الصورة حدثٌ ميت مقفل في إطار، لكنه يحيا من خلال النظر فيه. وكثيرا ما كانت الصورةُ متهمة بالمبالغة الدعائية والإفراط في نقل الحقيقة أكثر مما يحتمل الواقع. بمعنى آخر تبدو لنا الصورة وكأنها عمل شيطاني موسوس، صمت مفتوح للتأويل وإعمالِ الخيال، مثار للغواية البصرية وأقرب إلى التضليل من قول المضمون الفعلي للأشياء ونقل الأحداث كما هي من غير «بهارات» بصرية تتجاوز التجريد إلى إضفاء لمسات التجميل أو التشويه، وخاصة حينما تُجهز الكاميرا على حدثٍ بلا شهود، أو حينما تنقض على ملامح شخص ميت لم يعد قادرا على الدفاع عن صورته أو تصويبها.
وفي التصوير، كما في الكتابة، يعتمد الأمر على الزاوية التي يختارها المصور لالتقاط صورته، قبل أن تبدأ العمليات الإخراجية التي تعمد إلى التلاعب بعناصر الصورة، من ضوء وظل وتباين لوني، وذلك من أجل توجيه المتلقي إلى معنى ما وتكريس إيحاءٍ معين حول مشهدٍ مُقتنصٍ في صورة ميتةٍ لا حول لها ولا قوة. ففي ذلك الانقطاع يعتمد المعنى النهائي للصورة على ذاكرة المتلقي، على إسقاطات الذاكرة التي يستبصر بها الرائي معالم المرئي المجففة تحت ومض الكاميرا الجارح، وعلى وعيه المسؤول عن بث الحياة في خلايا المرئي وإعادة تأويله ضمن سياقه المقتطف منه. ومن دون ذلك ستبقى الصورة اختزالا مُعدَما وقاسيا ينجرف نحو الموت.
لطالما كان القلق من الزمن وقدرته الرهيبة على المحو والطمس والنسيان هو الدافع الكامن خلف هوس الإنسان بالتصوير منذ القِدم. كان التصوير وما زال، منذ اكتشاف الأشعة الكاثودية حتى اختراع أحدث آلات التصوير الرقمي، من أنجع الوسائل التي تكشف عن شغف الإنسان بالخلود والبقاء شاهدا أو مشهودا لوقت أطول بعد الموت. وهكذا، عبر التصوير «يمسك الحي بالميت في صورة» كما يقول ريجيس دوبري في كتابه «حياة الصورة وموتها».
تعرض الصورة نفسها على أنها أثر، أثرٌ إما لشيء زائل أو لشيء مهدد بالزوال. إذن فالصورة بصرف النظر عن مضمونها وحياتها ليست أكثر من متحف للموت. فهلا تأملنا قليلا في الصور التي تحيط بنا في كل مكان؟ في الصور التي نحدق فيها كما تحدق فينا؟ سنرى بأن حياتنا عامرة بصور الموتى، سواء كانوا من الشخصيات العامة الأيقونية التي تتقاسمها ذاكرة الناس، أو كانوا من الأقرباء والأصدقاء الذين لن يتعرف أحد عليهم بعد الموت سوانا. إننا نتبادل النظر مع الموتى عبر الصور بلا انقطاع، دون أن ندرك بالضبط سر الفتنة الخفية التي تتلبسنا في هذه العملية، ساعةَ النظر.
صور الموتى على الجدران والرفوف وفي ظلام الأدراج وبين أوراق الكتب وفي صفحتنا على مواقع التواصل تستغيث بالأحياء. فلن تستنشق هذه الصور حياتها ولن تستعيد ألوانها إلا بالنظرة التي يمن بها الحي على الميت. وكأن النظر إلى صور الموتى ممارسةٌ تشبه إلى حد بعيد زيارة المقابر والوقوف على الأضرحة. تلك طريقة الأحياء في إحياء موتاهم؛ إهراق ماء النظرة الطويلة على صورهم كي لا يصيبها التبلد والجمود فيتضاعف موتها وتنطفئ إلى أبد الآبدين.
إنه حقا عالم من الصور، حيث يحتل الموتى مساحات متخيلة وغير متخيلة، ولا شك أنها أكبر بكثير من المساحات التي يحتلها الأحياء الذين لن يطول بهم الوقت حتى يشعروا بأن واقعهم بات يضيق بمزاحمة الموتى، معنويا وماديا، في الأفكار وعلى الأرض. وهي فكرة يضيؤها ريجيس دوبري في كتابه معللا علاقتها بالبصري: «لنتذكر أن مجتمعاتنا، إلى يومنا هذا، كانت واقعيا مكونة من الأموات أكثر من الأحياء. فخلال آلاف السنين ظل الماضي والغور في الزمن طافحا ومهددا الحقل البصري، وظل المخفي يمنح للظاهر قيمته».
