لجريدة عمان:
2025-02-16@12:58:22 GMT

حتى لا ننسى مجلة «السِّراج» الثقافية

تاريخ النشر: 26th, October 2024 GMT

حتى لا ننسى مجلة «السِّراج» الثقافية

في أحد أيام شهر يونيو 2010م، اتصلت هاتفيًا بالأستاذ الباحث سالم بن محمد الغيلاني رحمه الله (ت: 2016م)، ممهِّدًا لإجراء حديث صحفي معه، حول مجلة «السِّراج» الثقافية، باعتباره مؤسسًا ومديرًا لها، فوافق الأستاذ واستقبلني في منزله الواقع في منطقة «الحيل الشمالية»، بمحاذاة الشارع المؤدي إلى مركز مدينة السيب، وكنت معه في الوقت الذي اتفقنا عليه، وكان الغيلاني يتكئ على عصاه في مشيته، ويعتمد عليها في جلوسه، وصحته لا تشفع له بالقيام ببذل مزيد من الجهد، يقول: أنا أمشي الآن على عكاز، وحركتي خارج المنزل محدودة، بين النادي الثقافي، أو المنتدى الأدبي، حتى لا أفوِّت على نفسي حضور الفعاليات الثقافية ما أسعفتني صحتي.

ثم أخذني في زيارة إلى مكتبته الزاخرة بأمهات الكتب، ذات الطبعات القديمة والنادرة، وتصفحت معه أعدادًا من مجلة «السِّراج»، وكان قد ترك مجموعة منها إهداءات لأصدقائه وزواره، كل إضبارة في داخلها اثني عشر عددًا من المجلة، وأهداني ملفا واحدًا منها، وحين تصفحته بعد عودتي وجدته يتضمن الأعداد الصادرة منها في عام 1993م.

في ذلك الحديث الذي أجريته مع الغيلاني، ونشرته في ملحق «شرفات» الثقافي بجريدة "عمان"، بتاريخ 20 يونيو 2010م، أباح عن أمنيته التي خالجت خياله في عمره المبكِّر، وهي إصدار مجلة ثقافية متخصصة، وأسماها «السِّراج»، يقول عنها: إنها أول مجلة أدبية عمانية صدرت في السلطنة، وأول المجلات الأدبية في منطقة الخليج، كان يطبعها في الكويت، ووصلت نسخها المطبوعة إلى القاهرة والعراق، ومختلف قصور الثقافة العربية عبر البريد.

بعد صدور أعداد من «السِّراج» في عام 1975م، توقفت المجلة بسبب انشغال الغيلاني بالعمل خارج السلطنة، فقد عمل سفيرًا للسلطنة في بلدان مختلفة، حتى عادت المجلة للصدور من جديد في بداية الستعينيات، بعد عودته واستقراره الوظيفي في مسقط، وبقيت المجلة متواصلة بصورة شهرية، حتى توقفت بعد ذلك.

في ذلك الحوار مع الأستاذ الغيلاني، أكد أنه أنفق لإصدار مجلته «السِّراج» مالا كثيرًا، وبذل من أجل أن تبقى المجلة جهدا كبيرًا، وقد تعاقب على رئاسة تحريرها شخصيات عمانية مثقفة مثل الشاعر المهندس سعيد بن محمد الصقلاوي، والأديب المرحوم عبدالله بن صخر العامري (ت: 2001م)، إلى جانب ابنة مؤسس المجلة فاطمة بنت سالم الغيلانية، عملت رئيسة تحرير في سنوات صدورها الثاني، قبل توقفها النهائي.

