سبق وأن قدمنا كبسولة فلسفية تحت عنوان "العقل والجنون".. رؤى فلسفية لطب الأمراض العقلية، نُشِرَتَ على موقع جريدة الدستور، كان مقصدنا خلالها أن نُقدم تعريفًا مبسطًا لظاهرة الجنون، وكيف ساهم ومهد هذا التصور الفلسفي لظهور طب الأمراض العقلية. إلا أننا وجدنا أن هذه الكبسولة جاءت مقتضبة بعض الشيء، لذلك سنفرد لفكرة الجنون خلال كبسولتنا هذه المساحة التي تستحقها، من خلال بيان وعرض آراء كلًا من فوكو ودريدا، كما تأتي هذه الكبسولة تنفيذًا لِمَا وعدنا به قارئنا الكريم في الأسبوع الماضي، بتقديم أهم إشكالية قدمها فوكو على طاولة البحث الفلسفي.
عزيزي القارئ إن أصالة كتاب "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" لفوكو، إنما تنحصر في منهجه الأركيلوجي الذي يرفض أن يقوم على سرد جاهز مُعد من ذي قبل، لكنه يهتم بالكشف عن شروط هذا السرد. يجب الإشارة هنا إلى رغبة فوكو في تقديم وصف لتاريخ الجنون وليس تاريخ الطب النفسي. كما أن فوكو في كتابه "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"، يولي اهتمامًا خاصًا بإبراز ظاهرة "القطعية" بين الخطابات الفلسفية من أجل تكوين مجال إبستمولوجي جديد.
وجاء دريدا ذاهبًا إلى أن فوكو في كتابه "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" لا يتحدث إلا عن الجنون ذاته، والجنون هنا ليس إلا عن تعبيرًا عن الذات، وهذه الذات إنما تشكل موضوع كتابه، فنراها تتحدث وتكتب عن الجنون بقلم المؤلف، وحينما يشرع فوكو في كتابة "تاريخ الجنون" فإنه يبدأ من لحظة ذاتية، معبرًا عن مشاعره الخاصة، دون الرجوع إلى التحليل النفسي للجنون، ويبدو قول فوكو بأن الجنون محفور في صميم الموجود البشري إنما يعني خلطه أو مزجه باللوغوس نفسه.
كما علق دريدا قائلًا: "إذا كان صحيحًا ما يقوله فوكو عن "تاريخ الجنون"، إلا انه ما من حديث عن الجنون إلا من خلال الدور الآخر للجنون وهو العقل الذي يحول دون جنون البشر، ومن هنا يمكن التمييز بين العقل والجون تمامًا، كما يتساءل دريدا عن السبب في اختيار فوكو للكوجيتو الديكارتي بالذات، رغم أن هناك أكثر من كوجيتو في هذا العصر، مشيرًا إلى أن الكوجيتو عند ديكارت قد يتضمن في إحدى جوانبه معني "التجربة"، وهي ليست أقل مغامرة أو إثارة من تجربة الجنون".
لذلك يري دريدا أنه على مدار كتاب "تاريخ الجنون" عند فوكو، تجري هذه العملية التي تربط الجنون بالصمت، أو بالكلمات التي تخلو من اللغة، او بدون ذات ناطقة، لقد همس بلغة تتكلم دون ذات ناطقة او دون مخاطب مغلق الفم، عائدًا إلى الصمت الذي لم يفارقه قط، كما أن كتابة " تاريخ الجنون" هي كتابة أركيولوجيا للصمت، ويتساءل دريدا: هل للصمت نفسه تاريخ؟ أليست الأركيولوجيا، وبخاصة أركيولوجيا الصمت هي مجرد مشروع، أو نظام، أو جملة، أو تركيب، أو أثر؟ أليست أركيولوجيا الصمت هي الإعادة الأكثر فاعلية وبراعة، أليست تكرارًا بالمعني الأشد غموضًا للكملة أو للفعل أو العمل الذي يقترف ضد الجنون؟
صديقي القارئ إن جميع الإيماءات أو الإشارات التي يسمح بها فوكو لنفسه، إنما هي وثائق مستعارة، دون استثناء، من المنطقة القانونية للمنع، أو الصد، أو الاعتقال، أو الحجز. ويعلق دريدا على ذلك بقوله: "إن كتاب "تاريخ الجنون" إنما ينطلق من لحظة ذاتية عند فوكو، من دعواه الخاصة، وليس من لغة العقل، أو لغة التحليل النفسي عن الجنون وهو مرسوم هنا بالبعد الذي يتسم بالنضال او الصراع معه، بالإضافة إلى البعد البلاغي عن الجنون منغلق، مغلوب على أمره، حيث يتشكل موضوعه، ويتم نفيه في آخر، وكان المراد هو خلطه باللوغوس أو العقل ذاته".
