بروفيسور حسن بشير محمد نور

تعتبر الحرب في السودان، المستمرة منذ أبريل 2023، أحد أبرز التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه البلاد، حيث خلفت تأثيرات مدمرة على جميع القطاعات الاقتصادية. عند تحليل هذه التأثيرات من حيث التكاليف المباشرة وغير المباشرة، نجد أن البنية التحتية، الإنتاج، العمالة، والاستثمار، جميعها تأثرت بشكل خطير، مما أدى إلى تفاقم الوضع المالي للدولة وإضعاف قدرتها على تحقيق اي مشاريع تنموية بل وحتي القدرة علي تسيير قطاعات الخدمات الاجتماعية الاساسية وأولها الصحة والتعليم.



من التكاليف المباشرة للحرب في السودان الخسائر الفورية في البنية التحتية، مثل تدمير الجسور، الطرق، محطات الطاقة، وشبكات الاتصالات والمنشات العامة والخاصة. هذه الأضرار تؤدي إلى تعطيل حركة التجارة والنقل، مما يؤثر سلباً على الاقتصاد. كما تسببت الحرب في توقف العديد من المصانع والمنشآت الإنتاجية، ما أدى إلى انخفاض كبير في معدلات الإنتاج المحلي.

من جهة أخرى، فإن تكاليف توظيف الموارد في الحرب تزيد من العبء المالي على الدولة. فالإنفاق العسكري المرتفع يمتص موارد كانت يمكن استخدامها في تحسين الخدمات العامة والبنية التحتية أو دعم قطاعات اقتصادية منتجة. هذه التكاليف العسكرية تشمل تجهيز القوات، توفير المعدات والذخائر والانفاق علي المقاتلين، ودعم العمليات اللوجستية، مما يؤدي إلى زيادة في النفقات الحكومية على حساب التوظيف الاقتصادي السليم للموارد.

أما التكاليف غير المباشرة للحرب فتتمثل في التأثير السلبي على سوق العمل والاستثمار. فقد فقدت أعداد كبيرة من المواطنين وظائفهم واعمالهم بسبب تعطيل الأعمال وتدمير المنشآت الاقتصادية والتهجير القسري ونهب الممتلكات أو تدميرها، مما يزيد من معدلات البطالة ويؤثر سلباً على دخل الأسر وقدرتها الشرائية. كذلك فإن حالة عدم الاستقرار الأمني والسياسي أدت إلى هروب رؤوس الأموال وتراجع الاستثمار الأجنبي والمحلي، ما يزيد من صعوبة استعادة النشاط الاقتصادي وقد أدى ذلك لتراجع مالي كبير ظهر من خلال الارتفاع الكبير لمعدلات التضخم وانخفاض سعر الصرف للجنيه السوداني.

كما أن تعطل الإنتاج وتراجع الصادرات يؤدي إلى انخفاض الإيرادات العامة، مما يعمق العجز المالي للدولة. هذا العجز يعقد الوضع المالي للسودان، الذي كان بالفعل يعاني من تحديات مالية كبيرة قبل اندلاع الحرب. التكاليف المالية المرتبطة بإعادة بناء ما دمرته الحرب تزيد من هذه الضغوط حتي بعد توقف الحرب.
يضاف ذلك بالطبع للتكاليف الاجتماعية غير القابلة للتقييم النقدي مثل تكاليف القتل والاصابات والاعاقات الجسدية والنفسية والعقلية. اضافة لتكاليف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والاغتصاب، التهجير القسري وعمالة الأطفال. فوق ذلك هناك تكاليف الاوبئة وتوطين الامراض الناتحة عن الاكتظاظ في اماكن النزوح وانعدام الادوية, وسؤ التغذية والجوع الذي وصل حد المجاعة السافرة في العديد من المناطق.