وأنا أستعيد ذلك الحوار مع الأستاذ الغيلاني، أتذكر لقاءاتي به سابقًا، في مقر «المنتدى الأدبي» بالسيب، حيث عمل في وزارة التراث والثقافة، مستشارًا للتراث الشعبي، ورئيسًا للمنتدى الأدبي حتى عام 1996م، والحديث عن التراث الشعبي يقود إلى اهتمامه البحثي، فقد جمع ديوان والده الشاعر محمد بن جمعة الغيلاني (ت: 1969م)، صدر بعنوان: «من أغاريد البحر والبادية»، كما قام بجمع وتحقيق ديوان شاعر صور الكبير سعيد بن عبدالله الفارسي (ت: 1990م)، والمعروف بلقب «ولد وزير»، وكنت قد التقيته صدفة في مسقط، وهو في سن الشيخوخة عام 1988م، وأبهرني ارتجاله لقصيدة شعرية، صدر ديوان ولد وزير عن دار أخبار اليوم عام 1985م، بعنوان: «الأدب الشعبي في بلاد الشِّراع»، وقد أهداني الأستاذ الغيلاني نسخة منه أحتفظ بها في مكتبتي، وللغيلاني أيضا كتب بحثية في الشعر الشعبي، منها: «أضواء على الشعر الشعبي العماني- دراسة ومختارات»، و«عفية الصَّواري»، وله بحث عن الشاعر «المتنبي» صدر بعنوان: «المتنبي في مرآة النقد الأدبي»، وكتب أخرى ذات صبغة بحثية وروح أدبية.

في هذا التذكار للباحث الشاعر والدبلوماسي سالم الغيلاني، والتقليب لمجلته الثقافية «السِّراج»، لا تتوفر لديَّ الأعداد الأولى منها، إلا ما أهدانيه مؤسسها، وهي الأعداد الصادرة في عام 1993م، كانت أعدادها الأولى يسيرة، وفي بدايات التجربة، بينما الأعداد التي صدرت في سنوات التسعينيات فتمثل ذروة اشتغالها الثقافي، وتساير زمنها الطباعي مع صدور الأعداد الأولى من مجلة «نزوى» في نوفمبر عام 1994م، كانت «السِّراج» مجلة المثقفين، يسعى لها الكتاب من داخل وخارج البلاد، مع نشرها لنصوص ومقالات لكتاب عمانيين.

من بين المساحات التي نشرتها مجلة «السِّراج» في بعض أعدادها، نقرأ «همسة» عبدالله بن صخر، ومساحة أخرى كتب فيها الأديب حفيظ بن سالم الغساني (ت: 2000م)، ناثرًا خواطره ومقالاته في سطورها، وأذكر لقاءً جمعني به في أحد المقاهي بمسقط، وهو المعلم الأول في المدرسة السعيدية بصلالة، وصاحب الأناشيد الوطنية، ومع أن الشيخوخة كانت تدبُّ في جسمه، إلا أنه كان يتمتع بحضور ذهني، وقدرة على تذكر الأحداث، وروحه مشبعة بالطيبة وحب الحياة والمطالعة والقراءة.

ومن كتَّاب «السِّراج» الدائمين كان قلم الكاتب علي بن محسن بن علي آل حفيظ (ت: 1997م)، يبوح في صفحة خاصة بعنوان: «هموم الخواطر»، كما كان الغيلاني يختم مجلته بمساحة «تأملات»، وفي الفترة التي شغلت فيها ابنته فاطمة الغيلانية منصب رئيسة تحرير للمجلة، كانت افتتاحية «السِّراج» موقعة باسم رئيسة التحرير.

مائة صفحة، تمثل تغذية ثقافية، من مجلة «السِّراج» التي كانت تصدر للقارئ شهريا، وأراها تشبه مجلة «الفيصل» الثقافية السعودية، في إخراجها وحجمها وتعدد مواضيعها، كتبت مواد السِّراج بقلم محررها، وشبكة من المراسلين والموزعين، وبأقلام كبار الكتاب خلال تلك الفترة، من عمان وخارجها، يكفي أن يكون من كتَّابها؛ الغساني وآل حفيظ وعبدالله بن صخر، وغيرهم من الأقلام العمانية، فقد أهدوها لباب أفكارهم، وثمرات عقولهم.