كما أمضى دريدا إلى أبعد من ذلك حين يقول بأن الأمر إذن يكمن في الخروج من هذا المأزق أو السذاجة التي كتب بها تاريخ الجنون الوحشي ذاته، بما هو كذلك قبل أن يتجمد في قبضة العقل الكلاسيكي، "أعني العقل الذي استخدمت تصوراته كأدوات تاريخية لإقصاد الجنون باللغة المهذبة والبوليسية للعقل".. إن إرادة الخروج من هذا المأزق عند فوكو هو أقوى ما في هذه المحاولة من جسارة وجاذبية، وأبلغ ما في مشروعه من جنون. كما رأي فوكو أن الجنون قد دخل عالم المقال في عصر النهضة مع كتابات مونتاني وإرازموس، حيث يري الأخير أن "المدخل إلى الحكمة لابد وأن يمر بالجنون"، وإذا كان عصر النهضة قد حرر صوت الجنون، إلا أن العصر الكلاسيكي قد ارتد به إلى الصمت.
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: محمد جادالله رؤى فلسفية جريدة الدستور عن الجنون
إقرأ أيضاً:
لا تقاس بالعقل البشري| مفتي الجمهورية: الإسراء والمعراج معجزة إلهية فاقت قوانين الطبيعة
اعتبر الدكتور نظير محمد عيّاد، مفتي الجمهورية ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، التشكيك في معجزة الإسراء والمعراج، أمرًا غريبًا، بعد كل هذه السنوات من المعرفة، بالآيات القرآنية، والأحاديث الشريفة، التي تؤكد حدوث هذه المعجزة.
وقال الدكتور نظير عيّاد خلال لقاء تليفزيوني سابق على قناة صدى البلد، إن التشكيك في الإسراء والمعراج أمر غريب نظرًا لوفرة الأدلة الشرعية والعلمية التي تثبت حدوثها، موضحًا أن الحديث عن معجزة الإسراء والمعراج ليس جديدًا، بل هو حديث قديم متجدد، يلاقي تأييدًا من البعض ومعارضة من آخرين. مشددًا على أنه لا يوجد دليل يثبت صحة التشكيك في هذه الحادثة، بل يعتمد البعض على حملات التشكيك التي تهدف إلى زعزعة الثقة في الدين.
وأضاف مفتي الجمهورية، أن القرآن الكريم تحدث صراحة عن الإسراء والمعراج في أكثر من موضع، وأشار إلى الآية الكريمة: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَىٰ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَىٰ}، وكذلك الآيات التي تحدثت عن المعراج في سورة النجم، التي وصفت الرحلة السماوية للنبي صلى الله عليه وسلم.
وأوضح، أن هناك من ينكر معجزة الإسراء والمعراج، استنادًا إلى الاستغراب العقلي، ولكن المعجزات في جوهرها تتجاوز حدود العقل البشري الذي لا يمكنه تفسير ما هو خارق للطبيعة، مؤكدًا أن المعجزات تُظهر قدرة الله، على التحكم في قوانين الطبيعة، ولا ينبغي أن تُقاس بالعقل البشري وحده.
وبيّن الدكتور نظير عيّاد، أن الإيمان بالغيب، لا يتطلب دليلًا ماديًا، بل يعتمد على الثقة بما جاء به القرآن والسنة، مضيفًا أن العقل له دور مهم في فهم الشريعة، لكنه لا يستطيع تفسير جميع الجوانب الغيبية في الدين، مثل معجزات الأنبياء، مؤكدًا أن العلاقة بين العقل والدين يجب أن تكون متكاملة، حيث يوجه العقل نحو فهم الدين بينما الدين يرفع حدود العقل في تفسير الغيبيات.
وأشار الدكتور عيّاد إلى أن بعض المشككين يبدأون بالهجوم على السُنّة النبوية لمحاولة إلغاء الكثير من معالم الدين، موضحًا أن السُنّة ليست مجرد روايات، بل هي تفسير وتوضيح للقرآن الكريم، ولا يمكن فهم الدين بشكل كامل دون الاستناد إلى الأحاديث النبوية.
وقال الدكتور نظير عيّاد، إن السنة تشرح وتوضح ما ورد في القرآن الكريم، مثل آيات الصلاة والزكاة وغيرها من الأحكام الشرعية التي لا يمكن تحديدها بدقة دون الرجوع إلى السنة، وأن التشكيك في السنة النبوية يؤدي إلى تقويض الدين بأسره، لأن السنة هي التي تفسر وتفصل ما جاء في القرآن.
وشدد مفتي الجمهورية على أهمية الإيمان بالمعجزات، كجزء من العقيدة الإسلامية، مؤكدًا أن الإسراء والمعراج هما جزء من المعجزات التي تؤكد قدرة الله اللا محدودة وأن أي محاولة لإنكارها تعتبر مخالفة للعقيدة الإسلامية.