الحرب أدت ايضا إلى تدهور الإيرادات العامة بشكل حاد، حيث توقفت الأنشطة الاقتصادية، وتراجعت الإيرادات الضريبية والعائدات من القطاعات الحيوية مثل الذهب والصادرات الزراعية، انخفاض الإيرادات مع ارتفاع النفقات العسكرية جعل الدولة تعتمد أكثر على المغالاة في فرض الضرائب والرسوم مما رفع تكاليف المعيشة والانتاج، مما جعل الملايين في حالة كفاح يومي من أجل البقاء علي قيد الحياة . ادي ذلك إلى تراكم الأعباء المالية وفاقم من مشاكل الديون في الحاضر والمستقبل.

المكانة المالية للسودان تراجعت نتيجة فقدان الثقة في قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها المالية. تفاقمت اثار وتبعات الدين الخارجي والعجز المالي الذي يضع السودان في موقف مالي متدهور، ويزيد من اعتماد البلاد على المساعدات الدولية والمنح الطارئة، مما يحد من استقلاليتها الاقتصادية ويعطل قدرتها على تنفيذ سياسات تنموية مستقلة، بل وحتي التحكم في مواردها وادارتها بشكل يحقق المصالح الاستراتيحية ويصون الامن القومي حاضرا ومستقبلا.

في زمن التطور العلمي والتقني المتسارع
و (زمان الذكاء الاصطناعي الذي يكشف حتي المتخبأين خلف الاسماء المستعارة والحسابات الزائفة)،
تؤدي الحروب إلى تأخير عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية. بدلاً من الاستثمار في التعليم، الصحة، والبنية التحتية الرقمية ومواكبة التطور، ويتم توجيه الموارد تحت ضعط الحرب نحو مجالات غير إنتاجية. هذا الإهمال طويل الأجل للتنمية يعمق الفجوة بين السودان والدول الأخرى التي تستفيد من التقدم التكنولوجي ويؤدي كل ذلك على المدى الطويل، إلى تقليص الفرص الاقتصادية المتاحة للشباب وزيادة مستويات الفقر وعدم المساواة الاجتماعية، مما يفقد البلاد أهم مقومات التقدم المتمثلة في المورد البشري والاستثمار في التعليم والمعرفة.

في حال استمرار الحرب لفترة طويلة، من المتوقع أن يشهد الاقتصاد السوداني مزيداً من التدهور. استمرار التكاليف العسكرية وتدمير البنية التحتية سيؤدي إلى تعميق الأزمة المالية، وزيادة الاعتماد على الديون الخارجية في المستقبل. كما تؤدي لتراجع الاستثمار وهروب رؤوس الأموال وهجرة الشباب والعقول و سيجعل ذلك من الصعب استعادة مسار سريع للتنمية حتى بعد انتهاء الحرب.

ومع ذلك، فإن هناك بعض الأمل في أن يتمكن السودان من تحقيق تعافٍ اقتصادي إذا توقفت الحرب وجاءت حكومة رشيدة تحظي بالقبول الداخلي والخارجي (رغم صعوبة تحقيق هذه الأمنية) وتم استغلال الموارد الطبيعية بالشكل الامثل. قد يساهم دعم المجتمع الدولي وبرامج إعادة الإعمار في استعادة بعض القطاعات الاقتصادية لمسار التعافى. ومع ذلك، فإن هذا سيتطلب إرادة سياسية قوية واستقرار سياسي وامني وسياسات اقتصادية متوازنة تركز على التنمية المستدامة وإصلاح القطاع المالي والاقتصادي.

إن التحليل الاقتصادي المنطقي يستدعي التأكيد على أن الحرب لا تقتصر آثارها على الدمار الفوري، بل تمتد لتشمل أبعاداً اقتصادية واجتماعية عميقة. ومع استمرار الحرب، يزداد تعقيد الوضع الاقتصادي والاجتماعي، مما يستدعي حلولا سياسية تنتج من مشروع وطني متوافق عليه يكون مؤهلا لوقف الحرب ومعالجة اثارها ويؤدي لوقف نزيف الموارد والعمل على إعادة بناء الاقتصاد وتحقيق التنمية المستدامة. وهذا هدف يصعب تحقيقه دون مشروع وطني منكامل يعالج جذور الازمة القومية الشاملة التي يعاني منها السودان والتي اظهرتها الحرب الحالية في اوضح تجلياتها متعددة الأبعاد

mnhassanb8@gmail.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم

التقي البشير الماحي

في عام 1947، والسودان على مشارف الاستقلال، طالبت النخب الجنوبية بإقامة نظام فيدرالي يضمن لها مشاركة حقيقية في الحكم ويحول دون سيطرة الشماليين عليه. كان مطلبًا مشروعًا في ظل واقعٍ لم ينل فيه الجنوب نصيبه من التعليم والتنمية، بينما حظي الشمال ببعض المشاريع التي أقامها المستعمر. غير أن النخب الشمالية رفضت الفكرة خشية أن تمهّد الطريق لانفصال الجنوب.