ولم تكن مجلة «السِّراج» ذات أبواب ثابتة، عدا بعض الأقلام التي كانت تُنشَر في كل عدد، إنما لكل عدد تبويبه الخاص، بحسب المواد التي تصل إلى هيئة التحرير من شبكة المراسلين، أو من إعداد مدير التحرير، تعاقب عليها كل من الصحفيَّيْن المصريَّيْن: مجدي العفيفي محمد رضوان، وهذا ما أكسبها صفة التعدد والتنوع، كانت أعداد المجلة لا تشبه بعضها، وفي الغالب يطغى عليها الصفة الثقافية، فهي بين المنوعات الفنية، والاستطلاعات الميدانية المحلية، ونصوص شعرية تتراوح بين القافية والنثر، وفي بعض الصفحات نرى لوحات من فن الكاريكاتير، وصفحات لأقلام القراء بعنوان «منتدى السراج»، وأخرى للشعر الشعبي كان يعدها الشاعر محفوظ الفارسي، ونشرت المجلة مقالات كثيرة لبعض الكتاب المفكرين والنقاد، مثل الناقد التونسي محمد حسن بدرالدين، الذي أقام بيننا في مسقط سنوات طويلة، وكان كثير الكتابة في الصحافة العُمانية، أشهرها جريدة عُمان، وقد قرأت له مقالة نشرها في العدد 18 من «السِّراج»، كتبها عن أعلام الأدب العالمي، ومواد كثيرة لا تسع المساحة إلى تقصِّيها.

خلال عقد التسعينيات الماضية، كانت مجلة «السِّراج»، مضيئة ووهاجة، طبعت صفحاتها ملونة، وفي ورق فاخر ومصقول، وحين أقلب بعض أعدادها اليوم، أرى فيها رسالة ثقافية كانت تسكن خيال مؤسسها، قدمتها المجلة لقارئها بأناقة وامتياز، ولعل هذه الكتابة تحفز إدارتها بتحقيق حلم مؤسسها، أن تبقى مجلته بعد رحيله سراجًا ثقافيًا لا ينطفئ، فقد نظرت إليه وهو يتأمل أعدادها في مكتبته المنزلية، وكأنما انهمر على صفحاتها نهر من الذكريات.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: کانت ت

إقرأ أيضاً:

الهوية الثقافية ومعركة البقاء والتجديد

يرى البعض أن العولمة الاقتصادية دخلت في مرحلة التآكل، أو أنها تعيش أزمة وجودية، إلا أن تأثير العولمة الثقافية ما زال كبيرا ويشكل خطرا على الهويات الوطنية الشرقية بشكل خاص التي تتقاطع في مناطق كثيرة مع الهويات الغربية التي تتبنى مسارات لا تنتمي للرؤية الأخلاقية في الحضارة الإسلامية والكثير من الحضارات الشرقية.

وساهم الانفتاح الاقتصادي والتدفق المعلوماتي في تعظيم الخطر على الثقافات الوطنية في دول العالم الإسلامي، هذا الأمر جعل سؤال الهوية الثقافية أكثر حضورا وإلحاحا مما كان عليه قبل عقود ماضية.

وتمثل الهوية الثقافية العمود الفقري لكل أمة، فهي مجموعة القيم والعادات والتقاليد واللغة والدين التي تمنح الشعوب طابعها المميز وتحدد مساراتها الحضارية، وإذا غابت هذه المفردات تفقد المجتمعات استقلالها المعنوي، وتذوب في ثقافات أخرى لا تعكس تاريخها ولا تعبر عن وجدانها الجمعي ولا منظومتها الأخلاقية. ويتحقق هذا الخطر في ظل غياب الوعي بأهمية الحفاظ على الهوية الوطنية وصيانتها وتعزيزها منذ وقت مبكر من عمر الأجيال الجديدة التي تبدو أكثر عرضة لفقد الانتماء الثقافي الوطني.. وهذا لا يعني أن علينا بناء جدران كبيرة بيننا وبين العالم.

والعولمة ليست ظاهرة أحادية الوجه؛ فقد فتحت آفاقا واسعة للتبادل الثقافي والتقارب بين الشعوب، لكنها في الوقت نفسه فرضت نمطا ثقافيا عالميا يميل إلى طمس الخصوصيات المحلية لصالح ثقافة مهيمنة.. وفي هذه المساحة يمكن رصد التحدي الحقيقي والذي يمكن التعبير عنه عبر طرح السؤال الآتي: كيف يمكننا أن نستفيد من العولمة دون أن نفقد أصالتنا؟ إن التأثير الثقافي الغربي، الذي تغذيه وسائل الإعلام وشركات التكنولوجيا العملاقة، يفرض أنماطا فكرية وسلوكية جديدة تزعزع كثيرا من الثوابت الثقافية المحلية. فتوحيد القيم الثقافية عالميا، وفقا للرؤية الرأسمالية، يضرب التنوع الثقافي ويؤدي إلى ضرب المنظومات الأخلاقية والقيمية والمبادئ والعادات والتقاليد والفنون، بل إن بعض اللغات مهددة بالضياع والانحسار.