ألذا نجد أن الأحياء كما يحيون بعض أمواتهم المفضلين، بالنظر والذكر، يسعون في نفس الوقت لاغتيال موتى آخرين، غير مرغوبين، ويتمنون لو يموتوا إلى الأبد بدءا بمحو صورهم أو أي تمثيل بصري معادل لهم؟ لكن عوالق الموتى وشواهدهم وأشياءَهم كثيرة لا تُحصى في عالمنا المُعاش. ويمكننا، من هذا المنطلق، أن نفسر الأخبار التي نسمعها بين حين وآخر عن تحطيم التماثيل وإزالة شواهد القبور ومحو المدافن بهدف تعمير حي سكني أو رصف شارع سريع، أو ربما بغية محو ذكرى رمز وطني انقلبت عليه دورة السلطة والمزاج السياسي الجديد.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الفلورايد المضاف: هل حان الوقت لإعادة النظر؟
يُعد الفلورايد من المواد التي أثارت جدلاً واسعاً فيما يتعلق بإضافته إلى مياه الشرب. ولعل حكمًا فيدراليًا في الولايات المتحدة، إلى جانب توصية إدارة ترامب بحجب الفلورايد عن مياه الشرب، يُمثل خطوة هامة نحو الحفاظ على صحة الأجيال القادمة.
لعقود طويلة، ظل الفلورايد يُضاف إلى المياه بهدف تقوية الأسنان والحد من تسوسها. ومع ذلك، ومع تزايد الدراسات العلمية التي تكشف عن الأضرار المحتملة لهذه المادة على الجهاز العصبي، وخاصةً على الأطفال، أصبح من الضروري إعادة النظر في هذه الممارسة.
أحد أبرز الأسباب التي تدعو إلى حجب الفلورايد، هو الضرر المحتمل على أدمغة الأطفال النامية. وجدت دراسات علمية حديثة: أن التعرُّض للفلورايد في المياه، قد يؤثر سلباً على التطور العقلي للأطفال، بما في ذلك تقليل معدل الذكاء. هذا القلق يعزّزه حكم القاضي الأمريكي إدوارد تشين، الذي أقرّ بأن مستويات الفلورايد في المياه العامة قد تشكِّل خطراً غير معقول، وهو أمر يتطلب إعادة تقييم من وكالة حماية البيئة. يُظهر هذا القرار أن السلطات القضائية، باتت أكثر وعيًا بالمخاطر الصحية المرتبطة بالفلورايد، رغم معارضة المؤسسات الطبية التقليدية.
من جانب آخر، يرى البعض أن الحكومة الأمريكية، عبر تاريخها، كانت تتبع سياسات ثابتة لدعم الفلورايد في المياه بشكل غير نقدي، متجاهلةً الأدلة المتزايدة حول ضرره المحتمل. وهذا ما أوضحه مايكل كونيت، المحامي الذي قاد حملة ضد إضافة الفلورايد، حين قال إن هناك “جمودًا مؤسسيًا” يجعل الوكالات تتجاهل الأدلة العلمية الجديدة، وتستمر في اتباع السياسات القديمة. هذا الجمود يظهر بوضوح في تعامل بعض المؤسسات، كجمعية طب الأسنان الأمريكية، التي أكدت مؤخرًا أن الحكم الفيدرالي لم يثبت بما يكفي أن الفلورايد ضار بصحة العامة، بالرغم من الأدلة العلمية المتزايدة التي تشير إلى العكس.
يعود هذا النقاش إلى مقال ليندا بيرنوبام، المديرة السابقة لبرنامج المواد السامة في وكالة حماية البيئة، الذي نُشر في عام 2020. في هذا المقال، قارنَت بيرنوبام بين اكتشاف سُمّية الرصاص، وتأثيره على الجهاز العصبي، وبين الفلورايد، متسائلةً: “متى يكفينا من المعرفة لإعادة النظر في المعتقدات القديمة؟”. لقد دعمت بيرنوبام فكرة أن الوقت قد حان لإعادة تقييم جدوى إضافة الفلورايد، تماماً كما جرى مع الرصاص سابقاً. تتساءل بيرنوبام بعمق حول مدى استعداد المجتمع لتبنّي رؤى جديدة بناءً على الأدلة العلمية، ممّا يوضح أن الدعوة لحجب الفلورايد ليست مجرد موقف شعبي عابر، بل هي دعوة علمية رصينة تعكس الحاجة إلى حماية صحة الإنسان.
في الختام، فإن توصية إدارة ترامب بحجب الفلورايد، تعكس نهجًا يستند إلى حماية الصحة العامة بشكل استباقي، والتوقف عن الممارسات التي قد تضر بالأجيال القادمة. حجب الفلورايد ليس موقفاً ضدّذ تحسين صحة الأسنان، بل هو خطوة نحو إيجاد وسائل آمنة، وأكثر فعالية لحماية صحة الإنسان، دون تعّريضه لمخاطر محتملة.
وهنا يبرز التساؤل: متى ستصدر هيئة الغذاء والدواء قراراً بوقف إلزامية إضافة الفلورايد في المياه المعلبة؟