب العائدة إلى المشهد الدولي. وتبقى القيادة الأميركية الحالية غير مهتمة بالحفاظ على المظاهر أو الانخراط في المفاوضات الدبلوماسية. وإذا واصل العراق مساره الحالي، فسوف تصبح العقوبات والتدخل العسكري تهديدات خطيرة، لا يمكن لسحر الكاظمي وتحالفاته السابقة التخفيف منها. وتسلط عودة الكاظمي الضوء على سوء تقدير آخر من جانب الطبقة السياسية العراقية التي لا تزال منفصلة عن الديناميكيات المتطورة في المنطقة. وفشل الإطار التنسيقي، الذي يسعى الآن للاستفادة منه، في فهم التحولات الأساسية التي تحدث في جميع أنحاء الشرق الأوسط وخارجه. وتشهد المنطقة تحولا سريعا، لكن النخبة السياسية في العراق تظل تركز اهتمامها على إستراتيجيات عفا عليها الزمن، وتبحث عن الزعامة القادرة على عكس اتجاه انحدارها.ورغم أن الكاظمي لعب ذات مرة دورا قياديا خلال فترة هادئة نسبيا في العراق، إلا أن تلك الحقبة قد انتهت. ولا ينتظر الشرق الأوسط العراق ليلحق بركبه. ويفرض المشهد السياسي المتغير (الذي يتسم بتطور واقع ما بعد الأسد في سوريا، والانهيار المستمر في لبنان، وظهور تحالفات جديدة في جميع أنحاء العالم العربي) تحديات ليس الكاظمي مستعدا للتعامل معها.وستفشل محاولاته لتصوير نفسه على أنه شريك موثوق للولايات المتحدة أو لدمج العراق في الشبكات السياسية الإقليمية في نهاية المطاف. لقد انتهى دوره. وليست عودته إلى بغداد علامة قوة، بل هي نتاج اليأس السياسي في نظام منقسم تنفد بدائله.وتبقى جاذبية الكاظمي لدى واشنطن ضعيفة، ويفتقر إلى القدرة على الإبحار في العراق عبر الأزمة الجيوسياسية المتفاقمة. ولا يتوقف مستقبل البلاد على زعيم أثبت فشله بالفعل، بل على جيل جديد قادر على التكيف مع الحقائق المتغيرة في الشرق الأوسط. ولن ينقذ الكاظمي العراق، فهو مجرد شخصية مؤقتة داخل نظام سياسي يتجه نحو طريق مسدود.