على أن مواجهة خطر العولمة الثقافية لا يعني الانغلاق أو رفض الانفتاح! إننا بحاجة ماسة إلى وجود استراتيجية عربية واعية تعزز مناعة الهوية الثقافية، وتجعلها قادرة على التكيف دون الذوبان. إننا في حاجة ماسة للاحتفاء بمفرداتنا الثقافية وبلغتنا العربية ولهجاتها وبمنظوماتنا القيمية والأخلاقية وببناء الأسرة وتقويتها وتقوية كل أركان مجتمعاتنا وتطوير المحتوى الثقافي والإعلامي لمواجهة كل الهيمنات الغربية. لا بد من إنتاج محتوى ثقافي يعكس الهوية الوطنية، ويعزز الانتماء دون الانغلاق، مع تشجيع الفنون والآداب الوطنية التي تعكس روح الدولة الوطنية، وتجعلها درعا يحميها من الانصهار الثقافي.

هذا الأمر يحتاج إلى بناء توازن بين المحافظة على القيم الثقافية واستيعاب المستجدات المعرفية والتكنولوجية. الوعي النقدي هو السلاح الأهم في هذه المعركة، فالمجتمع الذي يمتلك قدرة تحليلية تجاه ما يُعرض عليه من أفكار وقيم يكون أكثر قدرة على انتقاء ما يتناسب مع ثقافته، وأقل عرضة للتأثر السلبي بتدفقات العولمة.

لم تكن العولمة في يوم من الأيام هي نهاية التاريخ لكنها -وهذا ما علينا الإيمان به- مرحلة من مراحل تطوره، وكما واجهت الأمم السابقة تحديات حضارية كبرى واستطاعت أن تحافظ على هوياتها، فإن القدرة على التكيف مع التحولات دون فقدان الأصالة تبقى السبيل الأمثل لمواجهة التحديات الراهنة.

إننا بحاجة أن ننظر إلى مطلب الحفاظ على الهوية الثقافية باعتباره مشروع تجديد مستمر، والتحدي الحقيقي لا يكمن في منع التغير، بل في توجيهه لخدمة الأمة، بحيث يكون التفاعل مع العولمة عامل إثراء لا أداة إلغاء، وامتلاك هُوية قوية لا يعني رفض العالم، بل يعني المشاركة فيه بوعي ورؤية تحفظ للأمم تميزها وخصوصيتها.

مقالات مشابهة

  • الهوية الثقافية ومعركة البقاء والتجديد
  • تحت رعاية رئيس مجلس الوزراء| "المصور" تحتفل بمئويتها الأولي في الأوبرا.. الثلاثاء
  • بالفيديو.. أسرى فلسطينيون يحرقون "ملابس لا ننسى ولا نغفر"
  • شاهد.. إسرائيل تجبر الأسرى الفلسطينيين على ارتداء ملابس كتب عليها "لن ننسى ولن نسامح"
  • المصور تحتفل بمئويتها الأولي في الأوبرا الثلاثاء المقبل
  • شاهد.. إسرائيل تجبر الأسرى الفلسطينيين على ارتداء ملابس كتب عليها "لن ننسى ولن نسامح".. عاجل
  • مجلة السُّودان في رسائل ومدونات (1918-2003)
  • مجلة أمريكية: هزيمة الحوثيين تتطلب استراتيجية أكثر من مجرد قتل زعيمهم (ترجمة خاصة)
  • إصدار جديد في المكتبة العمانية لراشد الغيلاني
  • وسائل إعلام مصرية: مصر وقطر نجحتا في تذليل العقبات التي كانت تواجه استكمال تنفيذ وقف إطلاق النار