تلك كانت الخطيئة الأولى التي ما زلنا ندفع ثمنها حتى اليوم. فقد مضى الجنوب بعد بحورٍ من الدماء والدموع، ولم نتعلم من التجربة سوى مزيد من التمرّس في سفك دماء بعضنا البعض. حتى وصلت النار إلى قلب السودان إلى الخرطوم نفسها فصفّق البعض للحرب منذ لحظتها الأولى، وظن آخرون أنها لن تدوم أكثر من ساعات فغادروا بيوتهم على عجل واكتفوا بما خف وزنه معتقدين أنها فقط أيام وتعود الخرطوم إلى ضجيجها.

منهم من صوّرها للناس كأنها أقدس حروبنا مع أن كل علماء الاجتماع قد بيّنوا ماهيّة الحرب وأخلاقها وكما قال الشاعر زهير بن أبي سلمى منذ قرون:

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم

وما هو عنها بالحديثِ المرجمِ

متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً

وتضرى إذا ضريتموها فتضرمِ

فتَعْرِكُكم عركَ الرَّحى بثفالِها…

ورغم أن تلك الأبيات قيلت في الجاهلية فإنها تصف بدقة ما عاشه السودانيون على يد عصابات الجنجويد ومن أشعلوا نار الفتنة واستثمروا في دمائنا.

لقد رفضت القوى المدنية الحرب منذ رصاصتها الأولى، لذلك لا مجال للمزايدة بانتهاكات أو انتصارات. فليست الحرب مباراة كرة قدم نفرح فيها بتسجيل الأهداف وتنتهي أشواطها في ميقات معلوم بل مأساة تُخلّف وراءها زوجة مرملة وطفلًا يتيمًا وأسرة فقدت عائلها.

ننتقل فيها من فقرٍ إلى حال أشد فقراً ومن وجعٍ إلى ما هو أوجع بينما يتصافح القادة في نهايتها على فلاش الكاميرات وبريقها وعينهم على سلطة شيدت على جماجم الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ ومن نجا من الشعب أصبح عالة يتكفف غيره.

الوسومالاستقلال التقي البشير الماحي الجنجويد الحرب الخرطوم السودان القوى المدنية جنوب السودان زهير بن أبي سلمى كرة قدم نظام فيدرالي

مقالات مشابهة

  • وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم
  • الرقابة المالية: التحول الرقمي يعزز الانخراط والشمول المالي بشكل كبير
  • الفنيش: الوضع المالي في ليبيا تجاوز حدود الأزمة الاقتصادية وأصبح تهديداً مباشراً لاستقرار الدولة
  • صراع الموانئ| الصين تشعل الحرب الاقتصادية بعد فرض رسوم على السفن الأمريكية
  • خبير: المؤشرات الاقتصادية للدولة تتجه نحو ارتفاع مستوى المعيشة للمواطن
  • البرلمان الأوروبي يُعلن الحرب الاقتصادية.. حظر كامل للطاقة الروسية بحلول عام 2027
  • وزير المالية: خطة جديدة لإدارة الدين واستمرار الإصلاحات الاقتصادية
  • إنتاج وفير من فاكهة الرمان يعزّز المكانة الزراعية لمنطقة القصيم
  • تصاعد الحرب التجارية بين أمريكا والصين يهزّ وول ستريت ويشعل التوترات الاقتصادية العالمية
  • مساعد وزير المالية: صندوق استقرار القطاع المالي أداة لتعزيز مرونة الأنظمة المالية في الدول